اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (115)

قوله : عز وجل : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } : جملة مرتبطة بقوله : { مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ ، وسَعَى في خَرَابِهَا } .

يعنى : أنه إن سعى في المنع من ذكره تعالى وفي خراب بيوته ، فليس ذلك مانعاً من أداء العبادة في غيرها ؛ لأن المشرق والمغرب ، وما بينهما له تعالى ، والتنصيص على ذكر المشرق والمغرب دون غيرها لوجهين :

أحدهما : لشرفهما حيث جعلا لله تعالى .

والثاني : أن يكون من حذف المعلوم للعلم ، أي : لله المشرق والمغرب وما بينهما ، كقوله : { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] أي والبرد ؛ وكقول الشاعر : [ البسيط ]

748- تَنْفِي يَدَاهَا الحَصَى في كُلِّ هاجِرَةٍ *** نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيارِيفِ

أي : يداها ورِجْلاَها ؛ ومثله : [ الطويل ]

749- كأَنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا *** إذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أَعْسَرَا

أي : رجلُها ويدَاها .

وفي المشرق والمغرب قولان :

أحدهما : أنهما اسما مكان الشروق والغروب .

والثاني : أنهما اسما مصدر ، أي : الإشراق والإغراب ، والمعنى : لله تعالى تولي إشراق الشمس من مشرقها ، وإغرابها من مغْربها ، وهذا يبعده قوله تعالى : " فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ " ، وأفرد المشرق والمغرب إذ المراد ناحيتاهما ، أو لأنهما مصدران ، وجاء المَشَارق والمغارب باعتبار وقوعهما في كل يوم ، والمشرقين والمغربين باعتبار مشرق الشتاء والصيف ومغربيهما ، وكان من حقهما فتح العين لما تقدم من أنه إذا لم تنكسر عين المضارع ، فحق اسم المصدر والزمان والمكان فتح العين ، ويجوز ذلك قياساً لا تلاوة .

قوله تعالى : " فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ " " أَيْنَ " هنا اسم شرط بمعنى " إنْ " و " ما " مزيدةٌ عليها ، و " تولوا " مجزوم بها .

وزيادة " ما " ليست لازمةً لها ؛ بدليل قوله : [ الخفيف ]

750- أَيْنَ تَضْرِبْ بِنَا العُدَاةَ تَجِدْنَا *** . . . 

وهي ظرف مكان ، والناصب لها ما بعدها ، وتكون اسم استفهام أيضاً ، فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام ك " مَنْ " و " مَا " .

وزعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة ، وهي مبنية على الفتح لتضمنها معنى حرف شرط أو الاستفهام .

وأصل تُولُّوا : تُولِّيوا فأعل بالحذف ، وقرأ الجمهور : " تُوَلُّوا " بضم التاء واللام بمعنى تستقبلوا ، فإن " ولى " وإن كان غالب استعمالها أدبر ، فإنها تقتضي الإقبال إلى ناحية ما .

تقول : وليت عن كذا إلى كذا ، وقرأ الحسن : " تَوَلَّوا " بفتحهما .

وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون مضارعاً ، والأصل : تتولوا من التولية ، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً ، نحو : { تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ } [ القدر : 4 ] .

والثاني : أن يكون ماضياً ، والضمير للغائبين ردّاً على قوله : " لَهُمْ في الدُّّنْيَا ولهم في الآخرة " فتتناسق الضمائر .

وقال أبو البقاء : والثاني : أنه ماض والضمير للغائبين ، والتقدير : أينما يَتَولّوا ، يعني : أنه وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى ثم قال : وقد يجوز أن يكون ماضياً قد وقع ، ولا يكون " أين " شرطاً في اللفظ ، بل في المعنى ، كما تقول : " ما صنعتَ صنعتُ " إذا أردت الماضي ، وهذا ضعيف ؛ لأن " أين " إما شرط ، أو استفهام ، وليس لها معنى ثالث . انتهى وهو غير واضح .

قوله : { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } الفاء وما بعدها جواب الشَّرْط ، فالجملة في محلّ جزم ، و " ثَمَّ " خبر مقدم ، و " وَجْهُ اللهِ " رفع بالابتداء ، و " ثَمَّ " اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مثل : هنا وهنَّا بتشديد النون ، وهو مبني على الفتح لتضمّنه معنى حرف الإشارة أو حرف الخطاب . قال أبو البقاء : لأنك تقول في الحاضر هنا وفي الغائب هناك ، وثَمَّ ناب عن هناك [ وهذا ليس بشيء ] .

وقيل : بني لشبهه بالحَرْفِ في الافتقار ، فإنه يفتقر إلى مشار إليه ، ولا ينصرف بأكثر من جره ب " من " .

ولذلك غَلِط بعضهم في جعله مفعولاً في قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ } [ الإنسان : 20 ] ، بل مفعول " رَأَيْتَ " محذوف .

فصل في نفي التجسيم

وهذه الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه ؛ لأنه لو كان الله تعالى جسماً ، وله وجه جسماني لكان مختصًّا بجانب معين وجهةٍ معينة ، ولو كان كذلك لكان قوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } كذباً ، ولأن الوجه لو كان محاذياً للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذياً للمغرب أيضاً ، وإذا ثبت هذا ، فلا بد فيه من التأويل ، ومعنى " وَجْهُ اللهِ " جهته التي ارتضاها قِبْلَةً وأمر بالتوجه نحوها ، أو ذاته نحو :

{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، أو المراد به الجَاهُ ، أي : فَثَمَّ جلال الله وعظمته من قولهم : هو وجه القول ، أو يكون صلةً زائداً ، وليس بشيء .

وقيل : المراد به العمل قاله الفراء ؛ وعليه قوله : [ البسيط ]

751- أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبَّ العِبَادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ

[ قوله تعالى : " وَاسِع عَليم " أي : يوسع على عباده في دينهم ، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم .

وقيل : واسع المغفرة .

فصل في سبب نزول الآية

في سبب نزول الآية قولان :

أحدهما : أنه أمر يتعلّق بالصلاة . والثاني : في أمر لا يتعلق بالصلاة .

فأما القول الأول فاختلفوا فيه على وجوه :

أحدها : أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال " بيت المقدس " إلى الكعبة ، فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب ، وجميع الجهات كلّها مملوكة له سبحانه وتعالى ، فأينما أمركم الله عزّ وجلّ باستقباله فهو القبلة ؛ لأن القبلة ليست قبلة لذاتها ؛ بل لأن الله تعالى جعلها قبلة ، فهو يدبر عباده كيف يريد ] وكيف يشاء فكأنه تعالى ذكر ذلك بياناً لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر .

وثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما لما تحولت القِبْلَة عن " بيت المقدس " أنكرت اليهود ذلك ، فنزلت الآية ونظيره قوله تعالى : { قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 142 ] .

وثالثها : قال أبو مسلم : إن اليهود والنَّصَارى كل واحد منهم قال : إنَّ الجنة له لا لغيره ، فردَّ الله عليهم بهذه الآية ؛ لأن اليهود إنما استقبلوا " بيت المقدس " ؛ لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصَّخرة والنصارى استقبلوا المشرق ؛ لأن مريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ، فولدت عيسى عليهما الصلاة والسلام هناك ، فردَّ الله عليهم أقوالهم .

ورابعها : قال قتادة وابن زيد : إن الله تعالى نسخ " بيت المقدس " بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية ، فكان للمسلمين أن يتوجّهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة ، إلاَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار التوجّه إلى " بيت المقدس " ، مع أنه كان له أن يتوجّه حيث شاء ، ثم إنه تعالى نسخ ذلك بتعيين الكعبة .

وخامسها : أن المراد بالآية من هو مشاهد للكعبة ، فإنّ له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد .

[ وسادسها : ما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل واحد منا مسجده حجارة موضوعة بين يده ، ثم صلينا فلما أصبحنا ، فإذا نحن على غير القِبْلَةِ ، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهذا الحديث يدلّ على أنهم نقلوا حينئذٍ إلى الكعبة ؛ لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ " بيت المقدس " ] .

وسابعها : أن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجّه به راحلته .

وعن سعيد بن جبر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : " إنما نزلت هذه الآية في الرَّجل يصلي إلى حيث توجّهت به راحلته في السفر{[1742]} " .

قال ابن الخطيب : فإن قيل : فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصَّواب ؟

قلنا : إن قوله تبارك وتعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } مشعر بالتخيير ، والتخيير لا يَثْبُت إلا في صورتين :

إحداهما : في التَّطوع على الراحلة .

وثانيتهما : في السفر عند تعذُّر الاجتهاد لظلمة أو لغيرها ؛ لأن في هذين الوجهين المصلّي مخير .

فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير ، والذين حملوا الآية على الوجه الأول ، فلهم أن يقولوا : إن القِبْلَةَ لمّا حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس ، فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صواباً في ذلك الوقت ، والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت ، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القِبْلَتَين في المأذون فيه ، فَثَمَّ وجه الله ، قالوا : وحمل الكلام على هذا الوجه أولى ؛ لأنه يعم كل مصلٍّ ، وإذا حمل على الأول لا يعم ؛ لأنه يصير محمولاً على التَّطوع دون الفرد ، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر ، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه ، فهو أولى من التخصيص ، وأقصى ما في الباب أن يقال : إنَّ على هذا التأويل لا بد أيضاً من ضرب تقييد وهو أن يقال : " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا " من الجهات المأمور بها { فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } إلاَّ أن هذا الإضمار لا بد منه على كلّ حال ؛ لأنه من المحال أن يقول تعالى : " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا " بحسب ميل أنفسكم { فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } ، بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناه ، وإذا كان كذلك ، فقد زالت طريقة التخيير .

القول الثاني : أنَّ هذه الآية نزلت في أمر سوى الصَّلاة وفيه وجوه :

أولها : أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي ، وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا ، ثم إنهم أينما ولُّوا هاربين عني وعن سلطاني ، فإن سلطاني يلحقهم ، [ وتدبيري ] يسبقهم ، فعلى هذا يكون المراد منه [ سعة القدرة والسلطان ] وهو نظير قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ } ، وقوله : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ] ، وقوله : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ طه : 98 ] .

وثانيها : قال قَتَادة : إن النبي عليه السلام قال : " إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ " ، قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم فنزل قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ } [ آل عمران : 199 ] فقالوا : إنه كان لا يصلي [ إلى القِبْلَة ، فأنزل الله تعالى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } ومعناه أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب ، وما بينهما كلها لي ، فمتى وجّه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني ، ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان هذا عذراً للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق ، وهو نحو قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] .

وثالثها : قال الحسن ، ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : لما نزل قوله سبحانه وتعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قالوا : أين ندعوه ؟ فنزلت هذه الآية .

ورابعها : قال علي بن عيسى رحمه الله : إنه خطاب للمؤمنين ألا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله تعالى عن ذكره حيث كنتم من أرضهم ، فللَّه المشرق والمغرب ، والجهات كلها .

وخامسها : زعم بعضهم أنها نزلت في المجتهدين الوافدين بشرائط الاجتهاد فهو مصيب ] .


[1742]:- أخرجه مسلم (1/195) وأحمد (7414- شاكر) والطبري (2/530) والبيهقي في السنن 2/4 عن ابن عمر- رضي الله عنهما-.