اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (114)

" مَنْ " استفهام في محلّ رفع بالابتداء ، و " أظْلَمُ " أفعل تفضيل خبره ، ومعنى الاستفهام هنا النفي ، أي : لا أحد أظلم منه ، ولما كان المعنى على ذلك أورد بعض الناس سؤالاً ، وهو أن هذه الصيغة قد تكررت في القرآن

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى } [ الأنعام : 21 ] { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ }

[ السجدة : 22 ] { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ } [ الزمر : 32 ] كل واحدة منها تقتضي أن المذكور لا يكون أحد أظلم منه ، فكيف يوصف غيره بذلك ؟ والجواب من وجوه :

أحدها : وهو أن يخصّ كل واحد بمعنى صلته كأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ، ولا أحد من الكَذّابين أظلم ممن كذب على الله ، وكذلك ما جاء منه .

الثاني : أن التَّخصيص يكون بالنِّسْبة إلى السَّبْق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكاً طريقهم في ذلك ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية ونحوها .

الثالث : أن هذا نفي للأظلمية ، ولما كان نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظَّالمية لم يكن مناقضاً ؛ لأن فيها إثبات التسوية في الأظلميّة ، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد مما وصف بذلك يزيد على الآخر ؛ لأنهم متساوون في ذلك ، وصار المعنى : ولا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى وممن ذكر ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدلّ ذلك على أن أحد هؤلاء يزيد على الآخر في الظلم ، كما أنك إذ قلت : " لا أحد أفقه من زيد وبَكْر وخالد " لا يدلّ على أن أحدهم أَفْقَهُ من الآخر ، بل نفيت أن يكون أحد أفقه منهم ، لا يقال : إن من منع مساجد الله ، وسعى في خَرَابها ، ولم يفتر على الله كذباً أقلّ ظلماً ممن جمع بين هذه الأشياء ، فلا يكونون متساوين في الأظلمية إذ هذه الآيات كلها في الكُفَّار ، وهم متساوون في الأظلمية إذْ كانت طرق الأظلمية مختلفة .

و " مَنْ " يجوز أن تكون موصولة ، فلا محلّ للجملة بعدها ، وأن تكون موصوفةً فتكون الجملة محلّ جار صفة لها .

و " مَسَاجِدَ " مفعول أول ب " منع " ، وهي جمع مسجد ، وهو اسم مكان السجود ، وكان من حقه أن يأتي على " مَفْعَل " بالفتح لانضمام عين مضارعه ، ولكن شذّ كسره ، [ كما شذّت ألفاظ تأتي ] .

وقد سمع " مَسْجَد " بالفتح على الأصل .

قال القرطبي رحمه الله : قال الفَرَّاء : كل ما كان على " فَعَلَ يَفْعُل " ، مثل دَخَلَ يَدخُل ، فالمَفْعَل منه بالفتح اسماً كان أو مصدراً ، ولا يقع فيه الفرق ، مثل : دخل يَدْخُل مَدْخَلاً ، وهذا مَدْخَلُه ، إلاَ أحرفاً من الأسماء ألزموها كسر العين ، من ذلك : المَسْجِد ، والمَطْلع ، والمَغْرِب ، والمَشْرِق ، والمَسْقِط ، والمَفْرِق ، والمْجزِر ، والمَسْكِن ، والمَرْفِق ، من : رفَقَ يَرْفُق ، والمَنْبِت ، والمنْسك مَنْ : نَسَكَ يَنْسُك ، فجعلوا الكَسر علامة للاسم .

والمَسْجَد بالفتح جَبْهَةُ الرجل حيث يصيبه مكان السجود .

قال الجوهري رحمه الله تعالى : " الأعضاء السَّبعة مَسَاجد ، وقد تبدل جيمه ياء ، ومنه : المَسْجد لغة " .

قوله تعالى : " أَنْ يُذْكَرَ " ناصب ومنصوب ، وفيه أربع أوجه :

أحدها : أنه مفعول ثاني ل " منع " ، تقول : منعته كذا .

والثاني : أنه مفعول من أجله أي : كراهة أن يذكر .

وقال أبو حيان : فتعين حذف مضاف أي دخول مساجد الله ، وما أشبهه .

والثالث : أنه بدل اشتمال من " مَسَاجِدَ " أي : منع ذكر اسمه فيها .

والرابع : أنه على إسقاط حرف الجر ، والأصل من أن يذكر ، وحينئذ يجيء فيها مذهبان مشهوران من كونها في محلّ نصب أو جر ، و " في خرابها " متعلق ب " سعى " .

واختلف في " خراب " فقال أبو البقاء : " هو اسم مصدر بمعنى التخريب كالسَّلام بمعنى التسليم ، وأضيف اسم المصدر لمفعوله ؛ لأنه يعمل عمل الفعل " .

وهذا على أحد القولين في اسم المصدر ، هل يعمل أو لا ؟ وأنشدوا على إعماله : [ الوافر ]

746- أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي *** وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا

وقال غيره : هو مصدر : خَرِبَ المكان يَخْرُبَ خراباً ، فالمعنى : سعى في أن تَخْرب هي بنفسها بعدم تَعَاهدها بالعِمَارة ، ويقال : منزل خَرَاب وخَرِب ؛ كقوله : [ البسيط ]

747- ما رَبْعُ مَيَّةَ مَعْمُوراً يَطِيفُ بِهِ *** غَيْلاَنُ أَبْهَى رُباً مِنْ رَبْعِها الخَرِبِ

فهو على الأول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل .

فصل في تعلق الآية بما قبلها

في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

فأما من حملها على النصارى ، وخراب " بيت المقدس " قال : تتصل بما قبلها من حيث النصارى ادّعوا أنهم من أهل الجنة فقط . فقيل لهم : كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد ، والسعي في خرابها هكذا ؟ وأما من حمله على المسجد الحرام ، وسائر المساجد ، قال : جرى ذكر مشركي العرب في قوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } .

وقيل : [ ذم جميع الكفار ] ، فمرة وجه الذَّنب إلى اليهود والنصارى ، ومرة إلى المشركين .

فصل فيمن خرب " بيت المقدس "

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : [ إن ملك النصارى غزا " بيت المقدس " فخربه ، وألقى فيه الجيف ، وحاصر أهله ، وقتلهم ، وسبى البقية ، وأحرق التوراة ] ، ولم يزل " بيت المقدس " خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر .

وقال الحسن وقتادة والسدي : نزلت في بخت نصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس ، وأعانه على ذلك [ الرومي وأصحابه النصارى من أهل " الروم{[1740]} " .

قال السدي : من أجل أنهم قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام .

قال قتادة : حملهم بغض اليهود على معاونة بخت نصر البابلي المجوسي ] .

قال أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى في " أحكام القرآن " : هذان الوَجهان غلطان ؛ لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد " بختنصّر " كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل ، والنصارى كانوا بعد المسيح ، فكيف يكونون مع بختنصّر في تخريب " بيت المقدس " ؟

وأيضاً فإن النصارى يعتقدون في تعظيم " بيت المقدس " مثل اعتقاد اليهود وأكثر ، فكيف أعانوا على تخريبه .

وقيل : نزلت في مشركي العَرَبِ الذين منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الدعاء إلى الله ب " مكة " وألجئوه إلى الهِجْرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام ، وقد كان الصديق رضي الله عنه بنى مسجداً عند داره ، فمنع وكان ممن يؤذيه وِلْدَان قريش ونساؤهم .

وقيل : إن قوله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [ الإسراء : 110 ] نزلت في ذلك ، فمنع من الجهر لئلا يؤذى ، وطرح أبو جهل العذرة على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحّدون الله ولا يشركون به شيئاً ، ويصلون له تذللاً ، وخشوعاً ، ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه ، وألسنتهم بالذكر له ، وجميع جسدهم بالتذلُّل لعظمته وسلطانه .

وقال أبو مسلم : المراد منه الذين صّدُّوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من " المدينة " عام " الحديبية " ، واستشهد بقوله تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ الفتح : 25 ] وحمل قوله تعالى : { إلاَّ خَائِفِينَ } بما يعلي الله تعالى من يده ، ويظهر من كلمته ، كما قال في المُنَافقين : { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 60 61 ] .

[ فإن قيل : كيف يجوز حمل لفظ المساجد على مسجد واحد ؟

والجواب : أن هذا كمن يقول : من أظلم ممن آذى صالحاً واحداً ، ومن أظلم ممّن آذى الصالحين .

أو يقال : إن المسجد موضع السجود ، والمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مَسْجداً واحداً ] .

قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه خامس ، وهو أقرب إلى رعاية النظم ، وهو أن يقال : إنه لما حولت القِبْلَة إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود ، فكانوا يمنعون النَّاس عن الصَّلاة عند توجّههم إلى الكعبة ، ولعلّهم أيضاً سعوا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها ، وسعوا أيضاً في تخريب مسجد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لئلا يصلوا فيه متوجّهين إلى القِبْلَةِ ، فعابهم الله بذلك ، وبيّن سوء طريقتهم فيه .

قال : وهذا التأويل أوْلَى مما قبله ، وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السَّابقة على هذه الآية إلاَّ قبائح أفعال اليهود والنصارى ، وذكر أيضاً بعدها قَبَائح أفعالهم ، فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صَدّهم الرسول عن المَسجِدِ الحرام . وأما حمل الآية على سَعْيِ النَّصَارى في تخريب " بيت المقدس " فضعيف أيضاً على ما شرحه أبو بكر الرَّازي رحمه الله تعالى ، فلم يبق إلاَّ ما قلناه .

فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم ، وفيه إشكال ؛ لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 113 ] مع أن الشِّرك أعظم من هذا الفعل ، كذا الزنا ، وقتل النفس أعظم من هذا الفعل .

فالجواب عنه : [ مضى ما في الباب ] أنه عام دخله التخصيص ، فلا يقدح فيه . والله أعلم .

فصل فيما يستدل بالآية عليه

قال القُرْطبي رحمه الله : لا يجوز منع المرأة من الحجّ إذا كانت ضرورة ، سواء كان لها محرم أم لم يكن ، ولا تمنع أيضاً من الصَّلاة في المَسَاجد ، ما لم يخف عليها الفتنة لقوله عليه الصلاة والسلام : " لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ{[1741]} " وكذلك لا يجوز نقض المسجد ، ولا بيعه ، ولا تعطيله ، وإن خربت المحلّة ، ولا يمنع بناء المساجد إلاَّ أن يقصدوا الشِّقاق والخلاف ، بأن يَبْنُوا مسجداً إلى جنب مَسْجد أو قَرْية ، يريدون بذلك تفريق أهل المسجد الأول وخرابه ، واختلاف الكلمة ، فإن المسجد الثَّاني ينقض ، ويمنع من بنيانه ، وسيأتي بقية الكلام [ في سورة " براءة " إن شاء الله تعالى ] .

قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا } .

" أولئك " مبتدأ ، " لهم " خبر " كان " مقدّم على اسمها ، واسمها " أنْ يَدْخُلُوهَا " لأنه في تأويل المصدر ، أي : ما كان لهم الدخول ، والجملة المنفية محلّ رفع خبر عن " أولئك " .

قوله : " إلاَّ خَائِفِينَ " حال من فاعل " يَدْخُلُوهَا " وهذا استثناء مفرّغ من الأحوال ؛ لأن التقدير : ما كان لهم الدخول في جميع الأحوال ، إلاَّ في حالة الخوف .

وقرأ أبي " خُيَّفاً " وهو جمع خَائِف ، ك " ضارب " و " ضُرّب " ، والأصل : خُوَّف ك " صُوَّم " ، إلا أنه أبدل الواوين ياءين وهو جائز ، قالوا : صوم وصيم ، وحَمَل أولاً على لفظ " من " ، فأفرد في قوله : " منع ، وسعى " وعلى معناه ثانياً ، فجمع في قوله : " أولئك " وما بعده .

فصل في ظاهر الآية

ظاهر الآية يقتضي أنَّ الذين منعوا وسعوا في تخريب المَسْجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلاَّ خائفين .

وأما من جعله عامًّا في الكل ، فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوهاً :

أحدها : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مَسَاجد الله إلاَّ خائفين على حال الهيبة ؛ وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فَضْلاً أن يستولوا عليها ، ويمنعوا المؤمنين منها ، والمعنى فما كان الحقّ والواجب إلا ذلك الولاء ظلم الكفرة وعتوّهم .

وثانيها : أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، وعلى سائر المساجد ، وأنه يذلّ المشركين لهم حتَّى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلاَّ خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يسلم ، وقد أنجز الله تعالى صدق هذا الوعد ، فمنعهم من دخول المسجد الحرام ، ونادى فيهم عام حجّ أبو بكر رضي الله عنه : " ألا لا يحجن بعد العام مشرك " ، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود من جزيرة العرب ، فحجّ من العام الثاني ظاهراً على المساجد لا يجترئ أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام ، وهذا هو تفسير أبي مسلم .

ثالثها : أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصَّغَار والذل بالجِزْيَةِ والإذْلال .

ورابعها : أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام ، إلاّ في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمُخَاصمة والمُحَاكمة والمُحَاجّة ؛ لأن كلّ ذلك يتضمّن الخوف ، والدليل عليه قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } [ التوبة : 17 ] .

وخامسها : قال قتادة والسُّدي : بمعنى أن النصارى لا يدخلون " بيت المقدس " إلا خائفين ، ولا يوجد فيه نَصْراني إلا أوجع ضرباً ، وهذا مردود ؛ لأن " بيت المقدس " بقي أكثر من مائة سنة في أيدي النَّصَارى بحيث لم يتمكّن أحد من المسلمين من الدُّخول فيه إلا خائفاً ، إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رحمه الله في زماننا .

وسادسها : أنه وإن كان لفظه لفظ الخبر ، لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول ، والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ } [ الأحزاب : 53 ] .

[ وسابعها : أنه خبر بمعنى الإنشاء أي أنهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلاَّ خائفاً من القتل والسَّبي ] .

قوله : { لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } هذه الجملة وما بعدها لا محلّ لها لاستئنافها عما قبلها ، ولا يجوز أن تكون حالاً ، لأن خزيهم ثابتٌ على كلّ حال لا يتقيّد بحال دخول المساجد خاصّة .

اختلفوا في الخِزْيِ ، فقال بعضهم : ما يلحقهم من الذُّل بمنعهم من المساجد ، وقال قتادة القَتْلُ للخزي ، والجزية للذمي .

وقال السدي : الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي ، وفتح " عَمورِيّة " و " رُومِيَّة " و " قُسْطَنْطِينِيَّة " ، وغير ذلك من مُدنهم ، والعَذاب العظيم [ فقد وصفه الله تعالى بما ] يجري مجرى النهاية في المبالغة ؛ لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم بأعظم الظلم ، فبيّن أنهم يستحقون العقاب العظيم .

فصل في دخول الكافر المسجد

اختلفوا في دخول الكافر المسجد ، فجوزه أبو حنيفة مطلقاً ، وأباه مالك مطلقاً .

وقال الشافعي رضي الله عنه : يمنع من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، واحتج بوجوه منها قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] ، قال : قد يكون المراد من المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ الإسراء : 1 ] وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة ، إما على المسجد فقط ، أو على الحرم كله ، وعلى التقديرين ، فالمقصود حاصل ؛ لأن الخلاف حاصل فيهما جميعاً .

فإن قيل : المراد به الحجّ لقوله : { بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } لأن الحجّ إنما يفعل في السنة مرة واحدة .

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه ترك للظَّاهر من غير موجب .

الثَّاني : ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم ، وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نَجَاستهم ، [ وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام ] .

الثالث : أنه تعالى لو أراد الحج لذكر من البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج وهو " عرفة " .

الرابع : الدَّليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 28 ] فأراد به الدخول للتجارة .

ومنها قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المساجد ، وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلاَّ ما قام عليه الدليل .

فإن قيل : هذه الآية مخصوصة بمن خرب " بيت المقدس " ، أو بمن منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من العِبَادَةِ في الكعبة .

وأيضاً يحتمل أن يكون خوف الجزية والإخراج .

فالجواب عن الأول : أن الآية ظاهرة في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف الظاهر ، وعن الثاني أن الآية تدل على أن الخوف إنما حصل من الدخول ، وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولداً من الدخول ، بل من شيء آخر .

ومنها [ أن الحرم واجب التعظيم والتكريم والتشريف والتفخيم ، وأن صونه عمّا يوجب تحقيره واجبٌ ، وتمكين الكُفَّار من الدخول فيه تفويض له بالتحقير ؛ لأنهم لفسادهم ربما استخفُّوا به ، وأقدموا على تلويثه وتنجيسه .

ومنها أنه تعالى ] أمر بتطهير البيت في قوله : { طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ }

[ البقرة : 125 ] والمشرك نجس لقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } .

والتطهير على النجس واجب ، فيكون تبعيد الكافر عنه واجباً ، وبأنا أجمعنا على أن الجُنب يمنع منه ، فالكافر بأن يمنع منه أولى .

واحتج أبو حنيفة رحمه الله بأنه عليه الصلاة والسلام لما قدم عليه وفد " يثرب " فأنزلهم المسجد بقوله عليه الصلاة والسلام : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ " .

وهذا يقتضي إباحة الدخول .

وأيضاً فالكافر جاز له دخول سائر المساجد ، فكذلك المسجد الحرام كالمسلم .

والجواب عن الحديثين : أنهما كانا في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بالآية ، وعن القياس أن المسجد الحرام [ أعظم ] قدراً من سائر المساجد ، فظهر الفرق ، والله أعلم .


[1740]:- أخرجه الطبري (2/520) وعبد بن حميد كما في "الدر المنثور" للسيوطي (1/24).
[1741]:- أخرجه البخاري في الصحيح (2/35) عن ابن عمر بلفظه كتاب الجمعة باب هل على من لم يشهد الجمعة... حديث رقم (900) وأخرجه مسلم في الصحيح (1/327) عن ابن عمر بلفظه كتاب الصلاة (4) باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة (30) حديث رقم (136/442) وأبو داود في السنن حديث رقم (565)، (566). وأحمد في المسند (2/16، 36، 438) (6/69) وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم (1679)- والدارمي في السنن (1/293) وابن أبي شيبة في المنصف (2/383) - وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم (5121)- والبيهقي في السنن (3/132، 134)، (5/224) والطبراني في الكبير (12/363، 425) - وأبو نعيم في الحلية (7/137) - والخطيب في التاريخ (2/360)، (6/19)، (11/344)- وذكره ابن حجر في فتح الباري 2/350، 382، (4/77)- والهندي في كنز العمال حديث رقم (13232)، (45171)، (45173).