اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (117)

قوله تعالى : " بَدِيعُ السَّمَوَاتِ " المشهور رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو بديع .

وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير في " لَهُ " [ وفيه الخلاف المشهور ] وقرئ بالنصب على المدح .

و " بديع السموات " من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلاً في الأصل ، والأصل بديع سماواتُه ، أي بَدُعَت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب ، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل ، فنصبت ما كان فاعلاً ، ثم أضيفت إليه تخفيفاً ، وهكذا كلّ ما جاء من نظائره ، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب ؛ لئلا يلزم إضافة الصفة إلى فاعلها ، وهو لا يجوز ، كما لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل .

وقال الزمخشري رحمه الله تعالى : و " بديعُ السَّمَوَاتِ " من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها .

ورده أبو حيان بما تقدم ، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه .

وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً : وهو أن يكون " بديع " بمعنى مُبْدِع ؛ كما أن سميعاً في قول عَمْرو بمعنى مسمع ؛ نحو : [ الوافر ]

753- أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ *** يُؤَرِّقُنِي وأصْحَابِي هُجُوعُ ؟

إلا أنه قال : " وفيه نظر " ، وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره ، وكأن النظر الذي ذكره الزمخشري والله أعلم هو أن " فعيلاً " بمعنى " مُفْعِل " غيرُ مقيس ، وبيت عمرو رضي الله عنه متأول ، وعلى هذا القول يكون بديع السموات من باب إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تقديراً .

والمبدع : المخترع المنشئ ، والبديع : الشيء الغريب الفائق غيره حسناً .

قوله تعالى : { وَإِذَا قَضَى أَمْراً } العامل في " إذا " محذوف يدل عليه الجواب من قوله : " فَإنَّمَا يَقُولُ " ، والتقدير : إذا قضى أمراً يكون ، فيكون هو الناصب له .

و " قضى " له معانٍ كثيرة .

قال الأزهري رحمه الله تعالى : " قضى " على وجوه مرجعُها إلى انقطاع الشَّيء وتمامه ؛ قال أبو ذُؤَيْبٍ : [ الكامل ]

754- وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا *** دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ

وقال الشَّماخ : [ الطويل ]

755- قَضَيْتَ أُمُوراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا *** بَوَائِقَ في أَكْمَامِهَا لم تُفَتَّقِ

فيكون بمعنى " خَلَقَ " نحو : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ فصلت : 12 ] وبمعنى أَعلم : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] .

وبمعنى أمر : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] .

وبمعنى وَفَّى : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ } [ القصص : 29 ] .

وبمعنى ألزم : قضى القاضي بكذا .

وبمعنى أراد : { وَإِذَا قَضَى أَمْراً } .

وبمعنى أَنْهَى ، ويجيء بمعنى قَدَّر وأَمْضَى ، تقول : قَضَى يَقْضِي قََضَاءً ؛ قال : [ الطويل ]

756- سَأَغْسِلُ عَنِّي العَارَ بَالسَّيْفِ جَالِباً *** عَلَيَّ قَضَاءُ اللهِ مَا كَانَ جَالِبَا

ومعناه الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع ، من قولهم : قضى القاضي لفلان على فلان بكذا إذا حكم ؛ لأنه فصل للدعوى .

ولهذا قيل : حاكم فَيْصل إذا كان قاطعاً للخصومات .

وحكى ابن الأنباري عن أهل اللّغة أنهم قالوا : القاضي معناه القاطع الأمور المحكم لها .

ومنه : انقضى الشيء : إذا تم وانقطع .

وقولهم : قضى حاجته أي : قطعها عن المحتاج ودفعها عنه .

وقضى دينه : إذا أدَّاه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه ، أو انتفع كل منهما من صاحبه .

وقولهم : قضى الأمر ، إذا أتمه وأحكمه .

وأما قولهم : قضى المريض وقضى نَحْبَه : إذا مات ، وقضى عليه : قتله فمجاز .

[ واختلفوا في الأمر هل هو حقيقة في القول المخصوص أو حقيقة في الفعل وفي القدر المشترك وهو كذا في أصول الفقه والله أعلم ] .

قال القرطبي رحمه الله تعالى : والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهاً :

الأول : الدين ؛ قال الله تعالى : { حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ } [ التوبة : 48 ] يعني : دينه .

الثاني : القول ؛ قال تعالى : { فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا } [ المؤمنون : 27 ] يعني قولنا . وقوله : { فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ } [ طه : 62 ] يعني قولهم .

الثالث : العذاب ؛ قال تعالى : { لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُُ } يعني لما وجب العذاب بأهل النار .

الرابع : عيسى عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : { إِذَا قَضَى أَمْراً } [ مريم : 35 ] يعني : عيسى عليه الصلاة والسلام .

الخامس : القتل ب " بدر " ، قال الله تعالى : { فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } [ غافر : 78 ] يعني : القتل ب " بدر " ، وقوله : { لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } [ الأنفال : 42 ] يعني قتل كفار " مكة " .

السادس : فتح " مكة " ؛ قال الله تعالى : { فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }

[ التوبة : 42 ] يعني فتح " مكة " .

السابع : قتل " قريظة " وجلاء " بني النضير " ؛ قال الله تعالى : { فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ] .

الثامن : القيامة ، قال الله تعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] .

التاسع : القضاء ؛ قال الله تعالى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } [ الرعد :2 ] يعني القضاء .

العاشر : الوحي ؛ قال الله تعالى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ }

[ السجدة : 5 ] يعني الوحي .

الحادي عشر : أمر الخلق ؛ قال الله تعالى : { أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ }

[ الشورى : 53 ] .

الثاني عشر : النصر ، قال الله تعالى : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ }

[ آل عمران : 154 ] يعنون : النصر ، { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [ آل عمران : 154 ] يعني النصر .

الثالث عشر : الذنب ؛ قال الله تعالى : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } [ الطلاق : 9 ] يعني جزاء ذنبها .

الرابع عشر : الشأن والفعل ، قال الله تعالى : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ }

[ هود : 97 ] لعله : وشأنه .

قوله تعالى : " فيكون " الجمهور على رفعه ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مستأنفاً أي خبراً لمبتدأ محذوف أي : فهو يكون ، ويعزى لسيبويه ، وبه قال الزَّجَّاج في أحد قوليه .

والثاني : أن يكون معطوفاً على " يقول " ، وهو قول الزَّجاج والطبري ، ورد ابن عطية هذا القول ، وقال : إنه خطأ من جهة المعنى ؛ لأنه يقتضي أن القول مع التَّكوين والوجود . انتهى . يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له ؟

وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة .

أما إذا قيل بأنه على سبيل التمثيل ، وهو [ الأصح ] فلا .

ومثله قول أبي النجم : [ الرجز ]

757- إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقي *** . . .

الثالث : أن يكون معطوفاً على " كن " من حيث المعنى ، وهو قول الفارسي ، وضَعَّفَ أن يكون عطفاً على " يقول " ؛ لأن من المواضع ما ليس فيه " يقول " ، كالموضع الثاني في " آل عمران " ، وهو { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ولم ير عطفه على " قال " من حيثُ إنه مضارع ، فلا يعطف على ماضي ، فأورد على نفسه : [ الكامل ]

758- وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي *** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ : لاَ يَعْنِينِي

فقال : " أَمُرُّ بمعنى مَرَرْتُ " .

قال بعضهم : ويكون في هذه الآية يعني في آية " آل عمران " ، بمعنى " كان " فَلْيَجُزْ عَطْفُهُ على " قال "

وقرأ ابن عامر : " فيكونَ " نصباً هنا ، وفي الأولى من " آل عمران " ، وهي { كُن فَيَكُونُ } ، تحرزاً من قوله تعالى : { كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ }

[ آل عمران : 59 60 ] .

وفي مريم : { كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ } [ مريم : 35 36 ] .

وفي غافر : { كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ } [ غافر : 68 69 ] .

ووافقه الكسائي على ما في " النحل " و " يس " .

وهي : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .

أما آيتا " النحل " و " يس " فظاهرتان : لأن ما قبل الفعل منصوباً يصح عطفه عليه ، وسيأتي .

وأما ما انفرد به ابن عامر في هذه المواضع الأربعة ، فقد اضطرب كلام النَّاس فيها ، وهي لَعَمْري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل ، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام الكبير ، فقال ابن مجاهد : قرأ ابن عامر : " فَيَكُونَ " نصباً ، وهذا غير جائز في العربية ؛ لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلاَّ في " يس " و " النحل " ، فإنه نسق لا جواب .

وقال في " آل عمران " : قرأ ابن عامر وحده : " كُنْ فَيَكُونَ " بالنصب وهو وَهَمٌ . قال : وقال هشام : كان أيوب بن تميم يقرأ : " فَيَكُونَ " نصباً ، ثم رجع فقرأ : " يَكُونُ " رفعاً .

وقال الزجاج : " كُنْ فَيَكُونُ " رفع لا غير .

وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللَّفظ من غير نظر للمعنى ، يريدون أنه قد وجد في اللفظ صورة أمر فَنُصِبَتا في جوابه بالفاء .

وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى ، فإن ذلك لا يصح لوجهين :

أحدهما : أن هذا وإن كان بلفظ الأمر ، فمعناه الخبر نحو : { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ } [ مريم : 75 ] . أي : فيمدّ ، وإذا كان معناه الخبر ، لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة ؛ كقوله : [ الوافر ]

759- سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ *** وَأََلْحَقُ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا

وقول الآخر : [ الطويل ]

760- لَنَا هَضْبَةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَهَا *** وَيأْوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا

والثاني : أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو : " ائتني فأكرمك " تقديره : " إن أتيتني أكرمتك " .

وها هنا لا يصح ذلك إذ يصير التقدير : إن تكن تكن ، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلاً ، وقد علمت أنه لا بد من تغايرهما ، وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطاً لنفسه وهو مُحَال ، قالوا : والمُعَاملة اللفظية ، واردةٌ في كلامهم نحو : { قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ } [ إبراهيم : 31 ] { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } [ الجاثية : 14 ] .

وقال عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]

761- فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السَّيْفَ وَاشْتَمِلْ *** عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَارْقُبِ الشَّمْسَ تَغْرُبِ

وَأَسْرِجْ لِيَ الدَّهْمَاءَ وَاذْهَبْ بِمِمْطَرِي *** ولاَ يَعْلَمَنْ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ مَذهَبِي

فجعل " تَغْرُب " جواباً ل " ارقب " وهو غير مترتِّب عليه ، وكذلك لا يلزمُ من قوله أَنْ يفعلوا ، وإنما ذلك مُرَاعاة لجانب اللفظ .

أما ما ذكره في بيت عمر فصحيح .

وأما الآيات فلا نسلم أَنَّه غير مترتب عليه ؛ لأنه أراد بالعباد الخُلّص ، وبذلك أضافهم إليه .

أو تقولُ : إن الجزمَ على حَذْفِ لامِ الأمر ، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى .

وقال ابن مالك : " إنَّ " " أنْ " الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر ب " إنما " اختياراً ، وحكاه عن بعض الكوفيين .

قال : وحكوا عن العرب : إنما هي ضربة من الأسد فتحطمَ ظهره بنصب " تحطم " ، فعلى هذا يكون النَّصْب في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك إلاَّ أنَّ هذا الذي نصبوه دليلاً لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم تقديره : إنما هي ضَرْبَة فَحَطم ؛ كقوله : [ الوافر ]

762- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقرَّ عَيْنِي *** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

فصل في تحرير كلمة كن

قال ابن الخطيب : اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى : { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ : كُن فَيَكُونُ } هو أنه تعالى يقول له : " كُن " ، فحينئذ يتكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد ، والذي يدل عليه وجوه :

الأول : أن قوله تعالى : " كُن " إما أن يكون قديماً أو محدثاً ، والقسمان فاسدان ، فبطل القول بتوقّف حدوث الأشياء على " كُن " إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه :

الأول : أن كلمة " كُن " لفظة مركّبة من الكاف والنون بشرط تقدّم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاً ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد ، يجب أن يكون محدثاً .

الثاني : أن كلمة " إذا " لا تدخل إلا على الاستقبال ، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً ؛ لأنه دخل عليه حرف إذا وقوله : " كُن " مرتّب على القضاء ب " فاء " التعقيب ؛ لأنه قال : { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن } والمتأخر عن المحدث محدث ، فاستحال أن يكون " كُن " قديماً .

الثالث : أنه تعالى رتّب تكوين المخلوق على قوله : " كُن " ب " فاء " التعقيب ، فيكون قوله : " كُن " مقدماً على تكوين المخلوق بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً ، فقوله : " كُن " لا يجوز أن يكون قديماً ، ولا جائز أيضاً أن يكون قوله : " كُن " محدثاً ؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله : " كُن " ، وقوله " كُن " أيضاً محدث ، فيلزم افتقار " كُن " إلى " كُن " آخر ، ويلزم التسلسل والدور ، وهما مُحَالان ، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقّف إحداث الحوادث على قوله : " كُن " وأن قوله : " كن " إن [ كان ] خطاباً له حال وجوده ، فتحصيل للحاصل ، قاله أبو الحسن الماوردي .

قال القرطبي رحمه الله : والجواب من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه ، كما في بني إسرائيل أن يكونوا قِرَدَةً خاسئين ، ولا يكون هذا في إيجاد المعدومات .

الثاني : أن الله تعالى عالم بما هو كائن قبل كونه ، فكانت الأشياء التي لم تكن كائنة لعلمه بها قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : كوني ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ؛ لتصير جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم .

الثالث : أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكوِّنه ، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله ، وإنما هو قضاء يريده ، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً ، كقول أبي النَّجْم : [ الرجز ]

763- إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الحَقِي *** . . .

ولا قول هناك ، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن .

وكقول عمرو بن هممة الدَّوْسِيّ : [ الطويل ]

764- فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ *** إِذَا رَامَ تَطْيَاراً يُقَالُ لَهُ : قَعِ

وقال الآخر : [ الرجز ]

765- قَالَتْ جَنَاحَاهُ لِسَاقَيْهِ الحَقَا *** وَنَجِّيَا لَحْمَيْكُمَا أَنْ يُمْزَقَا

الحجة الثانية : أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق ب " كن " قبل دخوله في الوجود ، أو حال دخوله في الوجود ، والأول باطل ؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سَفَه .

والثاني أيضاً باطل ؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً ، وذلك أيضاً لا فائدة فيه .

الحجة الثالثة : أن المخلوق قد يكون جماداً ، وتكليف الجماد عبث ، ولا يليق بالحكيم .

الحجة الرابعة : أن القادر هو الذي يصحّ منه الفعل وتركه بحسب الإرادات ، فإذا فرضنا القادر المريد منفكًّا عن قوله : " كُن " فإما أن يتمكّن من الإيجاد والإحداث ، أو لا يتمكّن ، فإن تمكن لم يكن الإيحاد موقوفاً على قوله " كن " ، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم ألاَّ يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه ب " كن " فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمّيتم القدرة ب " كن " وذلك نزاع لفظي .

الحجة الخامسة : أن " كُن " كلمة لو كان لها أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة .

الحجة السادسة : أن لفظة " كُن " ككلمة مركبة من الكاف والنون ، بشرط كون الكاف متقدماً على النون ، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما ؛ فإن كان الأول لم يكن لكلمة " كُن " أثر ألبتة بل التأثير لأحد هذين الحرفين ، وإن كان الثَّاني فهو مُحَال ؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة ؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثَّاني حاصلاً ، وحين جاء الثَّاني فقد فات الأول ، وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة .

الحجة السابعة : قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] بين أن قوله " كُن " متأخر عن خلقه ، إذ المتأخر عن الشَّيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه ، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله : " كُن " في وجود الشيء ، فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب ، فإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التأويل وهو من وجوه :

الأول : أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء ، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة .

الثاني : قال أبو الهُذَيل : إنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً .

الثالث : قال الأصم : إنه خاصٌّ بالموجودين الذين قال لهم : { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ البقرة : 65 ] ، ومن جرى مجراهم .

الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة . والكل ضعيف ، والقوي هو الأول .

وقال الطبري رحمه الله : التكوين مع الأمر لا يتقدم الموجود ، ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلاّ وهو موجود بالأمر ، ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجود ، ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه كما قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] .

قال القرطبي رحمه الله تعالى : وتلخيص المعتقد في هذه الآية : أن الله عز وجل لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخّر المقدورات ، عالماً مع تأخر المعلومات ، فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال ، فهو بحسب المأمورات ؛ إذ المحدَثَات تجيء بعد أن لم تكن . وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم ، فهو قديم لم يزل والمعنى الذي تقتضيه عبارة " كُن " ؛ هو قديم قائم بالذات .