اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (112)

قوله تعالى : " بَلَى " فيه وجوه :

الأول : أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة .

الثاني : أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهاناً .

الثالث : كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنَّة ، بل إن غيّرتم طريقتكم ، وأسلمتم وجهكم لله ، وأحسنتم فلكم الجنة ، فيكون ذلك تَرْغيباً لهم في الإسلام ، وبَيَاناً لمُفَارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يُقْلعوا عما هم عليه ، ويعدلوا إلى هذه الطريقة .

قوله تعالى : { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } هو إسلام النفس لطاعة الله تعالى ، وإنما خصّ الوجه بالذكر لوجوه :

أحدها : لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه مَعْدن الحواس والفكر والتخيّل [ ولذلك يقال : وَجْهُ الأَمْر ، أي معظمه ؛ قال الأعشَى : [ السريع ]

740- أُؤَوِّلُ الحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ *** لَيْسَ قَضَائِي بِالهَوَى الجَائِرِ ]

فإذا تواضع الأشارف كان غيره أولى .

وثانيها : أن الوجه قد يكنى به عن النفس ، قال الله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } [ الليل : 20 ] .

وثالثها : أن أعظم العبادات السجدة ، وهي إنما تحصل بالوجه ، فلا جرم خصّ الوجه بالذكر . [ ومعنى " أسلم " : خضع قال زيد بن عمرو بْن نُفَيْلٍ : [ المتقارب ]

741أ- وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ *** لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِقالاَ

741ب - وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ *** لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْباً زُلاَلاَ

فيكون المراد هنا نفسه ، والأمر بإذلالها ، وأراد به نفس الشيء ، وذلك لا يكون إلاَّ بانقياد الخضوع ، وبإذلال النَّفْس في طاعة الله عز وجل وتجنبها عن معاصيه ] .

ومعنى " لله " أي : خالصاً لله لا يشوبه شِرْك .

قوله تعالى : " وَهُوَ مُحْسِنٌ " جملة في محلّ نصب على حال [ والعامل فيها " أسلم " وهذه الحال حال مؤكدة لأن من " أسلم وجهه لله فهو محسن{[8]} " ] .

وقال الزمخشري رحمه الله تعالى وهو مُحْسن له في عمله فتكون على رأيه مبيّنة ؛ لأن من أسلم وجهه قسمان : محسن في عمله وغير محسن انتهى .

قوله تعالى : " فله أجره " الفاء جواب الشرط إن قيل بأن " مَنْ " شرطية ، أو زائدة في الخبر إن قيل بأنها موصولة ، وقد تقدم تحقيق القولين عند قوله سبحانه وتعالى : { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة : 81 ] وهذه نظير تلك فليلتفت إليها .

وهنا وجه آخر زائد ذكره الزمخشري ، وهو أن تكون " مَنْ " فعله بفعل محذوف أي : بلى يدخلها من أسلم ، و " فَلَهُ أَجْرُهُ " كلام معطوف على يدخلها هذا نصه .

و " لَهُ أَجْرُهُ " مبتدأ وخبره ، إما في محلّ جزم ، أو رفع على حسب ما تقدّم من الخلاف في " مَنْ " . وحمل على لفظ " مَنْ " فأفرد الضمير في قوله تعالى : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } وعلى معناها ، فجمع في قوله : { عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، وهذا أحسن التركيبين ، أعني البداءة بالحمل على اللفظ ثم الحمل على المعنى والحامل في " عند " ما تعلق به " له " من الاستقرار ، ولما أحال أجره عليه أضاف الظرف إلى لفظة " الرّب " لما فيها من الإشعار بالإصلاح والتدبير ، ولم يضفه إلى الضمير ، ولا إلى الجلالة ، فيقول : فله أجره عنده أو عند الله ، لما ذكرت لك ، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] بما فيه من القراءات .


[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).