اعلم أن " قَضَى " إذا عُلِّق بفعل النَّفْس ، فالمرادُ منه الإِتْمَام والفَرَاغ ؛ كقوله تعالى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ]
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } [ الجمعة : 10 ] ، وقوله - عليه السلام - : " وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا{[3079]} " ، ويقال للحَاكِم عند فصل الخُصُومَةِ ، قَضَى بينهما . وإذا عُلِّق على فِعْل الغَيْر ، فالمراد به الإِلْزَام ، كقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ } [ الإسراء : 23 ] وإذا اسْتُعْمِل في الإعلامِ ، فالمراد أيضاً كذلك ؛ كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] ، أي : أعْلَمْنَاهُم ، وهذه الآية الكريمة من القِسم الأوَّل .
وقال بعضهم{[3080]} : يحتمل أن يكون المُرَادُ : اذكُرُوا الله عِنْد المَنَاسِك ، ويكون المُرَادُ من هذا الذَّكرِ : ما أُمروا به من الدُّعَاءِ بعَرَفاتٍ والمشعر الحَرَام والطَّواف والسَّعي ؛ كقول القائل : إذا حَجَجْتَ فَطُف وقف بعرَفَة ، ولا يُريد الفراغ من الحَجِّ ، بل الدُّخُول فيه ، وحَمَلهُم على التَّأْويل صيغة الأَمْر .
والمَنَاسِكُ ، جمعُ " مَنْسِكٍ " بفتح السين وكسرِها ، وسيأتي تحقيقُهما ، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً ، والقُرَّاء على إظهار هذا ، ورُوِي عن أبي عمرو الإِدغامُ ، قالوا : شَبَّه حركة الإِعرابِ بحركةٍ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام ، وأدغم أيضاً " مَنَاسِككمْ " ولم يُدْغِمْ ما يُشْبِهُهُ من نحو :
{ جِبَاهُهُمْ } [ التوبة : 35 ] و { وُجُوهُهُمْ } [ آل عمران : 106 ] .
قال بعض{[3081]} المُفسِّرين{[3082]} : إن جعلها جمع " مَنْسَك " الذي هو المَصْدَر بمنزلة النُّسُك ، فالمراد : إذا قضيتم عبادتكُم الَّتِي أُمِرْتُمْ بها في الحَجِّ ، وإن جَعَلْتَها جمع " مَنْسَك " الذي هو مَوْضع العِبادة ، فالتَّقدير : فإذا قَضَيْتُم أعمال مناسِكِكُم ، فيكون من باب حَذْفِ المُضَاف .
إذا عُرِفَ هذا ؛ فنقول : قال بعضهم{[3083]} : المراد بالمَنَاسِكِ ما أَمَر اللهُ - تعالى - به في الحَجِّ من العِبَادَاتِ ، وقال مُجاهد : قضاء المَنَاسِكِ : إراقَةُ الدِّمَاء{[3084]} ، يقال : أنسَك الرجل يَنْسُك نُسْكاً ، إذا ذبح نسِيكته بعد رَمْي جمرة العقبة والاستقرار بمِنًى ، والفَاءُ في قوله : { اذْكُرُواْ اللَّهَ } تدلُّ على أنَّ الذِّكْر يجب عقيب الفراغ من المَنَاسِك ؛ فلذلك اخْتَلَفُوا .
فمنهم من حمله على التكبير بعد الصَّلاَة يَوْم النَّحْر وأَيَّام التَّشْريق - على حسبِ اختِلاَفهم في وقته - أن بعد الفراغ من الحَجَّ لا ذِكْر مَخْصُوص إلاَّ التكبِير .
ومنهم من قال : بل المُراد تحويلُ القَوْم عمّا اعتَادُوهُ بعد الحَجِّ من التَّفَاخُر بالآباء{[3085]} ؛ لأنه تعالى لو لم يَنْه عنه بهذه الآية الكريمة ، لم يَعْدلُوا عن هذه الطَّرِيقة .
ومنهم من قال : بل المُراد منه أنّ الفَراغَ من الحَجِّ يوجِبُ الإِقبَال على الدُّعاء والاستغفار ؛ كما أن الإِنْسَان بعد الفَراغ من الصَّلاة يُسَنُّ أن يشتغل بالذِّكر والدُّعاء .
قوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } الكافُ كالكاف في قوله { كَمَا هَدَاكُمْ }
[ البقرة : 198 ] إلاَّ في كونها بمعنى " عَلَى " أو بمعنى اللام ، فَلْيُلتفتْ إليه ، والجمهورُ على نصب " آبَاءَكُمْ " مفعولاً به ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل ، وقرأ{[3086]} محمدُ بنُ كعبٍ : " آبَاؤكُمْ " رفعاً ، على أنَّ المصدرّ مضافٌ للمفعولِ ، والمعنى : كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه ، ورُوِيَ عنه أيضاً : " أَبَاكُمْ " بالإِفراد على إرادة الجنسِ ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله ، ويَبْعُدُ أن يقال : هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجْرِي " أَبَاكَ " ونحوَهُ مُجْرَى المقْصورِ .
قال جمهور المُفسِّرين{[3087]} : إن القوم كانوا بعد الفراغ من الحَجِّ يبالِغُون في الثَّنَاءِ على آبَائِهِم وفي ذكر مَناقِبهم ، فقال تعالى : { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } ، أي : فاجهَدُوا في الثَّنَاء على الله وشرح الآية ، كما بذلتم جَهْدَكم في الثَّناء على آبَائِكم .
وقال الضَّحَّاك والرَّبيع : اذكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم وأمَّهَاتكم{[3088]} ، واكتفى بذكر الآباءِ ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] قالوا : وهو قول الصَّبيِّ أول ما يُفصح للكلام أَبَه أَبَه أُمَّه أُمَّه ، أي : كونوا مُوَاظِبين على ذِكْرِ الله ؛ كمواظَبَة الصَّغير على ذِكْر أبيه وأمِّه .
وقال أبو مسلم{[3089]} : أجرى ذِكر الآباء مثلاً لدوام الذكْرِ ، أي : كما أنّ الرَّجُل لا يَنْسَى ذكر أبيه ، فكذلك يَجِبُ ألاّ يَغْفَل عن ذِكْر الله - تعالى - .
وقال ابن الأَنْباري{[3090]} : كانت العرب في الجَاهِليَّة تكثِر من القَسَم بالآباءِ والأَجْدَادِ ؛ فقال تعالى : " عَظِّمُوا الله كَتَعْظِيم آبَائكُم " .
وقيل : كما أنّ الطِّفْل يرجع إلى أبِيه في طَلَبِ جميع مُهِمَّاتِه ، ويكون ذَاكِراً له بالتَّعظِيم فكُونُوا أنتم في ذِكْر الله كذلك .
وقيل : يُحْتَمل أنّهم كَانُوا يَذْكُرون آباءَهُم ؛ ليتَوسَّلُوا بذكرهم إلى إجابة الدُّعَاء ، فعرَّفَهُم الله - تعالى - أنّ آباءَهُمْ لَيْسَوا في هذه الدَّرَجَة ؛ إذ أَفْعَالُهم الحَسَنة مُحْبَطة بشِرْكِهِم .
وسُئِل ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - عن قوله تعالى : { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } ، فقيل : يأتي على الرَّجُل اليَوْم لا يذكُر فيه أَبَاهُ .
قال ابن عبَّاس : ليس كذلك ؛ ولكن هو أن تَغْضَب لله إذا عُصِيَ ، أَشَدَّ من غَضَبِك لوَالِدَيْك إذا ذُكِرا بِسوءٍ{[3091]} .
قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } يجوزُ في " أَشَدَّ " أن يكونَ مجروراً ، وأَنْ يكونَ منصوباً : فأمّا جَرُّه ، فذكروا فيه وجهين :
أحدهما : أن يكونَ مجروراً عطفاً على " ذِكْركم " المجرورِ بكافِ التشبيه ، تقديرُهُ : أو كَذِكْر أَشَدَّ ذِكْراً ، فتجعلُ للذكر ذِكْراً مجازاً ، وإليه ذهب الزَّجَّاج{[3092]} ، وتبعه أبو البقاء{[3093]} - رضي الله عنه - وابن عَطيَّة .
والثَّاني : أنه مجرورٌ عطفاً على المخْفُوض بإضافة المَصْدر إليه ، وهو ضميرُ المخاطبين ، قال الزمخشريُّ : أَوْ أَشَدَّ ذكِراً في موضِع جرٍّ عَطْفاً على ما أُضيفَ إليه الذكْرُ في قوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } ؛ كما تقول : " كَذِكْرِ قُرَيْش آباءَهُمْ أو قَوْم أَشَدَّ منْهُمْ ذِكْراً " وهو حَسَنٌ ، وليس فيه تَجَوُّزٌ بأَنْ يُجْعَلَ لِلذكرِ ذِكْرٌ ؛ لأنه جَعَلَ " أَشَدَّ " من صفات الذَّاكرِينَ ، إلا أن فيه العَطْفَ على الضَّميرِ المجْرُورِ من غير إعادة الجارِّ ، وهو ممنوعٌ عند البَصْريين ، ومَحَلُّ ضرورة .
أحدُها : أن يكونَ معطوفاً على " آباءَكُمْ " قاله الزمخشريُّ ، فإنه قال : " بمعنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُم " ؛ على أنَّ " ذِكْراً " من فِعْلِ المذكور هو كلامٌ يَحْتاجُ إلى تفسير ، فقولُه : " هو معطُوفٌ على آبَاءَكُمْ " : معناه أنك إذا عَطَفْتَ " أَشَدَّ " على " آبَاءَكُمْ " ، كان التقديرُ : أو قوماً أشدَّ ذِكْراً من آبائِكُمْ ، فكان القومُ مذكورِينَ ، والذكرُ الذي هو تمييزٌ بعد " أَشَدَّ " هو من فِعْلهم ، أي : من فعلِ القوم المذكُرِين ؛ لأنه جاء بعد " أَفْعَلَ " الذي هو صفةٌ للقوم ، ومعنى " مِنْ آبَائِكُمْ " أي من ذكرِكم لآبائِكُمْ ، وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذِّكْرُ ذَاكِراً .
الثاني : أن يكونَ مَعْطُوفاً على محلِّ الكاف في " كَذِكْرِكُم " ؛ لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف ، تقديرُه : " ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ " وجَعَلُوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً ؛ كقولهم : شِعْرٌ شَاعِرٌ ، وهذا تخريج أبي عَلِيٍّ وابن جنِّي .
الثالث : قاله مَكّيٌّ : أن يكونَ منصوباً بإضمار فِعْلٍ ، قال : تقديرُه : " فاذْكرُوهُ ذِكْراً أَشَدَّ من ذِكرِكُمْ لآبائكم " ؛ فيكونَ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ ، أي : اذكُرُوهُ بَالِغِينَ في الذِكْرِ .
الرابع : أن يكونَ مَنْصُوباً بإضمار فعْلِ الكَوْن ، قال أبو البقاء{[3094]} : " وعِنْدِي أنَّ الكلاَمَ محمولٌ على المَعْنى ، والتقدير : أو كُونُوا أَشَدَّ لِلَّهِ ذِكْراً منكم لآبائِكُمْ ، ودلَّ على هذا المعنى قولُه : { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ } أي : كونوا ذَاكِريهِ ، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المَجَاز " يعنى المجازَ الذي تقدَّم ذِكْرُهُ عن الفارسيِّ وتلميذه .
الخامس : أن يكون " أَشَدَّ " نَصْباً على الحال مِنْ " ذِكْراً " ؛ لأنه لو تأخَّرَ عنه ، لكان صفةٌ له ؛ كقوله : [ مجزوء الوافر ]
لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ *** يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ{[3095]}
" مُوحِشاً " حالٌ من " طَلَل " ؛ لأنَّه في الأصل صفةٌ ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً ، فَجُعِلَ حالاً ، قاله أبو حيَّانَ - رحمه الله تعالى - ، فإنه قال بعد ذكْره ثلاثةَ أوجه لنصبه ، ووجهين لجَرِّه : " فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفةٌ ، والذي يتبادر إلى الذِّهْنِ في الآية أنهم أُمِرُوا بأَنْ يَذْكُروا الله ذِكْراً يُمَاثِلُ ذِكْرَ آبائِهِم ، أَوْ أَشَدَّ ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية الكريمة عليه بوجهٍ ذُهِلُوا عنه " ، فَذَكَر ما تقدَّم ، ثم جَوَّز في " ذِكْراً " - والحالةُ هذه - وجْهَين :
أحدهما : أن يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ الكاف في " كِذِكْرِكُمْ " ، ثم اعترضَ على نفسِه في هذا الوجه ؛ بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف ، وهو " أَوْ " وبين المعطوف وهو " ذِكْراً " بالحال ، وهو " أَشَدَّ " ، وقد نصَّ النحويون على أن الفصْلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطَيْن :
أحدهما : أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد .
والثاني : أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً ، أو ظَرْفاً أو جَارّاً ، وأحدُ الشرطَيْنِ موجودٌ ، وهو الزيادةُ على حرِفٍ ، والآخرُ مفقودٌ ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدِّمة ، ثم أجابَ بأن الحالَ مقدَّرةٌ بحرفِ الحر وشَبَّهه بالظرفِ ، فَأُجْرِيَت مُجْرَاهُمَا .
والثاني : من الوجْهَيْن في " ذِكْراً " أن يكونَ مصدراً لقوله : " فَاذْكُرُوا " ، ويكون قوله : " كَذِكْرِكُمْ " في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " ذِكْراً " ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدِّمتْ ، كانَتْ في محلِّ حالٍ ، ويكون " أَشَدَّ " عطفاً على هذه الحال ، وتقديرُ الكلاَم : " فاذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ ، أي : مُشْبِهاً ذِكْرَكُمْ أَو أَشَدَّ " ؛ فيصيرُ نظيرَ : " اضْرِبْ مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنٍ أَوْ أَشَدَّ " الأصل : اضْرِبْ ضَرْباً مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَدَّ .
و " ذِكْراً " تمييزٌ عند غير الشَّيخ كما تقدَّم ، واستشْكَلُوا كونَه تمييزاً منصوباً ؛ وذلك أن أفعلَ التفضيل يجب أن تُضَاف إلى ما بعدها ، إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها ؛ نحو : " وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ وَجْهٍ " ، " وعِلْمُهُ أَكْثَرُ عِلْم " وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها ، وجَبَ نصبُه ؛ نحو : " زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهاً ، وخَالِدٌ أَكْثَرُ عِلْماً " ، إذا تقرَّر ذلك ، فقوله : " ذِكْراً " هو من جنس ما قبلها ، فعلَى ما قُرِّر ، كان يقتضي جَرَّه ، فإنه نظيرُ : " اضْرِبْ بَكْراً كَضَرْبِ عَمْرٍو زَيْداً أَوْ أَشَدَّ ضَرْبٍ " بالجرِّ فقط . والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأَخوذٌ من الأوجه المتقدِّمة في النصب والجر المذكورَيْن في " أَشَدَّ " ؛ من حيث أن يُجْعَلَ الذِّكْرُ ذاكراً مجازاً ؛ كقولهم : " شِعْرٌ شَاعِرٌ " ؛ كما قال به الفارسيُّ وصاحبُه ، أو يُجْعَلَ " أَشَدَّ " من صفاتِ الأعيان ، لا من صفاتِ الإِذكار ؛ كما قال به الزمخشريُّ ، أو يُجْعَلَ " أَشَدَّ " حالاً من " ذكْراً " أو ننصبَه بفعْلٍ و " أو " هنا قيل للإِباحةِ ، وقيل للتخيير ، وقيل : بمعنى بَلْ ، وهو قول أكثر المفسِّرين .
قوله : { فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا } " مَنْ " مبتدأٌ ، وخبرُه في الجارِّ قبله ، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً ، وفي هذا الكلام التفاتٌ ؛ إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ ، لقيل : " فَمِنْكُمْ " ، وحَمِل على معنى " مَنْ " ؛ إذ جاء جَمْعاً في قوله : " رَبِّنَا آتِنَا " ، ولو حُمِل على لفظِها ، لقال " رَبِّ آتِني " .
وفي المفعول الثاني ل " آتِنَا " - لأنه يتعدَّى لاثْنَيْنِ ثانيهما غيرُ الأَوَّل - ثلاثةُ أقوال :
أظهرها : أنه محذوفٌ ؛ اختصاراً أو اقتصاراً ؛ لأنه من باب " أَعْطَى " ، أي : آتِنا ما نُريدُ ، أو مطلوبَنَا .
والثاني : أن " فِي " بمعنى " مِنْ " أي : من الدنيا .
والثالث : أنها زائدةٌ ، أي : آتِنا الدنيا ، ولَيْسَا بشيء .
واعلم أنَّه بيَّن أولاً منَاسِكَ الحَجِّ ، ثم أمر بَعْدَها بالذِّكْرِ ، ثم بيّن بعد الذِّكْرِ كيفيَّة الدُّعَاء ، وهذا من أحسن التَّرْتيب ؛ فإنّ تقديم العِبَادة يكسر النَّفْسَ ، وبعد العِبَادة لا بُدَّ من الاشْتِغال بذكْرِ الله ، فإن به يَكْمُل الدُّعَاء ؛ كما حُكِيَ عن إبراهيم - عليه السَّلام - ؛ أنّه قدَّم الذِّكْر على الدُّعاء ، فقال : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ثم قال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ الشعراء : 83 ] ثم بيَّن - تبارك وتعالى - أنّ الَّذِين يَدْعُون فَريقان : أحدهما يطلب الدُّنْيَا ، والثَّاني يطلب الدُّنْيَا والآخِرة ، وقد بقي قِسْمٌ ثالثٌ وهو طلب الآخِرَةِ ؛ واخْتَلَفُوا في هذا القِسْم : هل هو مَشْرُوعٌ أم لا ؟ والأكثرونَ على أنّه غير مشروع ؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له بآلام الدُّنيا ؛ فالأولى أن يستعيذ بربِّه من كل شرٍّ في الدُّنيَا والآخِرة .
روى القفَّال{[3096]} في " تَفْسيرِه " عن أنس - رضي الله عنه - " أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ على رَجُلٍ يعُودُ ، قد أنهَكُه المَرَضُ حتَّى صَارَ كالفَرْخ ، فقال : ما كُنتُ تدعُوا الله به قَبْلَ هذا ؟ قال : كُنْتُ أقُولُ : اللَّهُمَّ ما كُنتَ تُعاقِبني به في الآخِرة فَعَجِّل بِهِ في الدُّنْيا ، فقال النبيُّ - عليه السلام - :سبحان الله ! ! إنّك لا تُطِيقُ ذلك ؛ هلا قُلْتَ : " ربنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة وفي الآخِرَةِ حَسَنَة وقِنَا عَذَابَ النَّارَ " قال : فدَعَا له رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَشُفِي " {[3097]} .
اختلفوا في الَّذِين يَقتَصِرُون في الدُّعاء على طلب الدُّنْيَا على قَوْلَيْن .
فقال قوم : هم الكُفَّار ؛ رُوِي عن ابن عَبَّاس - رضي الله عنهما - ؛ أنّ المُشْركين كانوا إذا وقَفُوا للدُّعاء ، يقولون : اللَّهُمَّ أعطِنا غنماً وإبلاً وبقراً ، وعبيداً ، وإماءً ، وكان الرَّجُل يقوم ويقُول : اللَّهُم إنّ أبي كان عظيم القُبَّة ، كبير الجَفْنَة ، كثير المال ؛ فأعطني مثلما أعطيْتَه{[3098]} ، ولم يَطْلُبُوا التَّوْبة والمغفِرة ؛ لأنهم كانوا مُنْكِرين البعثَ والمَعَاد .
وعن أنسٍ ؛ كانوا يقولون : اسْقِنا المطر ، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر{[3099]} ، فأخبر الله - تعالى - أنَّ من كان هكذا ، فلا خلاق لهُ في الآخِرَة ، أي : لا نَصِيبَ لهُ .
قال القرطبي{[3100]} : فنهُوا عن ذلك الدُّعاء المَخْصُوص بأمرِ الدُّنْيَا ، وجاء النَّهْي بصيغة الخَبَر عَنْهُم .
وقال آخرون : قد يكُونُوا مؤمِنِين ، ويسألون الله - تعالى - لِدُنياهُم لا لآخِرَتِهِم ، ويكون سُؤَالُهم هذا ذَنباً ؛ لأنهم سأَلُوا الله في أعظم المواقف حُطام الدُّنْيَا الفَانِي ، وأعْرَضُوا عن سُؤَال نعيم الآخِرة ، ويقال لِمَن فَعَل ذَلِك : أنّه لا خَلاَقَ لَهُ في الآخِرةِ ، وإن كان مُسْلِماً ؛ كما رُوِي في قوله - تعالى – { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ } [ آل عمران : 77 ] أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمينٍ فاجرةٍ .
ورُوِي عن النَّبيّ - عليه السَّلام - : إنّ الله يُؤَيِّد هذا الدِّين بأقْوَامٍ لا خَلاَق لَهُم{[3101]} ، ومعنى ذلك على وجوهٍ .
أحدها : أنّه لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَتُوب .
الثاني : لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَعْفُوا الله عنهُ .
والثالث : لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأَلَ الله - تعالى - لآخرته ، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمِينٍ فاجرةٍ ، كَخلاق من تورَّع عن ذلك ؛ ونظير هذه الآيةِ قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .