قوله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } " أَنْ " في محلِّ نَصْبٍ في مَوْضعين عند سيبويه{[2996]} والفراء{[2997]} ، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأَخْفَشِ ؛ لأنَّها على إضمارِ حَرْفِ الجَرِّ ، أي : في أَنْ ، وهذا الجارُّ متعلِّقٌ : إمَّا بجُناح ؛ لما فيه مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ وهو الميلُ والإِثمُ ، وما كانَ في معناهُمَا ، وإمَّا بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ ل " جُناح " فيكونُ مرفوعَ المحلِّ ، أي : جناحٌ كائنٌ في كذا .
ونقل أبو البقاء{[2998]} رحمه الله تعالى عن بعضهم ، أنه متعلقٌ ب " ليس " ، واسْتضْعَفُه . قال شهاب الدِّين : بل يُحْكَمُ بتخطئته ألبتة .
قوله : " مِنْ رَبِّكُمْ " يجوزُ أَنْ يتعلَّق بتبتغوا فيكون مفعولاً له ، وأَنْ يكون صِفَةٌ ل " فضلاً " ، فيكون منصوب المَحَلِّ ، مُتَعَلِّقاً بمحذوفٍ . و " منْ " في الوجهين لابْتِدَاء الغاية ، لكن فى الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ أي : كَائناً مِنْ فُضولِ ربكم .
قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ } يدلُّ على أنّ شُبْهَةً قَامَتْ عندهم في تحريم التجارة من وجوهٍ :
أحدها : أنَّه تبارك وتعالى منع الجِدَال في الحجِّ ، والتِّجَارةُ كثيرةُ الإفضاءِ إلى المُنازعَةِ في قلَّة القِيمَةِ وكثرتِهَا ؛ فوجَبَ أَنْ تكونَ التجارة مُحَرَّمةً .
ثانيها : أنّ التجارة كانت مُحرمةً في وقت الحج في الجاهليةِ ، وذلك شيءٌ ، حسَنٌ ؛ لأن المشتغل بالحج مشتغلٌ بخدمةِ الله تعالى ، فوجب ألاَّ يَشُوبَ هذا العملَ بالأطماعِ الدُّنيويَّةِ .
وثالثها : أنّ المسلمين عَلِمُوا أنّ كثيراً من المباحاتِ صارت مُحرمةً عليهم في الحج : كاللّبسِ ، والاصْطِيَادِ ، والطِّيبِ ، والمباشرة ، فغلب على ظنِّهم أنَّ الحجَّ لمَّا صار سبباً لحرمةِ اللبسِ مع الحاجَةِ إليه ، فأَوْلَى منه تحريمُ التجارةِ ؛ لقلة الاحتياج إليها .
ورابعها : عند الاشتغال بالصلاةِ يَحْرُمُ الاشتغالُ بالتجارةِ ؛ قال تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ } [ الجمعة : 9 ] فلهذا السبب ، بيّن اللَّهُ تعالى - هاهنا - أنَّ التجارةَ جائزةٌ غير مُحَرَّمةٍ .
فإذا عُرِفَ هذا ، فذكر المفَسِّرُونَ في قوله : { أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } وجهين :
الأوَّل : أَنَّ المراد هو التجارة ؛ نظيره قوله تعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ } [ المزمل : 2 ] وقوله :
{ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِنْ فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] ويدُلُّ عليه ما رَوَى عَطاءٌ عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وابن الزُّبير أنّهم قرأوا{[2999]} : " أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَواسِمِ الحَجِّ " .
وقال ابن عباسٍ : كان ناسٌ من العرب يَحْتَرِزُونَ مِنَ التجارةِ في أيَّامِ الحَجِّ ، وإذا دَخَلَ العَشْرُ ، بالغوا في تَرْك البيع والشِّراء بالكلية ، وكانوا يُسَمّون التاجر في الحج الدَّاجَّ ، ويقُولون : هؤلاء الدَّاجُّ ، وليسوا بالحاجِّ . ومعنى الدَّاجّ : المُكتسب الملْتَقِط ، وهو مشتقٌّ من الدَّجاجة وبلغُوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتَنَعُوا من إِغاثةِ الملهُوفِ والضعيفِ وإِطعام الجائع ؛ فأزال اللَّهُ هذا الوَهْمُ وبيّن أنّه لا جُناح في التجارة ، ولما كان ما قَبْل هذه الآية في أحكامِ الحج{[3000]} ، وما بعدها في الحج ، وهو قوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } دَلّ ذلك على أَنَّ هذا الحكمَ واقِعٌ في زمان الحجِّ ؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره .
وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رجلاً قال له : إنَّا قَوْمٌ نكري ، وإنَّ قَوماً يَزْعُمونَ أنّه لا حَجَّ لنا ، فقال : أَلَسْتُم تُحْرِمُونَ كما يُحْرِمون ، وتَطُوفُونَ كما يَطُوفُونَ ، وتَرْمُونَ كما يَرْمُونَ ؟ قلتُ : بَلَى ، قال : أنْتُم حُجَّاجٌ{[3001]} ؛ وجاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عمَّا سَأَلتني ، فلم يَرُدُّ عليه ؛ حَتَّى نزل قوله تعالى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } فَدَعَاهُ ، وقال : أَنْتُم حُجَّاجٌ .
وبالجملة فهذه الآية الكريمة نزلت رَدّاً على مَنْ يقول : لا حجَّ لِلتَّاجِرِ ، والأَجِيرِ ، والجَمَّالِ .
ورَوَى عمرو بن دِينارٍ ، عن ابن عباسٍ : أنَّ عُكَاظَ ومِجَنَّةَ ، وذا المجاز كانت أسواقاً في الجاهليَّة ، يتَّجرون فيها في أيَّام الموسِم ، وكانت مَعَايشُهم مِنْهَا ، فلمّا جاء الإسلامُ ، كرهوا أنْ يَتّجروا في الحج بغير إذنٍ ، فسألَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآيةُ{[3002]} .
وقال مجاهدٌ : إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بِعَرفة ، ولا مِنَى ، فنزلت هذه الآيةُ{[3003]} ، فلهذا حمل أكثرُ المفسرين الآية على التجارةِ في أيام الحجِّ ، وحَمَلَ أبُو مُسْلم{[3004]} الآية على ما بعد الحج ، قال : والتقديرُ : واتقوني في كل أفعالِ الحج ، وبعد ذلك { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } ونظيره قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا القولُ ضعيفٌ من وجوه ، لأَنَّ قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُم مِن عَرَفَاتٍ } يدلُّ على أنّ هذه الإفاضة حَصَلَتْ بعد ابتغاء الفَضْلِ ؛ لأن الفاءَ للتَّعْقيب ، وذلك يَدُلُّ على وُقُوع التجارة فيى زَمَانِ الحج .
وأيضاً فَحَملُ الآية على موضع الشُبْهَة ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِها على مَوْضع لا شُبْهَةَ فيه ، ومَحلُّ الشبهةِ ، هو التجارةُ في زمان الحجِّ ، وأَمَّا بعدَ فراغ الحجِّ ، فكُلُّ أَحَدٍ يعلمُ حلَّ التجارة .
فإن قيل : وكذلك أيضاً كل أَحَدٍ يعلمُ أَنَّ الصلاةَ إذا قُضِيت ، يُبَاحُ البيعُ والشِّرَاء ؛ فلماذا قال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ } .
قلنا لأنه أمَر قبله بالسَّعي ، ونهى عن البيع ، فقال : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ } فَنَهى عن البيع بعد النِّدَاءِ ، فلمَّا قال بعده : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّه } ، كأنّه قال : إِنَّ المانعَ الذي مَنَعَكُمْ من البَيْعِ قد زال ؛ فانْتَشِرُوا في الأرض ، وابتغُوا من فضل الله .
وأمَّا قِياسُ الحجِّ على الصلاةِ ، فالفرقُ بينهما : أنّ الصلاة أعمالُها مُتَّصِلَةٌ ، فلا يَحِلُّ في أثنائِهَا التشاغلُ بغيرها ، وأَمّا أعمال الحج ، فهي مُتَفرِّقَةٌ بعضها عن بعضٍ ، ففي خلالها لا يبقى المرءُ على الحكم الأول ، فتصيرُ الصلاةُ عملاً واحداً من أعمالِ الحج ، لا مَجْمُوعَ الأَعْمَالِ ، وأيضاً فقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } تَصريحٌ بأَنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج .
فإن قيل : حُكمْ باقٍ في كل تلك الأَوقاتِ ؛ بدليل حُرْمَةِ التطيب{[3005]} واللَّبسِ .
فالجوابُ : هذا قياسٌ في مقابلة{[3006]} النص .
القولُ الثاني : قال أبو جعفرٍ محمد بن علي الباقر : المرادُ بقوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } هو أَنْ يبتغي الإنسانُ حال كونه حاجّاً أعمالاً أخَرَ ، تكونُ مُوجِبةً لاستحقاقِ فضْلِ الله ورحمته مِثْلَ إِعانَةِ الضَّعيف ، وإغَاثَةِ الملهوف ، وإطعام الجَائِعِ{[3007]} ، واعترضَ عليه القاضي : بأَنّ هذا واجبٌ ، أو مَنْدُوبٌ ، ولا يُقالُ في مِثله : لا جَنَاحَ عَليكُم فيه ، إِنَّما يُذكر هذا اللفظ في المُبَاحَاتِ{[3008]} .
والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أَنَّ هذا اللفظَ لا يُذكرُ إلاّ في المُبَاحَاتِ لقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ } [ النساء : 101 ] والقصْرُ مندوبٌ وكما قال تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا }
[ البقرة : 158 ] والطوافُ ركنٌ في الحج ، وإنّما أهلُ الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ ضَمَّ سَائِرِ الطاعَاتِ إلى الحجِّ ، يُوقِعُ خَلَلاً في الحج ، ونَقْصاً ؛ فبيَّن اللَّهُ تعالى بقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَنَاحٌ } أنّ الأمر ليس كذلك .
اتفقُوا على أنّ التجارة إنْ أوْقعت نَقْصاً في الطاعة ، لم تَكُنْ مباحةً ، وإِنْ لم تُوقِعْ نقصاً في الطاعةِ ، كانت مُبَاحةً ، وتركها أَوْلَى ؛ بقوله تعالى : { وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
[ البينة : 5 ] ، والإخلاصُ هو ألاَّ يكونَ له حَامِلٌ على الفِعْل سِوى كونهِ عبادةً ، والحاصِلُ أنّ الإِذْنَ في هذه التجارة جَار مَجْرَى الرُّخَصِ .
قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ } العاملُ فيها جَوَابُها ، وهو " فَاذْكُرُوا " قال أبُوا البقاءِ{[3009]} رحمه الله " ولا تمنَعُ الفاءُ مِنْ عَمَل ما بعدَها ، فيما قَبْلَها ؛ لأنه شَرْطٌ " .
ومَنَعَ أبُو حَيَّان مِنْ ذلك بما معناه : أنَّ مكانَ إنشاءِ الإِفَاضَةِ غيرُ مكانِ الذكْرِ ؛ لأنَّ ذلك عَرَفَاتٌ ، وهذا المَشْعَرُ الحَرَامُ ، وإِذَا اختلفض المَكَانُ ، لزم منه اختلافُ الزمَان ضرورةً ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يكونَ الذكْرُ عند المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاقِعاً عند إنْشاء الإِفَاضَة .
قوله : " مِنْ عَرَفَاتٍ " مُتَعلِّقٌ ب " أَفَضْتُم " والإِفَاضَةُ في الأَصْلِ : الصبُّ ، يُقالُ ، فَاضَ الإِناءُ ، إذا امْتَلأَ حَتَّى ينصبَّ عن نواحيه . ورجلٌ فيَّاضٌ ، أي : مندفقٌ بالعطاءِ ؛ قال زُهيرٌ : [ الطويل ]
998 - وَأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ *** عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ{[3010]}
ويقالُ : فاضَ الماءُ وأَفَضْتُه ، ثم يُستعملُ في الإِحْرامِ مَجَازاً . والهَمْزَةُ في " أَفَضْتُم " فيها وجهان :
أحدُهما : أنها للتعدية ، فيكون مفعولُه مَحْذُوفاً ، تقديره : أَفَضْتُم أنفسكم ، وهذا مَذْهب الزجاج ، وتبعَهُ الزَّمَخْشَريُّ{[3011]} ، وقَدَّره الزجاجُ فقال : معناه : دَفَعَ بعضُكم بَعْضاً والإِفَاضَةُ : الاندفاعُ في السَّيْرِ بكثرةٍ ، ومنه يُقالُ : أَفَاضَ البَعِيرُ بجرِته ، إذا وقع بها فألقاها منبثة ، وكذلك أَفَاضَ القِداحَ في المَيْسِر ، ومعناه : جمعها ، ثم أَلقاها مُتَفَرِّقَةً ، وإِفَاضَة الماءِ من هذا ؛ لأنه إذا صُبَّ ، تَفَرَّق ، والإِفَاضَةُ في الحديث ، إِنَّما هو الاندفاعُ فيه بإكثارٍ ، وتصرُّفٍ في وُجُوهِهِ ؛ قال تعالى : { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [ يونس : 61 ] ، قال بعضُهم : ولَيْسَ كذلك ؛ لما يأتي ، ومنه يُقال للناس : فَوْض ، ومثلهم فَوْضَى ، ويُقال : أَفَاضَت العينُ دَمْعَها . فأصلُ هذه الكلمة : الدفعُ للشيءِ حتى يتفرقَ ، فقوله تعالى : " أَفَضْتُم " ، أي : دَفَعْتُم بكثرة ، وأصلُه : أَفَضْتُم أَنْفُسَكُم ، فتُرِك ذِكْرُ المفعول كما تُركَ في قولهم : دَفَعُوا مِنْ مَوضِعِ كَذَا ، وَصَبُّوا .
والوجه الثاني : أَنّ أَفْعَل هنا ، بمعنى " فَعَلَ " المجردِ فلا مفعول له . قال أبو حيَّان : لأنه لا يحفّظُ : أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه آنفاً وأَصلُ أَفَضْتُم : أفْيَضْتُم فأُعِلَّ ؛ كنظائره ، بأَنْ نُقِلَتْ حَركَةُ حَرفِ العِلَّةِ على السَّاكِن قبلهُ فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصل ، وانْفَتَحَ ما قبله ؛ فَقُلِب ألفاً ، وهو مِنْ ذواتِ الياءِ من الفَيْض ، كما تقدَّمَ ، وليس مِنْ ذواتِ الواوِ من قولهم : فَوْضَى الناسِ ، وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائِسٍِ .
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مَخْصُوصٍ ، وهل هو مشقٌّ أو مُرْتَجَلٌ ؟ قولان :
أحدهما : أنه مرتجلٌ ، وإليه ذهب الزمخشريُّ ، قال : " لأنَّ العَرَفَةَ لا تُعْرَفُ في أسماءِ الأجناس ؛ إلا أنْ تكونَ جمعَ عارفٍ " .
والثَّاني : أنه مُشتقٌّ ، واختُلِف في اشتقاقه ، فقيل : مِنَ المَعْرِفة ؛ لأنَّ إبراهيم - عليه السلام - لَمَّا عرَّفه جبريلُ هذه البقعة بالنَّعْتِ ، والصِّفَةِ ؛ فَسُمِّيَتْ " عَرَفَاتٍ " قاله عليٌ ، وابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ والسُّدّيُّ{[3012]} .
قال السُّدِّيُّ : لمّا أَذَّنَ إبراهيم في الناس بالحجِّ ، فأجابوه : بالتَّلبية ، وأتاهُ مَنْ أَتَاهُ - أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَخْرُجَ إلى عَرَفاتٍ ، ونعتها له ، فخرج ، فلمَّا بَلَغَ الشجرة عند العقبةِ ، استقبلَهُ الشيطانُ ؛ يَرُدُّهُ ؛ فرماه بسبع حَصَيَاتٍ ، يُكَبّرُ مع كُلِّ حَصَاة ، فَطَار ، فَوقَعَ على الجمرة الثَّانية ؛ فرمَاهُ وكبِّر [ فطار ، فَوقع على الجَمْرة الثالثة ؛ فرماه وكبّر ]{[3013]} ، فلمّا رأى الشَّيطانُ أنَّه لا يُطيعُهُ ؛ ذهب ، فانطلق إبراهيم حتَّى أتى ذا المجازِ ، فلمّا نظر إليه ، لم يَعْرِفه ، فجاز فسُمِّي ذا المجاز ، ثمَّ انطلق حتَّى وقَفَ بعرفاتٍ فعرفها بالنَّعْت ؛ فسُمِّي الموقف " عَرَفَة " والموضعُ " عَرَفَاتٍ " ، حتى إذا أَمْسَى ازْدَلَف أي قَرُبَ إلى جَمع فسُمِّي المُزْدَلَفَة{[3014]} .
وقال عطاء : إنّ جبريل - عليه السلام - علّم إبراهيم - عليه السّلام - المَنَاسِك ، وأوْصَلَه إلى عَرَفاتٍ ، وقال له : أعَرَفْتَ كيف تَطُوفُ ، وفي أي مَوْضعٍ تَقِف ؟ قال : نعم{[3015]} .
وقيل : إن إبراهيم - عليه السلام - وضَعَ ابنهُ إسماعيل وأمَّه هاجر بمكَّة ، ورجع إلى الشَّام ولم يَلْتَقِيا سِنين ، ثم الْتَقَيَا يوم عَرَفَة بِعَرَفَات{[3016]} .
وقال الضَّحَّاك : إنّ آدم وحَوَّاء - عليهما السلام - التَقَيَا بعرَفة ، فعرَفَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما صاحِبَه ؛ فسُمِّي اليوم عَرَفَة والمَوْضِع بعَرَفَاتٍ ؛ وذلك أنَّهما لمّا أُهْبِطا من الجَنَّة ، وقع آدم بسَرَنْدِيب ، وحوّاء بجَدَّة ، وإبليس ببيسان والحية ب " أصْفهان " فلمّا أَمَر الله - تعالى - آدم - عليه السّلام - بالحجِّ ، لقي حواء بعَرَفَاتٍ فتعارفا ، قاله ابن عبَّاس{[3017]} .
وقيل : إنّ آدم - عليه السّلام - علّمهُ جبريل مَنَاسِك الحَجِّ ، فلمّا وقَفَ بعَرَفَاتٍ قال له : أَعَرفتَ ؟ قال : نعم ، فسُمِّي عَرَفَاتٍ{[3018]} .
وقيل : إن الحجاج يتعارَفُون بعَرَفَاتٍ إذا وَقَفُوا{[3019]} .
وقيل : إنّه - تبارك وتعالى - يتعرّف فيه إلى الحُجَّاجِ بالمَغْفِرة والرَّحْمة{[3020]} .
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ ؛ أنّ إبراهيم - عليه السّلام - رأى ليلة التَّروية في منامه ، أنَّه يؤمر بذبح ولده ، فلما أصبح روَّى يومه أجمع ، أي : فكّر أمنَ الله هذه الرُّؤيا أم من الشَّيطان ؟ فسمِّي اليوم يوم التَّروية . ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً ، فلمّا أصبح عرف أنّ ذلك من الله ، فسمي اليوم عرفة{[3021]} .
[ وقيل : مشتقَّة من العرف ، وهو الرائحة الطيبة ] .
{ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 6 ] أي طيَّبها لهم ، فيكون المعنى : أن المذنبين لمّا تابوا في عرفات ، فقد تخلَّصوا من نجاسات الذُّنوب ، واكتسبوا عند الله رائحةً طيِّبة .
وقيل : أصله من الصَّبر : يقال : رجل عارفٌ ؛ إذا كان صابراً خاشعاً ؛ قال ذو الرُّمَّة في ذلك : [ الطويل ]
999 - . . . *** عَرُوفٌ لِمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ المَقَادِرُ{[3022]}
أي : صبورٌ على قضاء الله - تعالى - فسمِّي بهذا الاسم ؛ لخضوع الحاجِّ وتذللِّهم وصبرهم على الدُّعاء ، واحتمال الشَّدائد لإقامة هذه العبادة .
وقيل : مشتقَّة من الاعتراف ؛ لأن الحاجَّ إذا وقف اعترف للحقِّ بالربوبيَّة والجلال والاستغناء ، ولنفسه بالفقر والذِّلَّة والمسْكَنَة والحاجة .
وقيل : إنّ آدم وحوّاء - عليهما السّلام - لمّا وقفا بعرفاتٍ ، قالا :
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] قال الله - سبحانه وتعالى - : " الآن عَرَفْتُمَا أَنْفُسَكُما " {[3023]} .
وقيل : من العرف ، وهو الارتفاع ، ومنه عرف الدّيك ، وعرفات جمع عرفة في الأصل .
ثم سمّي به بقعة واحدة كقولهم : ثوبٌ أخلاقٌ ، وبرمةٌ أعشار ، وأرضٌ سباسب ، والتَّقدير ، كان كلُّ قطعة من تلك الأرض عرفة ، فسمِّي مجموع تلك القطع بعرفاتٍ .
والمشهورُ : أنَّ عرفات وعرفة واحدٌ ، وقيل : عرفة اسم اليوم ، وعرفات اسم مكان ، وعرفة هي نعمان الأراك ؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أَرَاكَةٍ *** لِهِنْدٍ وَلَكِنْ مَنْ يُبْلِّغُهُ هِنْدَا{[3024]}
والتنوين في عرفاتٍ وبابه فيه ثلاثة أقوال :
أظهرها : أنه تنوين مقابلةٍ ، يعنون بهذا أنَّ تنوين هذا الجمع مقابلٌ لنون جمع الذكور ، فتنوين مسلماتٍ مقابلٌ لنون مسلمين ، ثم جعل كلُّ تنوين في جمع الإناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - طرداً للباب .
والثاني : أنه تنوين صرف ، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ ؛ فإنه قال : " فإن قلتَ : فَهَلاَّ مُنِعَتِ الصَّرْفَ ، وفيها السببان : التعريف والتأنيث ؛ قلت : لا يخلو التأنيث : إما أن يكون بالتاء التي في لفظها ، وإما بتاء مقدَّرة ؛ كما هي في " سُعاد " ، فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنَّث ، ولا يصحُّ تقدير التاء فيها ؛ لأنَّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعةٌ من تقديرها ، كما لا تقدَّر تاء التأنيث في " بِنْتٍ " ؛ لأنَّ التاء التي هي بدلٌ من الواو ؛ سبباً فيها ، فصار التنوين عنده للصَّرف .
وأجاب غيره{[3025]} من عدم امتناع صرفها : بأنَّ هذه اللَّفظة في الأصل اسمٌ لقطع كثيرة من الأرض ، كلُّ واحدة منها تسمى بعرفة ، وعلى هذا التَّقدير لم يكن علماً ، ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف .
والثالث : أنَّ جمع المؤنث ، إن كان له جمعٌ مذكرٌ ؛ كمسلمات ومسلمين ، فالتنوين للمقابلة ، وإلاَّ فللصَّرف ؛ كعرفاتٍ .
والمشهور - حال التسمية به - أن يُنوَّن ويعرب بالحركتين : الضمة والكسرة ؛ كما لو كان جمعاً ، وفيه لغةٌ ثانيةٌ : وهو حذف التنوين تخفيفاً ، وإعرابه بالكسرة نصباً . والثالثة : أعرابه غير منصرف بالفتحة جرًّا ، وحكاها الكوفيُّون والأخفش{[3026]} ، وأنشد قول امرئ القيس : [ الطويل ]
تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتَ وَأَهْلهَا *** بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي{[3027]}
اعلم أنَّ اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة يسمَّى يوم التَّروية ، والتَّاسع : يوم عرفة ، وقد تقدَّم تعليل يوم عرفة ، وأمَّا التَّروية ففيه قولان :
أحدهما : ما تقدَّم من تروِّي إبراهيم - عليه السَّلام - في منامه ، من روَّى يروِّي تروية ؛ إذا تفكَّر وأعمل فكره ورؤيَّته .
وقيل : إن آدم - عليه السلام - أمر ببناء البيت ، فلمَّا بناه تفكَّر فقال : رب ، إنَّ لكلِّ عاملٍ أجراً ، فما أجري على هذا العمل ؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك . قال : رب زدني ، قال : لأغفرنّ لأولادك إذا طافوا به ، قال : رب زدني ، قال : أغفر لكلِّ من استغفر له الطَّائفون من موحدي أولادك . قال : حسبي يا ربِّ حسبي{[3028]} .
وقيل : إنَّ أهل مكَّة يخرجون يوم التَّروية إلى منى فيروُّون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في الغد بعرفات{[3029]} .
الثاني : من رواه بالماء يرويه ؛ إذا سقاه من عطشٍ ، فقيل : إن أهل مكَّة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق ، وكان الحاجُّ يستريحون في هذا اليوم من مشاقِّ السَّفر ، ويتسعون في الماء ، ويروون بهائمهم بعد مقامهم بسبب قلَّة الماء في الطَّريق{[3030]} .
وقيل : إنهم يتزوَّدون الماء{[3031]} إلى عرفة .
وقيل : إنَّ المذنين كالعطاش الَّذين وردوا بحار رحمة الله - تعالى- ، فشربوا منها حتى رووا .
دلّ عليه قوله تعالى : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } [ الفجر : 3 ] ، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : " الشَّفْعُ " ؛ يوم التَّروية وعرفة ، والوتر يوم النَّحر{[3032]} .
وعن عبادة ؛ أنه - عليه السّلام - قال : " صِيَامُ عَشْر الأضْحَى كُلُّ يومٍ مِنْها كالشَّهْرِ ، ولِمَن يَصُوم يَوْم التَّروية سَنَة ، وبصَوْم يوم عَرَفَة سَنَتَانِ{[3033]} " .
وروى أنس عنه - عليه السلام - ؛ قال : " مَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرويَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَثْلَ ثَوَابِ عِيسَى ابْنِ مَريمَ{[3034]} " ، وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصَّة به ، وخمسة يشترك فيها مع غيره ، فالخمسة الأول :
أحدها : عرفة وتقدَّم اشتقاقه .
الثاني : يوم إياس الكفَّار من دين الإسلام ؛ قال - تبارك وتعالى - :
{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } [ المائدة : 3 ] .
قال عمر ، وابن عبَّاس : نزلت هذه الآية الكريمة عشيَّة عرفة ، والنَّبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم - عليه السلام - : ، وذلك في حجَّة الوداع وقد اضمحلَّ الكفر وهدم شأن الجاهليَّة ، فقال النبيُّ - عليه السلام - : " لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما لَهُم في هذه الآية ، لقَّرَّت أَعْيُنُهُم " فقال يهوديُّ لعمر : لو أنَّ هذه الآية نَزَلَت عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْم عِيداً ، فقال عُمَر : أمَّا نَحْنُ فَجَعَلْنَاهُ عيدين ؛ كان يوم عَرَفَة ويَوم الجُمُعَة{[3035]} ، ومعنى إياس المشركين بأنَّهم يئسوا من قوم محمَّد - عليه السَّلام - أن يرتَدّوا [ راجعين ] إلى دينهم .
الثالث : يوم إكمال الدِّين ؛ نزل فيه قول تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] فلم يأمرهم بعد ذلك بشيءٍ من الشَّرائع .
الرابع : يوم إتمام النِّعمة ؛ لقوله فيه : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }
[ المائدة : 3 ] وأعظم النِّعم نعمة الدِّين .
الخامس : يوم الرِّضوان ؛ لقوله تعالى في ذلك اليوم :
{ وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً } [ المائدة : 3 ] .
فأحدها : يوم الحجِّ الأكبر ؛ قال تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } [ التوبة : 3 ] وهذا الاسم مشترك بينه وبين يوم النَّحر ، واختلف فيه الصَّحابة - رضي الله عنهم – والتابعون :
فمنهم من قال : إنَّه عرفة ؛ لأنَّ فيه الوقوف بعرفة " والحَجُّ عَرَفَة " فإنَّه لو أدركه وفاته سائر مناسك الحجِّ ، أجزأ عنها الدَّم ، فلهذا سمِّي بالحَجِّ الأكبر .
وقال الحَسَن{[3036]} : سمِّي به ؛ لأنه اجتمع فيه الكفَّار والمسلمون ، ونودي فيه على ألاَّ يحجَّ بعده مشرك .
وقال ابن سيرين{[3037]} : إنما سمِّي به ؛ لأنَّه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلِّها ؛ من اليهود والنَّصارى وحجِّ المسلمين ، ولم يجتمع قبله ولا بعده .
ومنهم من قال : إِنَّه يوم النَّحر ؛ لأن فيه أكثر مناسك الحجِّ ، فأمَّا الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ باللَّيل .
وخامسها : المشهود في قوله تعالى : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ }{[3038]} [ البروج : 3 ] .
من دخل مكَّة محرماً في ذي الحجَّة أو قبله ، فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم ، وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتِّعاً طاف وسعى وحلق ، وتحلَّل من عمرته ، وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفاتٍ ، وحينئذٍ يحرم من مكَّة بالحجِّ ويخرج ، وكذلك من أراد الحجَّ من أهل مكَّة ، والسُّنَّة أن يخطب الإمام بمكَّة يوم السَّابع من ذي الحجَّة ، بعد أن يصلِّي الظُّهر خطبة واحدة ، يأمرهم فيها بالذِّهاب غداً بعد صلاة الصُّبح إلى منى ، ويعلمهم تلك الأعمال ، ثم يذهبون يوم التَّروية وهو اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة إلى منى ، بحيث يوافون الظُّهر بها ، ويصلُّون بها الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والصُّبح من يوم عرفة ، فإذا طلعت الشَّمس على ثبيرٍ{[3039]} يتوجَّهون إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسُّنَّة ألاَّ يدخلوها ، بل يضرب فيه الإمام بنمرة{[3040]} ، وهي قريبة من عرفة ، فينزلون هناك حتَّى نزول الشَّمس ، فيخطب الإمام خطبتين ، يبيِّن لهم مناسك الحجِّ ، ويُحرِّضهم على كثرة الدُّعاء والتَّهليل بالموقف ، فإذا فرغ من الخطبة الاولى ، جلس ثم قال ، وافتتح الخطبة الثَّانية والمؤذِّنون يأخذون في الأذان معه ، ويخفِّف بحيث يكون فراغه من الخطبة ، مع فراغ المؤذِّنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذِّنون فيصلِّي بهم الظُّهر ، ثم يقيمون في الحال ويصلِّي بهم العصر ، وهذا الجمع متفقٌ عليه ، فإذا فرغوا في الصَّلاة توجَّهوا إلى عرفاتٍ ، فيقفون عند الصَّخرات موقف النَّبي صلى الله عليه وسلم ويستقبلون القبلة ويذكرون الله - تعالى - ويدعونه إلى غروب الشَّمس .
وهنا الوقوف ركنٌ لا يدرك الحجُّ إلاّ به ، فمن فاته في وقته وموضعه ، فقد فاته الحجُّ ، ووقت الوقوف يدخل بزوال الشَّمس من يوم عرفة ، ويمتدُّ إلى طلوع الفجر من يوم النَّحر ، وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، فإذا حضر الحاجُّ هناك في هذا الموقف لحظة واحدة من ليل أو نهار ، كفاه .
قال القرطبيّ{[3041]} - رحمه الله تعالى - : أجمع أهل العلم على أنَّ من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزَّوال ، ثم أفاض منها قبل الزَّوال أنّه لا يعتدّ بوقوفه ذلك ، وأجمعوا على تمام حجِّ من وقف بعرفة بعد الزَّوال ، وأفاض نهاراً قبل اللَّيل إلاَّ مالك ؛ فإنَّه قال : لا بدَّ أن يأخذ من اللَّيل شيئاً ، وأمَّا من وقف بعرفة باللَّيل ، فإنّه لا خلاف بين الأئمَّة في تمام حجِّه ، [ فإذا غربت الشَّمس ، دفع الإمام من عرفات وأخّر صلاة المغرب ]{[3042]} وعند أحمد - رضي الله عنه - وقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر .
قال القرطبيّ{[3043]} : لا خلاف بين العلماء أنَّ الوقوف بعرفة راكباً لمن قدر عليه أفضل ؛ لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وعرفة كلها موقف إلاّ بطن عُرنَة .
قال : ولا بأس بالتَّعريف في المساجد يوم عرفة ؛ تشبيهاً بأهل عرفة .
فإذا غربت الشَّمس دفع الإمام من عرفات ، وأخَّر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة .
وفي تسميتها بالمزدلفة{[3044]} أقوال :
أحدها : أنّهم يقربون فيها من منى ، والأزدلاف : القرب .
والثاني : أنّ النَّاس يجتمعون فيها ، والاجتماع الازدلاف .
والثالث : يزدلفون إلى الله - تعالى - ، أي : يتقرَّبون بالوقوف ، ويقال للمزدلفة : جمع ؛ لأنَّه يجمع فيها بين المغرب والعشاء ؛ قاله قتادة{[3045]} .
وقيل : إنّ آدم - عليه السلام - اجتمع فيها مع حوَّاء ، وازدلف إليها{[3046]} ، أي : دنى منها ، فإذا أتى الإمام المزدلفة ، جمع المغرب والعشاء بإقامتين ، ثم يبيتون بها ، فإن لم يبت بها فعليه دم [ شاة ] ، فإذا طلع الفجر ، صلُّوا الصُّبح بغلس ، والتَّغليس هنا أشدُّ استحباباً منه في غيره بالاتِّفاق ، فإذا صلُّوا الصبح ، أخذوا منها حصى الرَّمي ، كُلُّ إنسانِ سبعين حصاة ، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقال له : " قزح " ، وسُمِّي مشعراًً ؛ لأنَّه من الشِّعار وهو العلامة ؛ لأنه معلم الحجِّ ، والصَّلاة والمبيت به ، والدعاء عنده من شعائر الحجِّ ، وسمِّي بالحرام لحرمته وهو أقصى المزدلفة مما يلي منى ، فيرقى عليه إن أمكنه ، أو يقف قريباً منه إن لم يمكنه ، ويحمد الله - تعالى - ويهلِّله ويكبِّره إلى أن يسفر جداً ، ثم يدفع قبل طلوع الشَّمس ، ويكفي المرور كما في عرفة ، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر{[3047]} ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً ، حَرَّك دابته ، ومن كان ماشياً ، أسرع قدر رمية بحجر ، فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة في بطن الوادي بسبع حصيات ، يقطع التَّلبية مع ابتداء الرَّمي ، فإذا رمى جمرة العقبة ، ذبح الهدي وإن كان معه ، والهدي سنّة لو تركه ، فلا شيء عليه ، فإذا ذبح حلق رأسه ، أو قصَّر شعره بأن يقطع طرفه ، ثم يأتي إلى مكَّة بعد الحلق ، فيطوف بالبيت طواف الإفاضة ، ويسمّى طواف الزِّيارة ، ويصلي ركعتي الطَّواف ، ويسعى بين الصَّفا والمروة ، ثم يعود إلى منى في بقيَّة يوم النَّحر ، وعليه المبيت بمنى ليالي التَّشريق لأجل الرَّمي ، وسمِّيت " منى " لأنه يمنى فيه الدَّم ، أي : يراق ، فإذا حصل الرَّمي والحلق والطَّواف ، فقد حلّ .
اعلم أنّ أهل الجاهليَّة كانوا قد غيَّروا مناسك الحجِّ عن سنَّة إبراهيم - عليه السلام - وذلك أنّ قريشاً وقوماً آخرين سمُّوا أنفسهم بالحمس ، وهم أهل الشِّدَّة في دينهم ، والحماسة الشِّدَّة ، يقال : رجل أحمس وقوم حمسٌ ، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفاتٍ ، ويقولون : لا نخرج من الحرم ، ولا نتركه وقت الطَّاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفاتٍ والَّذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل غروب الشَّمس ، والذين يقفون بالمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشَّمس ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، ومعناه : أشرق يا ثبير بالشَّمس ، كيما نندفع من مزدلفة ، فيدخلون في غور من الأرض ، فأمر الله - تعالى - محمَّداً - عيله السَّلام - بمخالفة القوم في الدُّفعتين ، فأمره بأن يفيض من عرفة بعد المغرب ، وبأن يفيض من مزدلفة قبل طلوع الشَّمس ، فالسُّنَّة بيَّنت المراد من الآية الكريمة .
الآية دلَّت على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام ، عند الإفاضة من عرفات ، والإفاضة من عرفة مشروطة بالحصول في عرفة ، ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلَّف ، فهو واجبٌ ، فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الحصول في عرفاتٍ واجبٌ في الحجِّ ، فإذا لم يأت به لم يكن آتياً بالحجِّ المأمور ؛ فوجب ألاَّ يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً .
أقصى ما في الباب : أنّ الحجَّ يحصل عند ترك بعض المأمورات بدليل منفصل ، إلاّ أنّ الأصل ما ذكرنا ، وذهب كثير من العلماء إلى أنّ الآية لا دلالة فيها على أنّ الوقوف شرطٌ ، ونقل عن الحسن{[3048]} أن الوقوف بعرفة واجبٌ ، إلاَّ أنه إن فاته ذلك ، قام الوقوف بجميع الحرم مقامه ، واتَّفق الفقهاء على أنّ الحجَّ لا يحصل إلاّ بالوقوف بعرفة .
قوله : { عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب " اذْكُرُوا " .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل " اذْكُرُوا " أي : اذكروه كائنين عند المشعر .
والمشعر : المعلم من الشِّعار وهو العلامة ؛ لأنّه من معالم الحجِّ ، وأصله قولك : شعرت بالشَّيء إذا علمته ، وليت شعري ما فعل فلانٌ ، أي : ليت بلغه وأحاط به ، وشعار الشَّيء علامته ، واختلفوا :
فقال بعضهم : هو المزدلفة ، لأن الصَّلاة والمقام والمبيت بها ، والدُّعاء عنده ، قاله الواحدي في البسيط{[3049]} .
وقال الزَّمخشري : الأصحُّ أنه قزح وهو آخر المزدلفة .
وقال ابن الخطيب{[3050]} - رحمه الله تعالى - : والأول أقرب ؛ لأنَّ الفاء في قوله : { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } تدلُّ على أنّ الذِّكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات ، وما ذاك إلاّ البيتوتة بالمزدلفة .
قوله : { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } يدلُّ على أن الحصول عند المشعر الحرام واجبٌ ، ويكفي فيه المرور به ، كما في عرفة ، فأمَّا الوقوف هناك فمسنون .
وروي عن علقمة والنَّخعي ؛ أنّهما قالا : الوقوف بالمزدلفة ركنٌ بمنزلة الوقوف بعرفة ، لقوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } ، فإذا قلنا : بأن الوقوف بعرفة ركن وليس ذكره صريحاً في الكتاب ، وإنَّما وجب بإشارة الآية الكريمة أو بالسُّنَّة - فالمشعر الحرام فيه أمر جزمٌ .
وقال جمهور الفقهاء : ليس برِكن ؛ لقوله - عليه السلام - : " الحَجُّ عَرَفَةُ ، فمن وقف بعرفة ، فقد تم حجُّه " وقوله " مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَة فَقَدْ أَدْرَك الحَجَّ ، ومن فاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ{[3051]} " ، وأيضاً فقوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } أمر بالذِّكر لا بالوقوف فالوقوف بالمشعر الحرام يقع للذِّكر ، وليس بأصلٍ ، وأمّا الوقوفَ بعرفة فهو أصلٌ ؛ لأنه قال : { فإِذَآ أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ } ولم يقل عند الذكر بعرفاتٍ .
اختلفوا في الذِّكر المأمور به عند المشعر الحرام .
فقال بعضهم{[3052]} : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء ، والصَّلاة تسمَّى ذكراً ؛ قال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] ، وأيضاً فإنه أمر بالذِّكر هناك ، والأمر للوجوب ، ولا ذكر هناك يجب إلاَّ هذا .
وقال الجمهور : هو ذكر الله بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : كان النّاس إذا أدركوا هذه اللَّيلة لا ينامون{[3053]} .
قوله : " كَمَا هَدَاكُمْ " فيه خمسة أقوال :
أحدها : أن تكون " الكَافُ " في محلّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوفٍ .
والثاني : أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المقدَّر ، وهو مذهب سيبويه .
والثالث : أن يكون في محلِّ نصب على الحال من فاعل " اذْكُرُوا " تقديره : مشبهين لكم حين هداكم ، قال أبو البقاء{[3054]} : " ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ؛ لأنَّ الجُثَّة لا تشبه الحدث " .
ومثله : " كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ " الكاف نعت لمصدر محذوف .
قال القرطبيّ : والمعنى : " اذْكُرُوه ذكْراً حسناً كما هَدَاكُمْ هِدَاية حَسنَة " .
الثالث : أن يكون حالاً ، تقديره : فاذكروا الله مبالغين .
والرابع : للتعليل بمعنى اللام ، أي : اذكروه لأجل هدايته إيَّاكم ، حكى سيبويه{[3055]} رحمه الله : " كَمَا أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ ، فتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ " . وممَّن قال بكونها للعلِّيَّة الأخفش وجماعةٌ .
و " مَا " في " كَمَا " يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون مصدريةً ، فتكون مع ما بعدها في محلِّ جر بالكاف ، أي : كهدايته .
والثاني - وبه قال الزمخشريُّ وابن عطية - أن تكون كافَّةً للكاف عن العمل ، فلا يكون للجملة التي بعدها محلٌّ من الإعراب ، بل إن وقع بعدها اسم ، رفع على الابتداء كقول القائل : [ الطويل ]
وَنَنْصُرُ مَوْلاَنَا ونَعْلَمُ أَنَّهُ *** كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ{[3056]}
لَعَمْرُكَ إنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ *** كَمَا النَّشْوَانُ والرَّجُلُ الْحَلِيمُ
أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي *** وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمُ{[3057]}
وقد منع صاحب " المُسْتَوْفى{[3058]} " كون " مَا " كافةً للكاف ، وهو محجوجٌ بما تقدّم .
والخامس : أن تكون الكاف بمعنى " عَلَى " ؛ كقوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] .
فإن قيل : قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } ثم قال : " وَاذْكُرُوهُ " فما فائدة هذا التَّكرار ؟
أحدها : أنّ أسماء الله - تعالى - توقيفيَّة ؛ فقوله أولاً : { وَاذْكُرُواْ اللَّهَ } أمر بالذِّكر ، وقوله تعالى : { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُم } أمر بأن نذكره بالأسماء والصِّفات التي بيَّنها لنا وهدانا إليها ، لا بأسماء تذكر بحسب الرَّأي والقياس .
وقيل : أمر بالذِّكر أولاً ، ثم قال : { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } ، أي : وافعلوا ما أمركم به من الذِّكر كما هداكم لدين الإسلام ، كأنّه قال : إنَّما أمرتكم بهذا الذِّكر ؛ لتكونوا شاكرين لتلك النِّعمة ، ونظيره ما أمرهم به من التكبير عند فراغ رمضان ، فقال : { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ، وقال في الأضاحي :
{ كَذلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ الحج : 37 ] .
وقيل : أمر أولاً بالذِّكر باللِّسان ، وثانياً بالذِّكر بالقلب ، فإن الذكر في كلام العرب ضربان :
أحدهما : الذِّكر ضد النِّسيان .
فالأول : كقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] .
والثاني : كقوله : { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، و
{ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] فالأول محمول على الذِّكر باللِّسان ، والثاني على الذكر بالقلب .
وقال ابن الأنباري{[3059]} : معنى قوله : { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } أي : اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته .
وقيل : المراد مواصلة الذكر بالذِّكر ؛ كأنه قيل لهم : اذكروا الله واذكروه ، أي : اذكروه ذكراً بعد ذكر ؛ كما هداكم هداية بعد هداية ، نظيره قوله : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] .
وقيل : المراد بالذكر الأول : ذكر الله بأسمائه وصفاته الحسنى ، والمراد بالثاني : الاشتغال بشكر نعمائه والشُّكر مشتمل أيضاً على الذِّكر .
قال بعضهم{[3060]} : إن هذه الهداية خاصَّة ، والمراد : كما هداكم في مناسك حجِّكم إلى سنَّة إبراهيم - عليه السلام - .
وقال بعضهم{[3061]} : بل هي عامَّة متناولة لكل أنواع الهدايات .
قوله : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } : " إنْ " هذه هي المخفَّفة من الثقيلة ، واللام بعدها للفرق بينهما وبين النافية ، وجاز دخول " إنْ " على الفعل ؛ لأنه ناسخٌ ، وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب " إنَّ " ، أو لامٌ أخرى غيرها ؛ اجتلبت للفرق ؟ قولان هذا رأيُ البصريِّين .
وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف : فزعم الفرّاء أنها بمعنى " إنْ " النافية ، واللام بمعنى " إلاَّ " ، أي : ما كنتم من قبله إلاَّ من الضالِّين ، ومذهب الكسائيِّ التفصيل : بين أن تدخل على جملةٍ فعليَّة ، فتكون " إنْ " بمعنى " قَدْ " ، واللاَّم زائدةً للتوكيد ؛ كقوله :
{ وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } [ الشعراء : 186 ] ، وبين أن تدخل على جملةٍ اسميَّةٍ ، كقوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ؛ فتكون كقول الفرَّاء .
و " مِنْ قَبْلِهِ " متعلِّقٌ بمحذوفٍ يدلُّ عليه " لَمِنَ الضَّالِّينَ " ، تقديره : كنتم من قبله ضالِّين لمن الضَّالِّين ، ولا يتعلَّق بالضالِّينَ بعده ؛ لأنَّ ما بعد " أَلِ " الموصولةِ ، لا يعمل فيما قبلها ، إلا على رأي من يتوسَّع في الظرف ، والهاء في " قَبْلِهِ " عائدةٌ على " الهُدَى " المفهوم من قوله " كَمَا هَدَاكُمْ " .
وقيل : تعود إلى القرآن ، والتقدير : واذكروه كما هداكم ، بكتابه الذي بيَّن لكم معالم دينه ، وإن كنتم من قبل إنزاله عليكم من الضَّالِّين .