اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (199)

استشكل الناس مجي " ثُمَّ " هنا ؛ من حيث إنَّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى ؛ لأنَّ قريشاً كانت تقف بمزدلفة ، وسائر الناس بعرفة ، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس ، فكيف يجاء ب " ثُمَّ " التي تقتضي الترتيب والتراخي ؟ والجواب من وجوهٍ :

أحدها : أنَّ الترتيب في الذِّكر ، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسَّن ذلك ؛ أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها ، إنما المأمور به ذكر الله ، إذا فعلت الإفاضة .

ثانيها : أن تكون هذه الجملة معطوفةً على قوله : { وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَابِ } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وهو بعيدٌ .

ثالثها : أن تكون " ثُمَّ " بمعنى الواو ، قال بعض النُّحَاةِ : فهي لعطف كلامٍ منقطع من الأول .

قال بعضهم : وهي نظير قوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ } [ البلد : 12 ، 13 ] إلى قوله : { ثُّمَّ كّانَ } [ البلد : 17 ] ، أي : كان مع هذا من المؤمنين ، وفائدة " ثُمَّ " ههنا : تأخُّر أحد الخبرين عن الآخر ، لا تأخّر المخبر عنه [ عن ذلك المخبر عنه ] .

رابعها : أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى ، والمخاطبون بها جميع الناس ، قاله الضَّحَّاك ، ورجَّحه الطبريُّ ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن ، فتكون " ثُمَّ " على بابها ، قال الزمخشريُّ : " فإنْ قلتَ : كيف موقعُ " ثُمَّ " ؟ قلتُ : نحو موقِعها في قولك : أَحْسِنْ إلَى النَّاسِ ، ثُمَّ لاَ تُحْسِنْ إلَى غَيْرِ كَريمٍ " تأتي ب " ثُمَّ " ؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره ، وبُعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات ، قال : { ثُمَّ أَفِيضُواْ } لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأنَّ إحداهما صواب والثانية خطأ " قال أبو حيَّان : " وليستِ الآية نظيرَ المثال الذي مَثَّلَهُ ، وخاصل ما ذكر أن " ثُمَّ " تسلب الترتيب ، وأنَّ لها معنى غيره سمَّاه بالتفاوت ، والبعد لما بعدها عمَّا قبلها ، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتَّى تجيء " ثُمَّ " لتفاوت ما بينهما ، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل " ثُمَّ " قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : وهذا الذي ناقش الزمخشريَّ به تحاملٌ عليه ، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين ، وسيأتي له نظائر ، وبمثل هذه الأشياء لا يردُّ بها على مثل هذا الرجل .

و " مِنْ حَيْثُ " متعلِّقٌ ب " أَفِيضُوا " ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، و " حَيْثُ " هنا على بابها من كونها ظرف مكانٍ ، وقال القفَّال : " هي هنا لزمان الإفاضة " وقد تقدَّم أن هذا قول الأخفش ، وتقدَّم دليله ، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين ؛ ليقع الجواب عن مجيء " ثُم " هنا ، ولا يفيد ذلك ؛ لأن الزَّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه .

و { أَفَاضَ النَّاسُ } في محلِّ جرِّ بإضافة " حَيْثُ " إليها ، والجمهور على رفع السِّين من " النَّاسُ " . وقرأ سعيد بن جبيرٍ : " النَّاسِي " وفيها تأويلان :

أحدهما : أنه يراد به آدم - عليه السَّلام - بقوله : " فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً " .

والثاني : أن يراد به التارك للوقوف بمزدلفة ، وهم جمع النَّاس ، فيكون المراد ب " النَّاسِي " جنس الناسين ، قال ابن عطيَّة{[3062]} : " ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : " النَّاسِ " بكسر السِّين ، فاكتفى بالكسرة عن الياء ، وبها قرأ{[3063]} الزُّهريُّ ؛ كالقاص والهاد ؛ قال : أمّا جوازه في العربية ، فذكره سيبويه وأمّا جوازه قراءةً ، فلا أحفظه . قال أَبو حيان : لم يجز سيبويه ذلك إلا في الشِّعر ، وأجازه الفرَّاء في الكلام ، وأمَّا قوله : " لَمْ أَحْفَظْهُ " ، فقد حفظه غيره ، حكاها المهدويُّ قراءةً{[3064]} عن سعيد بن جبير أيضاً .

فصل في المراد بالإفاضة

في الآية الكريمة قولان :

الأول : أنّ المراد بهذه الإفاضة من عرفات .

قال المفسِّرون{[3065]} : كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ، ويقولون : نحن أهل الله وقطَّان حرمه ، فلا نخرج من الحرم ، ويستعظمون أن يقفوا مع النَّاس بعرفاتٍ ، وسائر العرب كانوا يقفون بعرفاتٍ ، فإذا أفاض النَّاس من عرفات ، أفاض الحمس من المزدلفة ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية الكريمة ، وأمرهم أن يقفوا بعرفات وأن يفيضوا منها كما يفعله سائر النَّاس ، والمراد بالنَّاس : العرب كلُّهم غير الحمس .

وقال الكلبي{[3066]} : هم أهل اليمن وربيعة ، وروي أنَّه - عليه السلام - لمّا جعل أبا بكرٍ أميراً في الحجِّ ، أمره بإخراج النَّاس إلى عرفاتٍ ، فلمّا ذهب مرّ على الحمس وتركهم ، فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب ، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر رسول الله إلى عرفاتٍ ، ووقف بها وأمر سائر النَّاس بالوقوف بها ، وقال بعضهم : " أفِيضُوا " أمر عامٌّ لكلِّ النَّاس .

وقوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } المراد : إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - : فإنَّ سنَّتهما كانت الإفاضة من عرفاتٍ .

وقيل : المراد بالنَّاس : النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ فإنَّه روي أنّ النَّبيَّ - عليه السلام - كان يقف في الجاهليَّة بعرفة كسائر النَّاس ويخالف الحمس .

وقال الضَّحَّاك{[3067]} : النَّاس ههنا إبراهيم وحده ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدى به ، وهو كقوله - تبارك وتعالى - : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } [ آل عمران : 173 ] يعني به : نعيم ابن مسعود ، { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] يعني أبا سفيان ، وهو مجاز مشهور ؛ ومنه قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] .

وقال القفَّال{[3068]} : قوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [ عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفاتٍ ، وأنَّه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث ؛ كما يقال : هذا ممَّا فعله النَّاس قديماً .

وقال الزَّهريّ{[3069]} : إنّ المراد من النَّاس في هذه الآية : آدم - عليه السلام - ؛ واحتج بقراءة سعيد بن جبير المتقدِّمة .

القول الثاني - وهو اختيار الضحَّاك ورجَّحه الطَّبري{[3070]} - : أنّ المراد بهذه الإفاضة ، هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النَّحر ، قبل طلوع الشمس للرَّمي والنَّحر .

وقوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }{[3071]} ] المراد : إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما{[3072]} .

قوله : { وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ } " اسْتَغْفَرَ " يتعدَّى لاثنين ، أولهما بنفسه ، والثاني ب " مِنْ " ؛ نحو : استغفرت الله من ذنبي ، وقد يحذف حرف الجر ؛ كقول القائل : [ البسيط ]

أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ{[3073]}

هذا مذهب سيبويه{[3074]} - رحمه الله - وجمهور النَّاس .

وقال ابن الطَّراوة : إنه يتعدَّى إليهما بنفسه أصالة ، وإنما يتعدَّى ب " مِنْ " ؛ لتضمنه معنى ما يتعدَّى بها ، فعنده " اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ مِنْ كَذَا " بمعنى تبت إليه من كذا ، ولم يجىء : " اسْتَغْفَرَ " في القرآن الكريم متعدِّياً إلاَّ للأول فقط ، فأمَّا قوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ }

[ غافر : 55 ] [ يوسف : 29 ] { فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] فالظاهر أنَّ هذه اللام لام العلَّة ، لا لام التعدية ، ومجرورها مفعول من أجله ، لا مفعول به . وأمَّا " غَفَرَ " فذكر مفعوله في القرآن تارةً : { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } [ آل عمران : 135 ] ، وحذف أخرى : { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ المائدة : 40 ] . والسين في " اسْتَغْفَرَ " للطلب على بابها ، والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به ، أي : من ذنوبكم التي فرطت منكم .

فإن قيل : أمرٌ بالاستْغفارِ مطلقاً ، وربما كان فيهم من لم يُذنِبْ ، فحينئذٍ لا يحتاجُ إلى الاسْتِغْفار .

فالجواب : أنّه إن كان مُذْنِباً ، فالاستِغْفار واجِب ، وإن لم يُذْنِب ، فيجوز من نفْسِه صدور التَّقْصِير في أداء الواجِبات ، والاحتِراز عن المَحْظُوراتِ ؛ فيجب عليه الاسْتِغْفار تَدَارُكاً لذلك لخَلَلِ المُجَوَّز ، وهذا كالمُمْتَنِع في حَقِّ البَشَر .

فصل

واختلف العلماء - رضي الله عنهُم - في هذه المَغْفرة الموعُودة .

فقال بعضهم{[3075]} : إنّها عند الدَّفع من عَرَفَاتٍ إلى جمع .

وقال آخرون{[3076]} : إنها عند الدَّفْع من جَمْع إلى مِنًى ، وهذا مَبْنِيٌّ على الخِلاَف المُتَقَدِّم في قوله : " ثُمَّ أَفِيضُوا " على أيّ الأَمْرَين يحمل .

قال القفّال{[3077]} - رحمه اللَّهُ - ويتأكَّد الثَّانِي بما رَوَى نَافِعٌ عن ابن عُمَر ؛ قال : " خَطَبنا رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عشِيَّة عَرَفَة ؛ فقال : " يا أيُّها النَّاسُ إن يَطَّلعُ الله عَلَيْكُم في مَقَامِكُم هذا ، فَقَبِل من مُحْسِنِكُم ، ووهب مُسِيئَكُم لمُحْسِنِكُم ، والتَّبِعَاتُ عوَّضهَا من عنده ، أفيضُوا على اسْم الله تعالى " قال أصحابُه : يا رسُول الله ، أَفَضْتَ بنا بالأَمْسِ كَئِيباً حزِيناً ، وأَفضتَ بنا اليَوْمَ فَرِحاً مَسْرُوراً ، فقال عليه السَّلام - " إنّي سَأَلْت ربِّي - عزَّ وجل - بالأمْس شَيئاً لم يَجُدْ لي به : سأَلْتُه التَّبِعَات فَأَبَى عَلَيَّ ، فلمّا كَانَ اليَوْم أَتَى جِبْرِيلُ - عليه السّلام - فقال : إنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلام ويقول : التبِعَات ضَمِنْتُ عِوَضَهَا من عِنْدِي{[3078]} " والله أعلم .


[3062]:- ينظر: المحرر الوجيز 1/276.
[3063]:ينظر: المحرر الوجيز 1/276، والبحر المحيط 2/109، والدرر المصون 1/497.
[3064]:- انظر: المحرر الوجيز 1/276، ونصه: ويجوز عند تخفيف الياء، فيقول: "الناس" كالقاض والهاد. وانظر: البحر المحيط 2/109، والدر المصون 1/ 497.
[3065]:- ينظر: تفسير البغوي 1/175.
[3066]:- ينظر: تفسير البغوي 1/176.
[3067]:- ينظر: تفسير البغوي 1/176.
[3068]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/154.
[3069]:- ينظر: تفسير البغوي 1/176.
[3070]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/154.
[3071]:-سقط في ب.
[3072]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/154.
[3073]:-تقدم برقم 751.
[3074]:- ينظر: الكتاب 1/ 171.
[3075]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/156.
[3076]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/156.
[3077]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/156.
[3078]:-أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/193-194) وأبو نعيم في "الحلية" (8/199) عن ابن عمر. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/413). والحديث ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 127) بمعناه من حديث عبادة بن الصامت ثم قال: رواه الطبراني في الكبير، ورواته محتج بهم في الصحيح إلا أن فيهم رجلا لم يسم. وكذلك ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/256-257) من حديث أنس بمعناه وقال: رواه أبو يعلى وفيه صالح المري وهو ضعيف.