قال القرطبي : هذا استفهام فيه معنى الإنكار ، كأنه أَيْأَسَهُمْ من إيمان هذه الفرقة من اليهود .
ويقال : طَمِع فيه طَمَعاً وطَماعيةً مخفف فهو طَمِعٌ على وزن " فَعِل " وأطمعه فيه غيره .
ويقال في التعجب : طَمُعَ الرُّجل بضم الميم أي : صار كثير الطّمع .
والطمع : رزق الجُنْد ، يقال : أمر لهم الأمير بأَطْمَاعهم ، أي : بأرزاقهم .
وامرأة مِطْمَاع : تُطْمِعُ وَلاَ تُمَكِّن .
لما ذكر قَبَائح أفعال أَسْلاف اليهود شرع في قَبَائح أفعال اليَهُود الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام .
قال القَفّال رحمه الله : إن فيما ذكره الله تعالى في [ سورة البقرة ]{[1394]} من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقاصد .
أحدها : الدلالة بها على صحّة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عنها من غير تعلّم ، وذلك لا يكون إلا بالوَحْي ، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب .
أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها ، فلما سمعوها من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من غير تفاوت ، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوَحْي .
وأما العرب فلما [ شاهدوا ]{[1395]} من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار ، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلاّ من علماء أهل الكتاب ، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب .
وثانيها : تعديد النِّعَم على بني إسرائيل ، وما مَنَّ الله به على أَسْلاَفهم من أنواع النعم ، كالإنْجَاءِ من آل فرعون بعد اسْتِبْعَادهم ، وتَصْيِيرِ أبنائهم أنبياء وملوكاً ، وتمكينهم في الأرض ، وفَرْق البحر لهم ، وإهلاك عَدُوّهم ، وإنزال التوراة والصَّفْح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العَجْل ، ونَقْض المَوَاثيق ، ومسألة النَّظَر إلى الله جَهَرةً ، ثم ما أخرجه لهم في التِّيْهِ من الماء من الحَجَر ، وإنزال المَنّ والسَّلْوَى وتَظْلِيل الغَمَام من حَرّ الشمس ، فذكّرهم بهذه النعم كلها .
وثالثها : إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقديم كُفْرهم وخلافهم ، وتعنّتهم على الأنبياء ، وعِنَادهم ، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم ، وذلك لأنهم بعد مُشَاهدتهم الآيات الباهرة عَبَدوا العِجْل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة ، ولما أمروا بدخول الباب سُجّداً وأن يقولوا حطّة ، ووعدهم أن يغفر لهم خَطَاياهم ، ويزيد في ثواب محسنهم ، فبدلوا القول وفَسَقوا ، وسألوا الفُومَ والبَصَلَ بَدَلَ المَنّ والسَّلوى ، وامتنعوا من قَبُول التوراة بعد إيمانهم بموسى عليه الصّلاة والسلام وأخذ منهم المَوَاثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجَبَل ، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا ، ثم أمروا بذبح البقرة ، فشافهوا موسى عليه الصلاة والسلام بقولهم : " أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً " .
ثم لما شاهدوا إحْيَاء الموتى ازدادوا قَسْوة ، فكأن الله تعالى يقول : إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به ، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه الصلاة والسلام ، فَلْيَهُنْ عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم ، وإعراضهم عن الحق .
ورابعها : تحذير أَهْل الكِتَاب الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة .
وخامسها : الاحتجاج على من أنكر الإعادة من مشركي العرب مع إقراره بالابتداء كما في قوله : { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } [ البقرة : 73 ] .
فصل في تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم
اعلم أن المراد تسلية رسوله عليه الصلاة والسلام فيما يظهر من أَهْل الكتاب في زمانه من قلّة القبول فقال : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } .
قال الحسن : هو خطاب مع الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين{[1396]} .
قال القاضي : وهذا الأليق بالظاهر ، وإن كان الأصل في الدّعاء ، فقد كان من الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ، ويظهر لهم الدلائل . قال ابن عَبَّاس : إنه خطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام خاصّة ؛ لأنه هو الدّاعي ، وهو المقصود بالاستجابة . واللفظة وإن كانت للعموم لكن حملناها على هذا الخصوص لهذه [ القرينة ]{[1397]} .
روي أنه حين دخل " المدينة " ، ودعا اليهود إلى كتاب الله ، وكذبوه ، فأنزل الله تعالى وسبب هذا الاستعباد ما ذكرناه أي : أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه الصَّلاة والسَّلام الذي كان هو السبب في خَلاَصهم من الذّل ، وفضلهم على الكل بظهور المُعْجزات المتوالية على يَدِهِ ، مع ظهور أنواع العذاب على المتمردين ، فأي استبعاد في عدم إيمان هؤلاء .
قوله : { أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } ناصب ومنصوب ، وعلامة النصب حذف النون والأصل في " أن " وموضعها نصب أو جر على ما عرف ، وعدي " يؤمنوا " باللاّم لتضمّنه معنى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم قاله الزمخشري .
فإن قيل : ما معنى الإضافة في قوله : " يُؤْمنُوا لَكُمْ " والإيمان إنما هو لله ؟
فالجواب : أن الإيمان وإن كان لله فهم الدّاعون إليه كما قال تعالى :
{ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] لما آمن بنبوّته وتصديقه ، ويجوز أن يراد أن يؤمنوا لأجلكم ، ولأجل تشدّدكم في دعائهم . قوله : { وَقَدْ كَانَ فِرِيقٌ منْهُمْ } " الواو " : للحال .
قال بعضهم : وعلامتها أن يصلح موضها " إذ " ، والتقدير : أفتطمعون في إيمانهم ، والحال أنهم كاذبون محرفون لكلام الله تعالى .
و " قد " مقربة للماضي من الحال سوّغت وقوعه حالاً .
و " يَسْمَعُون " خبر " كان " .
و " منهم " في محلّ{[1398]} رفع صفة ل " فريق " ، أي : فريق كائن منهم .
قال سيبويه : واعلم أن ناساً من ربيعة يقولون : " مِنْهِم " بكسر الهاء إتباعاً لكسرة الميم . ولم يكن المسكن حاجزاً حصيناً عندهم .
و " الفريق " اسم جمع لا واحد له من لفظه ك " رَهْط وَقَوْم " ، وجمعه في أدنى العدد " أَفْرقة " ، وفي الكثير " أَفْرِقَاء " .
و " يَسْمَعُون " نعت ل " فريق " ، وفيه بعد ، و " كان " وما في حَيّزها في محلّ نصب على ما تقدم .
وقرئ{[1399]} : " كَلِمَ اللَّهِ " وهو اسم جنس واحدة كلمة ، وفرّق النحاة بين الكلام والكلم ، بأن الكلام شرطه الإفادة ، والكلم شرطه التركيب من ثلاث فصاعداً ؛ لأنه جمع في المعنى ، وأقلّ الجمع ثلاثة ، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه ، وهل " الكلام " مصدر أو اسم مصدر ؟ خلاف .
والمادة تدل على التأثير ، ومنه الكَلْم وهو الجُرْح ، والكَلاَم يؤثر في المخاطب .
598- . . . *** وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ{[1400]}
ويطلق الكلام لغة على الخَطِّ والإشارةِ ؛ كقوله : [ الطويل ]
599- إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالعُيُونِ الفَوَاتِرِ *** رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوادِرِ{[1401]}
وعلى النفساني ؛ قال الأخطل : [ الكامل ]
600- إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنِّمَا *** جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاً{[1402]}
وقيل : لم يوجد هذا البيت في ديوان الأخطل .
وأما عند النحويين [ فيطلق ]{[1403]} على اللّفظ المركب المفيد بالوضع .
و " ثم " للتراخي إما في الزمان أو الرتبة .
و " التحريف " : الإمالة والتحويل ، وأصله من الانحراف عن الشيء ، ويقال : قلم محرّف إذا كان مائلاً .
قوله : { مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } متعلق ب { يحرفونه } ، و " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أي : ثم يحرفون الكلام من بعد المعنى الذي فهموه وعرفوه ، ويجوز أن تكون مصدرية .
والضمير في { عقلوه } يعود حينئذ على الكلام أي : من بعد تعقلهم إياه .
قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، وفي العامل قولان :
أحدهما : { عقلوه } ، ولكن يلزم منه أن تكون حالاً مؤكدة ؛ لأن معناها قد فهم من قوله : " عقلوه " .
والثاني وهو الظاهر : أنه { يحرفونه } ، أي : يحرفونه حال علمهم بذلك .
قال بعضهم : الفريق مَنْ كان في زمن موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ؛ لأنه وصفهم بأنهم سمعوا كلام الله ، والذين سمعوا كلام الله هم أهل المِيْقَاتِ .
قال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السَبعين المختارين الذين ذهبوا مع موسى عليه الصلاة والسلام إلى المِيْقَات ، وسمعوا كلام الله ، وأمره ونهيه ، فلما رجعوا إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم ، وأما الصادقون منهم فأدّوا كما سمعوا{[1404]} .
قالت طائفة منهم : سمعنا الله في آخر كلامه يقول : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم ألاَّ تفعلوا فلا بأس .
قال القرطبي : ومن قال : إنّ السبعين سمعوا كما سمع موسى عليه الصلاة والسلام فقد أخطأ ، وأذهب بفضيلة موسى ، واختصاصه بالتكليم .
وقال السُّدِّي وغيره : لم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم ، فلمَّا فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان موسى عليه الصلاة والسَّلام ، كما قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ }
ومنهم من قال : المراد بالفريق مَنْ كان في زمن محمد صلى الله عليه وسلم كما غيّروا آية الرجم ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنهم كاذبون ، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي وهذا أقرب ؛ لأن الضمير في قوله : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } راجع إلى ما تقدم من قوله : { أَفتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ } والذي تعلّق الطبع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام .
وقولهم : الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا المِيْقَات ممنوع ؛ لأن من سمع التوراة والقرآن يجوز أن يقال : إنه سمع كلام الله .
فإن قيل : كيف يلزم من إقدام البعض على التَّحْريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين ؟
أجاب القَفَّال فقال : يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من علمائهم وهم قوم يتعمدون التحريف عناداً ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وعرفوه .
قوله : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } استفهام على سبيل الإنكار ، فكان ذلك جَزْماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة ، وإيمانُ من أخبر الله تعالى عنهم بأنه لا يؤمن ممتنع ، فحينئذ تعود الوجوه المذكورة للقدرية والجبرية .
قال القاضي : قوله : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } يدل على أن إيمانهم من قلبهم ؛ لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغيّر حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدّم ذكرهم ، ولما صحّ كون ذلك تسليةً للرسول وللمؤمنين ؛ لأن الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك ، وزواله موقوف على ألا يخلقه فيهم .
وأيضاً إعظامه تعالى لكذبهم في التحريف من حيث فعلوه ، وهم يعلمون صحته .
وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم يدلّ على ذلك ، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم جوابه مراراً .
قال أبو بكر الرازي : الآية تدلّ على أن العالم المعاند أبعد من الرّشد ، وأقرب إلى اليأس من الجاهل ؛ لأن تعمّده التحريف مع العلم بما فيه من العذاب يكون أشد قسوة ، وأعظم جناية .
فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض
فإن قيل : إنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض كما قال تعالى : { وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عمران : 187 ] وقال : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }
قال ابن الخطيب : ويجب أن يكونوا قليلين ؛ لأن الجَمْع العظيم لا يجوز عليهم كِتْمَان ما يعتقدون ؛ لأنا إنْ جوزنا ذلك لم نعلم المحق من المبطل ، إن كثر العدد .
فإن قيل : قوله : { عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } تكْرار .
أجاب القَفّال رضي الله عنه بوجهين :
أحدهما : " مَنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوا مراد الله تعالى منه " ، فأوّلوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى .
والثاني : أنهم عقلوا مراد الله تَعَالى ، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العذاب والعقوبة من الله تعالى .
واعلم أن المقصود من ذلك تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى .