قوله : { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } المشهور " ذَلُولٌ " بالرفع على أنها صفة ل " بقرة " ، وتوسطت " لا " للنفي كما تقدم في " لاَ فَارِض " ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : لا هي ذلول ، والجملة من هذا المبتدأ أو الخبر في [ محل ] رفع صفة ل " بقرة " .
وقرئ : " لاَ ذَلُولَ " بفتح اللام على أنها " لا " التي للتَّبرئة والخبر محذوف تقديره : لا ذلولَ ثَمَّ أو ما أشبهه ، وليس المعنى على هذه القراءة ، ولذلك قال الأخفس : " لا ذلول نعت ، ولا يجوز نصبه " .
و " الذَّلُول " : التي ذُلِّلَت بالعمل ، يقال : بقرة ذَلُول بَيِّنَةُ الذِّل بكسر الذال ، ورجل ذَلِيل : بين الذُّل بضمّها ، وقد تقدم عند قوله : { الذِّلَّةُ } [ البقرة : 61 ] .
[ قوله ] : { تُثِيرُ الأَرْضَ } في هذه الجملة أقوال كثيرة :
أظهرها : أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكن في " ذلول " تقديره : لا تُذَلُّ حال إثارتها .
وقال ابن عطية : وهي عند قوم جملة في موضع الصفة ل " بقرة " أي : لا ذلولٌ مثيرة .
وقال أيضاً : " ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ؛ لأنها نكرة " .
أما قوله : في موضع الصفة فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض ، وهذا لم يقل به الجمهور ، بل قال به بعضهم ، وسيأتي إن شاء الله .
وأما قوله : لا يجوز أن تكون حالاً يعني من " بقرة " ؛ لأنها نكرة .
فالجواب : أنَّا لا نسلم أنها حال من " بقرة " ، بل من الضمير في " ذلول " كما تقدم ، أو تقول : بل هي حال من النكرة ؛ لأن النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله : " لا ذَلُول " ، وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقاً .
وقيل : إنها مستأنفة ، [ واستئنافها على وجهين :
أحدهما : أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي تثير .
والثاني : أنها مستأنفة ] بنفسها من غير تقدير مبتدأ ، بل تكون جملة فعلية ابْتُدِئ بها لمجرد الإخبار بذلك . وقد منع من القول باستئنافها جماعة منهم الأَخْفَشُ عليّ بن سليمان ، وعلل ذلك بوجهين :
أحدهما : أن بعده : " وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ " فلو كان مستأنفاً لما صحّ دخول " لا " بينه وبين " الواو " .
والثّاني : أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله تعالى نفى عنها ذلك بقوله : " لا ذَلُول " وهذا المعنى هو الذي منع أن يكون " تُثِير " صفة ل " بقرة " ؛ لأن اللازم مشترك ، ولذلك قال أبو البقاء : ويجوز على قول مَنْ أثبت هذا الوجه [ يعني : كونها تثير الأرض ولا تسقي أن تكون " تثير " في موضع رفع صفة ل " بقرة " .
وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني ] ، فإن إثارة الأرض عبارة عن مَرَحِهَا ونَشَاطِهَا ؛ كما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
587- يُهِيلُ ويُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ *** إِثَارَةَ نَبَّاثِ الهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
أي : تثير الأرض مرحاً ونشاطاً لا حَرْثاً وعملاً .
وقال أبو البقاء : وقيل : هو مستأنف ، ثم قال : وهو بعيد عن الصّحة لوجهين :
أحدهما : أنه عطف عليه قوله : " وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ " ، فنفى المعطوف ، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك ؛ لأنه في المعنى واحد ، ألا ترى أنك لا تقول : مررت برجل قائم ولا قاعد ، بل تقول : لا قاعد بغير واو ، كذلك يجب أن يكون هذا .
وذكر الوجه الثاني لما تقدم ، وأجاز أيضاً أن يكون " تثير " في محلّ رفع صفة ل " ذلول " ، وقد تقدم خلاف هل يوصف الوصف أم لا ؟
فهذه ستة أوجه تلخيصها : أنها حال من الضمير في " ذَلُول " ، أو من " بقرة " ، أو صفة ل " بقرة " ، أو ل " ذلول " ، أو مستأنفة بإضمار مبتدأ ، أو دونه .
قوله : { وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } الكلام في هذه كالكلام فيما قبلها من كونها صفة ل " بقرة " ، أو خبر لمبتدأ محذوف .
وقال الزمخشري : و " لا " الأولى للنفي يعني الدَّاخلة على " ذلول " .
والثانية مزيدة لتأكيد الأولى ؛ لأن المعنى : لا ذلول تثير [ الأرض ] وتسقي ، على أن الفعلين صفتان ل " ذَلُول " ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية .
وقرئ : " تُسْقى " بضم التاء من " أَسْقى " .
وإثارة الأرض : تحريكها وبَحْثُهَا ، ومنه : { وَأَثَارُواْ الأَرْضَ } [ الروم : 9 ] أي : بالحَرْث والزراعة ، وفي الحديث : " أَثِيرُوا القُرْآنَ فَإنَّهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ " .
وفي رواية : " مَنْ أَرَادَ العِلْمَ فَلْيُثوِّرِ القُرْآن{[15]} " .
وجملة القول أن البقرة لا يكون بها نَقْص ، فإن الذلول بالعمل لكونها تثير الأرض ، وتسقي الحرث لابد وأن يظهر بها النقص .
قال القرطبي : قال الحسن : وكانت تلك البقرة وَحْشِية ، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ، ولا تسقي الحرث .
و " مُسَلَّمة " قيل : من العيوب مطلقاً .
وقيل : من آثار العمل المذكور .
وقيل : مسلمة من الشّبه التي هي خلاف لونها ، أي : خلصت صُفْرتها عن اختلاط سائر الألوان بها ، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله : " لاَ شِيَةَ فِيهَا " يصير تكراراً .
و " شِيَة " : مصدر وَشَيْتُ الثوب أَشِيه وَشْياً وَشِيَةً ، حذفت فاؤها ؛ لوقوعها بين ياء وكسرة في المضارع ، ثم حمل باقي الباب عليه ، ووزنها " عِلَةٌ " ومثلها :
وهي عبارة عن اللُّمْعَة المخالفة للون ، ومنه : ثوب مَوْشِيٌّ : أي : منسوج بلونين فأكثر ، وثور مَوْشِيٌّ القَوَائِمِ ، أي : أَبْلَقُهَا ؛ قال : [ البسيط ]
588- مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ *** طَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
ومنه : الواشي للنَّمَّام ؛ لأنه يَشِي حديثه ، أي : يزينه ويخلطه بالكذب .
وقال بعضهم : ولا يقال له وَاشٍ حتى يغير كلامه ويزينه .
ويقال : ثور أَشْيَهُ ، وفرس أَبْلَقُ ، وكَبْش أخْرَجُ ، وتَيْس أَبْرَق ، وغُراب أَبْقَع ، كل ذلك بمعنى البلقة .
و " شية " اسم " لا " ، و " فيها " خبرها .
دلت هذه الآيات على ضَبْطِ الحيوان بالصفة ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السَّلَمُ فيه ، وكذلك كل ما ضبط بالصفة .
" لاَ تَصِفُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا{[16]} " . فجعل عليه الصلاة والسلام الصّفة تقوم مقام الرؤية .
قوله : { الآنَ جِئْتَ } الآن منصوب ب " جئت " ، وهي ظَرْف للزّمان يقتضي الحال ، ويخلص المضارع له عند جمهور النّحاة .
وقال بعضهم : هذا هو الغالب ، وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال ، كقوله : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ } [ الجن : 9 ] { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] فلو كان يقتضي الحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نصّ في الاستقبال ، وعبر عنه هذا القائل بعبارة تُوافق مذهبه وهي : " الآن " لوقت حصر جميعه أو بعضه يريد بقوله : " أو بعضه " نحو : " فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ " ، وهو مبني .
واختلف في علّة بنائه : فقال الزَّجَّاج : لأنه تضمن معنى الإشارة ؛ لأن معنى أفعل الآن ، أي : هذا الوقت .
وقيل : لأنه أشبه الحرف في لزوم لَفْظ واحد ، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ولا يصغّر .
وقيل : لأنه تضمّن معنى حرف التعريف ، وهو الألف واللام ك " أمس " ، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه ، ولم يُعْهَد مُعرفٌ ب " أل " إلا معرباً ، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في " الذي والّتي " وبابهما ، ويعزى هذا للفارسي ، وهو مردود بأن التضمين اختصار ، فكيف يختصر الشيء ، ثم يؤتى بمثل لفظه .
وهو لازم للنظر فيه ، ولا يتصرف غالباً ، وقد وقع مبتدأ في قوله عليه الصلاة والسلام : " فَهُوَ يَهْوِي في قَعْرِهَا الآنَ حِينَ انْتَهَى " .
ف " الآن " مبتدأ ، وبني على الفتح لما تقدم ، و " حين " خبره ، بُنِيَ لإضافته إلى غير متمكِّن ، ومجروراً في قوله :
589- أَإِلَى الآنِ لاَ يَبِينُ ارْعِوَاءٌ *** . . .
وادعى بعضهم إعرابه مستدلاًّ بقوله : [ الطويل ]
590- كَأَنَّهُمَا مِلآنِ لَمْ يَتَغَيَّرا *** وَقَدْ مَرَّ لِلدَّارَيْنِ مِنَ بَعْدِنَا عَصْرُ
يريد : " مِنَ الآنِ " فجره بالكسرة ، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر ، وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماض ، وأن أصله " آنَ " بمعنى : " حان " فدخلت عليه " أل " زائدة ، واسْتُصْحِب بناؤه على الفَتْح ، وجعله مثل قولهم " ما رأيته من شب إلى دُبَّ " .
وقوله عليه الصلاة والسلام : " وأنْهَاكُمْ عَنْ قِيلٍ وَقَال " .
ورد عليه بأن " أل " لا تدخل على المنقول من فعل ماض ، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره .
وعنه قول آخر أن أصله " أوان " فحذفت الألف ، ثم قلبت الواو ألفاً ، فعلى هذا ألفه عن واو .
وأدخله الرَّاغب في باب " أين " ، فتكون ألفه عن " ياء " . والصواب الأول .
وقرئ : قالوا : ألآن بتحقيق الهمزة من غير نَقْل ، وهي قراءة الجمهور .
و " قَالُ : لأنَ " بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها ، وحذف الهمزة ، وهو قياس مطّرد ، وبه قرأ نافع وحمزة باختلاف عنه .
و " قَالُوا : لآنَ " بثبوت " الواو " من " قالوا " ؛ لأنها إنما حذفت لالتقاء الساكنين ، وقد تحركت " اللام " لنقل حركة " الهمزة " إليها ، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر " مَحْمَر " .
وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى في { عَاداً الأُولَى } [ النجم : 50 ] ويحكى وجه رابع " قَالُوا : آلآنَ " بقطع همزة الوصل ، وهو بعيد ، و " بِالحَق " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون باء التَّعدية كالهمزة كأنه قيل : " أَجَأْتَ الحق " ، أي : ذكرته .
الثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل " جئت " أي : جئت ملتبساً بالحق ، أو " ومعك الحق " .
قال القاضي : قولهم : " الآن جِئْتَ بِالْحَقِّ " كفر من قِبَلِهم لا محالة ؛ لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقّة .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً .
قوله : " فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " أي : فذبحوا البقرة . و " كَادُوا " كاد واسمها وخبرها ، والكثير في خبرها تجرده من " أن " .
591- قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ الْبِلَى أَنْ يَمْصَحَا *** . . .
وهي عكس " عسى " وذكروا ل " كاد " تفسيرين :
أحدهما : قالوا : نفيها إثبات وإثباتها نفي ، فقوله : كاد يفعل كذا ، معناه : قرب من أن يفعل ، لكنه ما فعله .
والثاني : قال عبد القاهر النحوي : إن " كاد " لمقاربة الفعل ، فقوله : " كاد يفعل " [ معناه ] قرب من فعله .
وقوله : " ما كاد يفعل " معناه : ما قرب منه .
وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية ؛ لأن قوله : " ومَا كَادُوا " معناه ما قاربوا الفعل ، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل ، فلو كانت " كاد " للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية ، وقد تقدم الكلام على كاد عند قوله { يَكَادُ الْبَرْقُ } [ البقرة : 20 ] .
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لو ذبحوا أيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم ؛ لكنهم شددوا على أنفسهم ، فشدد الله تعالى عليهم ، فعلى هذا نقول : التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت ، فلما لم يفعلوا كلفوا بأن تكون لا فارضاً ولا بكراً ، قيل : عَوَان ، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون صفراء ، فلما لم يفعلوا كُلِّفوا أن تكون مع ذلك لا ذَلُول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ؛ لأنه قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان ، فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدلّ على نسخ الأسهل بالأشقّ وعلى جواز النسخ قبل الفعل ، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى عليه الصلاة والسلام وعلى أن الزيادة على النص نسخ ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولاً ، وعلى أن الأمر للوجوب والفور ؛ لأنه تعالى ذمَّ التثاقل فيه ، والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه ، ولم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر .
قال القاضي : إنما وجب ؛ لأن فيه إزالة شرّ وفتنة ، فأمر تعالى بذبح البقرة ، لكي يظهر القاتل ، فيزول الشَّر والفتنة ، فلما كانت المصلحة في هذا الفعل صار واجباً .
وقال بعضهم : إما أمروا بذبح بقرة معيّنة في نفسها ، فلذلك حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به إذا كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام ، وعلى القول الأول لا بُدّ من بيان ما الذي حملهم على [ هذا ] الاستفسار ؟
فقيل : إن موسى عليه الصلاة والسلام لما أمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيصير حيًّا تعجبوا من ذلك ، وظنوا أنّ تلك البقرة التي لها هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عنها كَعَصا موسى المخصوصة من بين سائر العصِيّ بتلك الخواص ، إلاّ أن القوم أخطئوا في ذلك ؛ لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصة للبقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عليه الصلاة والسلام .
وقيل : لعلّ القوم أرادوا أَيَّ بقرة كانت إلاّ أن القاتل خاف من الفضيحة ، فألقى شبهة في نفوسهم وقال : المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة ، فلما وقعت المنازعة رجعوا عند ذلك إلى موسى عليه الصلاة وسلام .
قال القُشيريّ في تفسيره : قيل : إن أوّل من راجع موسى عليه الصَّلاة والسلام في البحث عن البقرة القاتل خوف أن يفتضح ، وقد وجدت تلك البقرة عند الشّاب .
وقيل : إن الخطاب الأول للعموم ، إلاَّ أن القوم أرادوا الاحتياط فيه ، فسألوا طلباً لمزيد البيان ، وإزالة سائر الاحتمالات إلاّ أن المصلحة تغيرت ، واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة .
وقيل : كان سؤالهم تقديراً من الله عز وجلّ وحكمة ، ومصلحة لصاحب البقرة ، فإنه يروى أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان له ولد بارّ ، وكان له عجلة فأتى بها غَيْضَة وقال : اللّهم إني استودعتكها لابْنِي حتى يكبر ، ثم مات الأب فشبّت ، وكانت من أحسن البقر [ وأتمّها ] وهي البقرة التي وصفها الله لهم فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مَسْكِها ذهباً ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير .
ذكر مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ، ولم تكن من بقر الأرض قاله القرطبي . وزاد الماوردي : ثم فرق ثمنها على بني إسرائيل ، فأصاب كل فقير دينارين ، وروي أنهم طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة .
اختلفوا في السبب الذي كان لأجله " ما كادوا يفعلون " ، فقيل : لأجل غلاء ثمنها ، وقيل : لخوف الشهوة والفضيحة ، وعلى كلا القولين فالإحْجَام عن المأمور به غير جائز .
أما الأول فلأن ذبح البقرة ما كان يتمّ إلا بالثمن الكثير فوجب ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، إلاّ أن يدل دليل على خلافه .
وأما خوف الفضيحة فلا يدفع التكليف ، فإن القَوَدَ إذا وجب عليه لزمه تسليم النفس من وليّ الدم إذا طالب ، وربما لزمه التعويض ليزول الشر والفتنة ، وإنما لزمه ذلك لتزول التّهمة عن القوم الذين طرحوا القتيل بالقرب منهم ، لأنه الذي عرضهم إليه ، فيلزمهم إزالتها ، فكيف يجوز جعله سبباً للتَّثَاقُلِ في هذا الفعل .