اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (74)

قال القفال : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : اشتدت قلوبكم وقَسَت وضلّت من بعد البَيّنات التي جاءت أوائلكم ، والعقاب الذي نزل بمن أَصَرَّ على المعصية منهم ، والآيات التي جاءهم بها أنبياءهم ، فأخبر بذلك عن طُغْيَانهم ، وجَفَائهم على ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب .

قال : لأنه خطاب مُشَافهة فَحَمْله على الحاضرين أولى ، ويحتمل أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمان موسى عليه الصلاة والسلام خصوصاً . وروي أن ذلك القتيل لما عين القاتل كذبه ، وما ترك الإنكار وساعده عليه جمع ، فتكون الإشارة لقوله بعد ذلك إلى ما أظهره الله تعالى من إحياء القتيل بِضَرْبِهِ ببعض البقرة المذبوحة . ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما عدده الله تعالى من النعم العظيمة ، والآيات الباهرة التي أظهرها الله تعالى على يد موسى عليه الصلاة والسلام فإنّ أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتها لها ما خلوا من العِنَاد والاعتراض على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام .

فإن قيل : لم أتى ب " ثم " التي تقتضى الترتيب والمُهْلة ، فقال : " ثم قست " ، وقال : " مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ " والبَعْدية لا تقتضي التعقيب ، وقلوبهم لم تزل قاسيةً مع رؤية الآية وبعدها ؟

فالجواب : أنه أتى ب " من " التي لابتداء الغاية فقال : من بعد ذلك فجعل ابتداء المقصود عقيب رؤية الآيات ، فزالت المهلة .

وقال أبو عبيدة : " معنى قَسَتْ : جفت " .

وقال الواقدي : خفت من الشّدة فلم تكن .

وقال المؤرج : " غلظت " .

وقيل : اسودت .

وقال الزجاج : " القَسْوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع " .

قوله : " أَوْ أشَدُّ قَسْوَةً " " أو " هذه ك " أو " التي في قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ }

[ البقرة : 19 ] فكل ما قيل ثمة يمكن القول به هنا ، ولما قال أبو الأسود : [ الوافر ]

593- أُحِبُّ مُحَمَّداً حُبًّا شَديداً *** وَعَبَّاساً وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا

اعترضوا عليه في قوله : " أو " التي تقتضي الشك ، وقالوا له : أشككت ؟ فقال : كلا ، واستدل بقوله تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ }

[ سبأ : 24 ] فقال : أو كان شاكًّا من أخبر بهذا ؟ وإنما قصد رحمه الله الإبهام على المخاطب .

قال ابن الخطيب : كلمة " أو " للتردد ، وهي لا تليق بعلاَّم الغيوب ، فلا بد من التأويل وهو من وجوه : أحدها : أنها بمعنى " الواو " كقوله : { إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وقوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ } [ النور : 31 ] وقوله : { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ }

[ النور : 61 ] ومن نظائره قوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 ] .

وثانيها : أن المراد : فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة .

[ وثالثها : أي : في نظركم واعتقادكم إذا اطلعتم على أحوال قلوبهم قلتم : إنها كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة ] .

ورابعها : أن " أو " بمعنى " بل " ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]

594- فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَقَوَّلَتْ *** أَمِ النَّوْمُ أَو كُلٌّ إِلَيَّ حَبِيبُ

وخامسها : أنه على حد قولك : " ما أكل إلا حلواً أو حامضاً " أي : طعامه لا يخرج عن هذين ، وليس الغرض إيقاع التردّد بل نفي غيرهما .

وسادسها : أن " أو " حرف إباحة ، أي : بأي هذين شبّهت قلوبهم كان صدقاً كقولهم : " جالس الحَسَنَ أو ابن سيرين " أي أيهما جالست كنت مصيباً أيضاً . و " أَشَدّ " مرفوع لعطفه على محل " كَالحِجَارةِ " أي : فهي مِثْلُ الحجارة أو أشد . والكاف يجوز أن تكون حرفاً فتتعلّق بمحذوف ، وأن تكون اسماً فلا تتعلّق بشيء ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً أي : أو هي أشد .

و " قسوة " منصوب على التمييز ؛ لأن الإِبْهَامَ حصل في نسبة التفضيل إليهما ، والمفضل عليه محذوف للدلالة عليه ، أي : أشدّ قسوة من الحِجَارَةِ .

وقرئ : " أَشَدّ " بالفتح وَوَجْهُهَا : أنه عطفها على " الحجارة " أي : فهي كالحجارة أو [ كأشد ] منها .

قال الزمخشري موجهاً للرفع : و " أشد " معطوف على الكاف ، إما على معنى : أو مثل أشد ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على " الحجارة " ويجوز على ما قاله أن يكون مجروراً بالمضاف المحذوف ترك على حاله ، كقراءة : { وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } [ الأنفال : 67 ] بجر " الآخرة " أي : ثواب الآخرة ، فيحصل من هذا أن فتحه الدال يُحتمل أن تكون للنصب ، وأن تكون للجر .

وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : لم قيل : أشدُّ قسوة مما يَخْرُج منه " أفعل " التفضيل وفعل التعجب ؟ يعني : أنه [ مستكمل ] للشروط من كونه ثلاثيّاً تاماً غير لون ولا عاهة متصرفاً غير ملازم للنفي .

ثم قال : قلت : لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة ، ووجهٌ آخر وهو ألاّ يقصد معنى الأقسى ، ولكنه [ قصد ] وصف القسوة بالشدة ، كأنه قيل " اشتدت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشد قسوة " .

وهذا الكلام حسن ، إلا أن كون " القسوة " جوز بناء التعجّب منها فيه نظر من حيث إنها من الأمور الخِلْقِية أو من العيوب ، وكلاهما ممنوع منه بناء البابين .

وقرئ : " قساوة " .

فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة

إنما وصفها بأنها أشد قسوةً من الحجارة لوجوه :

أحدها : أن الحجارة لو كانت عاقلة ، ورأت هذه الآية لقبلتها كما قال :

{ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }

[ الحشر : 21 ] .

وثانيها : أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال : وإن كانت قاسيةً ، بل منصرفة على مراد الله تعالى غير ممتنعة ، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتِّصَال الآيات عندهم ، وتتابع نِعَمِ الله عليهم يمتنعون من الطاعة ، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله .

وثالثها : أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة .

فصل في الرد على المعتزلة

قال القاضي : إن كان الدَّوام على الكفر مخلوق فيهم ، فكيف يحسن ذمهم ؟ فلو قال : إن الذي خلق الصَّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القَسْوة ، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكُفر بخلق الإيمان فينا ، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أَوْكد من حجّته عليهم ، وهذا النمط قد تكرر مراراً .

قوله : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ } .

واعلم أنه سبحانه وتعالى فَضَّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع ، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع .

فأولها : قوله : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ } واللاّم في " لَمَا " لام الابتداء دخلت على اسم " إن " لتقدم الخبر ، وهو " من الحجارة " ، وهي " ما " التي بمعنى " الذي " في محلّ النصب ، ولو لم يتقدم الخبر لم يَجُزْ دخول اللام على الاسم ؛ لئلاَّ يتوالى حَرْفَا تأكيد ، وإن كان الأصل يقتضي ذلك ، والضمير في " منه " يعود على " ما " حملاً على اللفظ .

قال أبو البقاء : ولو كان في غير القرآن لجاز " منها " على المعنى .

وهذا الذي قاله قد قرأ به أُبّي بن كعب والضحاك .

وقرأ مالك بن دينار " يَنْفَجِر " من الانفجار .

وقرأ قتادة : " وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ " بتخفيف " إِنْ " من الثقيلة ، وأتى باللام فارقة بينها وبين " إن " النافية ، وكذلك : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } و { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } ، وهذه القراءة تحتمل أن تكون " ما " فيها في محل رفع وهو المشهور ، وأن تكون في محلّ نصب ؛ لأن " إِنْ " المخففة سمع فيها الإعمال والإهمال ، قال تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } [ هود : 111 ] في قراءة من قرأه .

وقال في موضع آخر : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا } [ يس : 32 ] إلا أن المشهور الإهمال .

والتفجير : الفتح بالسّعة والكثرة ؛ يقال : انفجرت قرحة فلان أي : انشقت بالمدّة ، ومنه : الفَجْر والفُجُور .

فصل في تولد الأنهار

قالت الحكماء : الأنهار إنما تتولّد عن أَبْخِرَةٍ تجتمع في باطن الأرض ، فإن كان ظاهر الأرض رَخْواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت ، وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجريّاً اجتمعت تلك الأَبْخِرَةُ ، ولا يزال يتصل بعضها ببعض حتى تكثر كثرة عظيمة ، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مَدِّها أن تنشقّ الأرض ، وتسيل تلك المياه أوديةً وأنهاراً .

قوله : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } أي : وإنَّ من الحجارة لما يتصدّع ، فينبع الماء منه فيكون عَيْناً لا نهراً جارياً .

و " يَشَّقَّقُ " أصله : يَتَشَقّق ، فأدغم وبالأصل قرأ الأعمش ، وقرأ طلحة بن مصرف : " لَمَّا بتشديد " الميم " في الموضعين قال ابن عطية{[1389]} : " وهي قراءة غير متّجهة " .

وقرأ أيضاً{[1390]} : " ينشقّ " بالنون وفاعله ضمير " ما " .

وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون فاعله ضمير " الماء " ؛ لأن " يَشَّقَّقُ " يجوز أن يُجْعل ل " الماء " على المعنى ، فيكون معك فِعْلان ، فيعمل الثاني منهما في الماء ، وفاعل الأول مضمر على شريطة التفسير .

وعند الكوفيين يعمل الأول ، فيكون في الثاني ضمير ، يعني : أنه من باب التنازع ، ولا بد من حذف عائد من " يشقق " على " ما " الموصولة دلَّ عليه قوله : " منه " ، والتقدير : وإن من الحجارة لما يشقق الماء منه ، فيخرج الماء منه .

وقال أيضاً : ولو قرئ : " تتفجّر " بالتاء جاز . قال أبو حاتم : يجوز " لما تتفجر " بالتاء ؛ لأنه أنثه بتأنيث الأنهار ، وهذا لا يكون في " تشقق " يعني التأنيث .

قال النَّحَّاس : يجوز ما أنكره على المعنى ، لأن المعنى : وإن منها الحجارة تتشقق يعني فيراعى به معنى " ما " ، فإنها واقعة على الحجارة .

قوله : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } .

قال أبو مُسْلم : " الضمير في قوله : " وَإِنَّ مِنْها " راجع إلى " القلوب " ، فإنه يجوز عليها الخَشْيَة ، والحجارة لا يجوز عليها الخَشْيَة . وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة ، وأقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلاّ أنّ هذا الوصف ألْيَقُ بالقلوب من الحجارة ، فوجب رجوع الضمير إلى " القلوب " دون " الحجارة " ، وفيه بعد لتنافر الضّمائر .

وقال جمهور المفسرين : الضمير عائد إلى " الحجارة " .

وقالوا : يجوز أن يكون حقيقة على معنى أن الله خلق فيها قَابِليَّةً لذلك ، وأن المراد من ذلك جَبَلُ موسى عليه الصلاة والسلام حين تقطع وتجلّى له ربه ، وذلك لأن الله تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدْرَاك ، وهذا غير مستعبد في قدرة الله تعالى .

ونظيره قوله تعالى : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] .

فكما جعل الجِلْد ينطق ويسمع ويعقل ، فكذلك الجَبَل وصفه بالخشية .

وقال أيضاً : { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [ الحشر : 21 ] .

وروي أنه حن الجذع لصعود رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المنبر ، ولما أتى الوحي رسول الله – صلى الله عليه وسلم في أول المبعث ، وانصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى منزله سلمت عليه الحجارة فكلها كانت تقول : السلام عليكم يا رسول الله .

قال مجاهد : ما تردى حجر من رأس جبل ، ولا تفجر نهر من حجر ، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله ، نزل بذلك القرآن ، ومثله عن ابن جريج وثبت عنه- عليه الصلاة والسلام- قال : " إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن "  . وروي أنه – عليه الصلاة والسلام- قال : قال لي ثبير : اهبط ؛ فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله فناداه حراء : " إلي يا رسول الله "  وقوله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] الآية .

وأنكرت المعتزلة ذلك ، ولا يلتفت إليهم ؛ لأنه لا دليل لهم إلا مجرد الاستبعاد .

لو قال بعض المفسرين : الضمير عائد إلى " الحجارة " و " الحجارة " لا تعقل ، ولا تفهم ، فلا بد من التأويل ، فقال بعضهم : إسناد الهبوط استعارة ؛ كقوله : [ الكامل ]

595- لَمَّا أَتَى خَبَر الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ *** سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ

وقوله : " من خشية الله " أي : ذلك الهبوط لو وجد من العاقل لكان به خاشيا لله ، وهو كقوله تعالى : { جدارا يريد أن ينقض } [ الكهف : 77 ] أي جدارا قد ظهر فيه الميلان ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حي مختار ، لكان مريدا للانقضاض ، ونحو هذا قوله : [ الطويل ]

596- بخيل تضل البلق في حجراته *** ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

فجعل ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر من عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسجود منها للحوافر .

الوجه الثاني من التأويل : قوله : " من خشية الله " أي : من الحجارة ما ينزل ، وما يشقق ، ويتزايل بعض عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة .

وتحقيقه أنه كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل الخشية في القلوب .

الوجه الثالث : قال الجبائي " الحجارة " البرد الذي يهبط من السحاب تخويفا من الله- تعالى- لعباده ليزجرهم به .

قال : وقوله : " من خشية الله : أي : خشية الله ، أي : ينزل بالتخويف للعباد ، أو بما يوجب الخشية لله ، كما تقول : نزل القرآن بتحريم كذا ، وتحليل كذا ، أي : بإيجاب ذلك على الناس .

قال القاضي : هذا التأويل ترك للظاهر من غير ضرورة ؛ لأن البرد لا يوصف بالحجارة ؛ لأنه ماء في الحقيقة .

قوله : " من خشية الله " منصوب المحل متعلق ب " يهبط " ، و " من " للتعليل .

وقال أبو البقاء : " من " في موضع نصب ب " يهبط " ، كما تقول : يهبط بخشية الله ، فجعلها بمعنى " الباء " [ المعدية ]{[1391]} وهذا فيه نظر لا يخفى .

و " خشية " مصدر مضاف للمفعول تقديره : من أن يخشى الله ، وإسناد الهبوط إليها استعارة ؛ كقوله : [ الكامل ] .

597- لما أتى خبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع{[1392]}

ويجوز أن يكون حقيقة على معنى : أن الله خلق فيها قابليّةً لذلك .

وقيل : الضمير في " منها " يعود على " القلوب " ، وفيه بُعْد لتنافر الضمائر .

قوله : " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ " قد تقدم في قوله : " وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ " .

قال القرطبي : " بغافل " في موضع نصب على لغة " الحِجَاز " ، وعلى لغة " تميم " في موضع رفع .

قوله : " عَمَّا تَعْمَلُونَ " متعلّق ب " غافل " ، و " ما " موصولة اسمية ، والعائد الضمير ، أي : تعملونه ، أو مصدرية فلا يحتاج إليه أي : عن عملكم ، ويجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول به ، ويجوز ألاّ يكون .

وقرئ{[1393]} : " يَعْمَلُونَ " بالياء والتاء .

فصل في المقصود بالآية

والمعنى : أن الله بِالْمِرصَاد لهؤلاء القاسية قلوبهم ، وحافظ لأعمالهم مُحْصٍ لها ، فهو مجازيهم بها وهو كقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] وهذا وعيد وتخويف كبير .

فإن قيل : هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل ؟

قال القاضي : لا يصح ؛ لأنه يوهم جواز الغَفْلة عليه ، وليس الأمر كذلك ؛ لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحّتها عليه ، بدليل قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] .


[1389]:- ينظر المحرر الوجيز: 1/167.
[1390]:- أي طلحة بن مصرف، قال أبو حيان: "وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية ما نصه: وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون وقافين، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشددة، وقد يجيء الفك في شعر، فإن كان المضارع مجزوما جاز الفك فصيحا، وهو هنا مرفوع فلا يجوز الفك، إلا أنها قراءة شاذة، فيمكن أن يكون ذلك فيها، وأما أن يكون المضارع بالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما فلا يجوز..". انظر البحر المحيط: 1/431، والمحرر الوجيز: 1/167، والدر المصون: 1/264، وفيه قراءة ابن مصرف هكذا: "ينشق".
[1391]:- في ب: المقدمة.
[1392]:- البيت لجرير. ينظر ديوانه: (245)، الخصائص: 2/418، الكامل: (486)، ورصف المباني: (169)، الأضداد: (296) اللسان (سور)، الدر المصون: 1/264.
[1393]:- وهي قراءة ابن كثير. انظر السبعة: 160، والحجة للقراء السبعة: 2/110، والعنوان: 70، وحجة القراءات: 101، وإتحاف فضلاء البشر: 1/398، وشرح شعلة: 266، وشرح الطيبة: 4/40.