اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ قَالُوٓاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ لِيُحَآجُّوكُم بِهِۦ عِندَ رَبِّكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (76)

روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لهم : آمنا بالذي آمنتم به ، ونشهد أنَّ صاحبكم صادق ، وأنَّ قوله حقّ ، ونجده بِنَعْتِهِ وصفته في كتابنا ، ثم إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض قال الرؤساء كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ووهب بن يهودا وغيرهم أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نَعْتِهِ وصفته ليحاجوكم به{[1405]} .

قال القَفَّال رحمه الله تعالى في قوله تعالى : { فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } : مأخوذ من قولهم : فتح الله على فلان في علم كذا أي [ رزقه الله ذلك ]{[1406]} وسهل له طلبه .

قال الكَلْبي : بما قضى الله عليكم في كتابكم أن محمداً حق ، وقوله صِدْق ، ومنه قيل للقاضي : الفَتَّاح بلغة " اليَمَن " .

وقال الكِسَائي : ما بَيّنه الله عليكم .

وقال الواقدي : بما أنزل الله عليكم نظيره { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } [ الأعراف : 96 ] أي : أنزلنا .

وقال أبو عبيدة والأخفش : بما مَنَّ الله عليكم به ، وأعطاكم من نصركم على عدوكم .

وقيل : بما فتح الله عليكم أي : أنزل من العذاب ليعيروكم به ، ويقولون فمن أكرم على الله منكم .

وقال مجاهد والقاسم بن أبي بزّة : " هذا قول يهود " قُرَيظة " بعضهم لبعض حين سبهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال : " يَا إخْوَانَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ " فَقَالُوا : من أخبر محمداً بهذا ؟ ما خرج هذا إلاَّ منكم " {[1407]} .

وقيل : الإعلام والتبيين بمعنى : أنه بيّن لكم صفة محمد عليه الصلاة والسلام .

فصل في إعراب الآية

قد تقدّم الكلام على نظير قوله : " وإذا لَقُوا " في أول السورة وهذه الجملة الشرطية تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون مستأنفة كاشفة عن أحوال اليهود والمنافقين .

والثاني : أن تكون في محلّ نصب على الحال معطوفة على الجملة الحالية قبلها وهي : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ } والتقدير : كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت ؟

وقرأ{[1408]} ابن السّميفع : " لاَقوا " وهو بمعنى " لقوا " فَاعَل بمعنى فَعِل نحو : " سافر " وطارقت النعل :

وأصل " خلا " : " خَلَو " قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وتقدم معنى " خلا " و " إلى " في أول السورة .

قوله : { بِمَا فَتَحَ اللَّهُ } متعلق ب " التحديث " قبله ، و " ما " موصولة بمعنى " الذي " والعائد محذوف ، أي : فتحه .

وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون نكرة موصوفة أو مصدرية ، أي : شيء فتحه ، فالعائد محذوف أيضاً ، أو بِفَتْحِ الله عليكم .

وفي جعلها مصدرية إشكال من حيث إنَّ الضمير في قوله بعد ذلك : { لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ } عائد على " ما " و " ما " المصدرية حرف لا يعود عليها ضمير على المشهور ، خلافاً للأخفش ، وأبي بكر بن السراج ، إلاّ أن يُتَكَلّف فيقال : الضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ } أو من قوله : { فتح } ، أي : ليحاجُّوكم بالتحديث الذي حدّثتموهم ، أو بالفتح الذي فتحه الله عليكم .

والجملة في قوله : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ } في محلّ نصب بالقول ، قال القُرْطبي : ومعنى فتح : حكم .

والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، ومنه قوله تعالى : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ الأعراف : 89 ] أي : الحاكمين . والفتاح : القاضي بلغة " اليمن " ، يقال : بيني وبينك الفَتّاح ، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم .

والفتح : النصر ، ومنه قوله : { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ البقرة : 89 ] وقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } [ الأنفال : 19 ] .

قوله : { لِيُحَاجُّوكُمْ } أي : ليخاصموكم ، ويحتجوا بقولكم عليكم ، وهذه اللام تسمى لام " كي " بمعنى أنها للتعليل ، كما أن " كي " كذلك لا بمعنى أنها تنصب ما بعدها بإضمار ب " كي " كما سيأتي ، وهي حرف جر ، وإنما دخلت على الفعل ؛ لأنه منصوب ب " أن " المصدرية مقدّرة بعدها ، فهو معرب بتأويل المصدر أي : للمُحَاجَّة ، فلم تدخل إلاّ على اسم ، لكنه غير صريح .

والنصب ب " أن " المضمرة كما تقدم لا ب " كي " خلافاً لابن كَيْسَان والسّيرافي ، وإن ظهرت بعدها نحو قوله تعالى : { لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } [ الحديد : 23 ] لأن " أَنْ " هي أم الباب ، فادعاء إضمارها أولى من غيرها .

وقال الكوفيون : النَّصْب ب " اللام " نفسها ، وأن ما يظهر بعدها من " كي " ، ومن " أَنْ " إنما هو على سبيل التأكيد ، وللاحتجاج موضعٌ غير هذا .

ويجوز إظهار " أن " وإضمارها بعد هذه " اللام " إلاَّ في صورة واحدة ، وهي إذا وقع بعدها " لا " نحو قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 150 ] وذلك لما يلزم من توالي لاَمَيْنِ ، فَيثْقُل اللفظ .

والمشهور في لغة العرب كسر هذه اللام ؛ لأنها حرف جر ، وفيها لغة شاذة وهي الفتح .

قال الأخفش : " لأن الفتح الأصل " .

قال خلف الأحمر : هي لغة بني العَنْبَر . وهذه اللام متعلّقة بقوله : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ } .

وذهب بعضهم إلى أنها متعلّقة ب " فتح " وليس بظاهر ؛ لأن المُحَاجَّة ليست علّة للفتح ، وإنما هي نشأت عن التحديث ، اللّهم إلا أن يقال : تتعلّق به على أنها لام العاقبة ، وهو قول قيل به ، فصار المعنى أن عاقبة الفتح ومآله صار إلى أن يحاجُّوكم .

أو تقول : إن اللاَّم لام العلّة على بابها ، وإنما تعلّقت ب " فتح " ؛ لأنه سبب للتحديث ، والسبب والمسبب في هذا واحد .

والحُجّة : الكلام المستقيم على الإطلاق ، ومن ذلك محجّة الطريق ، وحاججت فلاناً [ فحججته ] أي : غالبته ، ومنه الحديث : " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى " ، وذلك لأن الحجّة نفي الطَّريق المسلوك الموصّلة للمراد .

والضمير في " به " يعود على " ما " من قوله تعالى : { بِمَا فَتَحَ اللَّهُ } وقد تقدم أنه يضعف القول بكونها مصدرية ، وأنه يجوز أن يعود على أحد المصدرين المفهومين من " أَتُحَدِّثُونَهُمْ " و " فتح " .

قوله : " عِنْدَ رَبِّكُمْ " ظرف معمول لقوله : " لِيُحَاجُّوكُمْ " بمعنى : ليحاجُّوكم يوم القيامة ، فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم على رؤوس الخَلاَئق في الموقف ، فكنى عنه بقوله : " عِنْدَ رَبِّكُمْ " قاله الأصم وغيره .

وقال الحسن : " عند " بمعنى " في " أي : ليحاجُّوكم في ربكم أي : فيكونون أحقّ به منكم .

وقيل : ثم مضاف محذوف أي : عند ذكر ربكم . وقال القَفّال رحمه الله تعالى : يقال : فلان عندي عالم أي : في اعتقادي وحُكْمي ، وهذا عند الشَّافعي حَلاَل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حرام أي : في حكمهما وقوله : { لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } أي : لتصيروا محجوجين [ عند ربكم ]{[1409]} بتلك الدلائل في حكم الله .

ونظيره تأويل بعض العلماء قوله : { يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ النور : 13 ] أي : في حكم الله وقضائه أن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً .

وقيل : هو معمول لقوله : { بِمَا فَتَحَ اللَّهُ } أي : بما فتح الله من عند ربّكم ليحاجّوكم ، وهو نَعْته عليه الصلاة والسلام وأخذ ميثاقهم بتصديقه .

ورجّحه بعضهم وقال : هو الصحيح ؛ لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدّنيا .

وفي هذا نظر من جهة الصناعة ، وذلك أن " ليُحَاجُّوكُمْ " متعلق بقوله : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ } على الأظهر كما تقدم ، فيلزم الفَصْل به بين العامل وهو " فتح " وبين معموله وهو عند ربك وذلك لا يجوز ؛ لأنه أجنبي منهما .

قوله : " أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " في هذه الجملة قولان :

أحدهما : أنها مندرجة في حَيِّز القول ، أي : إذا خَلاَ بعضهم ببعض قالوا لهم : أتحدثونهم بما يرجع وَبَاله عليكم وصِرْتُم محجوجين به ، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق ، وهذا أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم ، فَعَلَى هذا محلها النصب .

والثاني : أنها من خطاب الله تعالى للمؤمنين ، وكأنه قدح في إيمانهم ، لقوله : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } [ البقرة : 75 ] قاله الحسن .

فعلى هذا لا محلّ له ، ومفعول " تعقلون " يجوز أن يكون مراداً ، ويجوز ألاّ يكون .


[1405]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (2/251) عن ابن عباس.
[1406]:- في أ: رزق ذلك.
[1407]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (2/252) عن مجاهد.
[1408]:- انظر البحر المحيط: 1/439، الدر المصون: 1/266.
[1409]:- سقط في ب.