اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُـۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (88)

قوله :

{ فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم } أي : من غمه بسبب كونه في بطن الحوت وبسبب خطيئته .

قوله : { وكذلك نُنجِي المؤمنين } : الكاف نعت لمصدر أو حال من ضمير المصدر أي : كما أنجينا يونس من كرب الحوت إذ دعانا ، أو كإنجائنا يونس كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا . وقرأ العامة{[29452]} «نُنْجِي » بضم النون الأولى وسكون الثانية من أنجي ينجي{[29453]} . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم «نُجِّي » بتشديد الجيم وسكون الياء{[29454]} وفيها أوجه :

أحسنها : أن يكون الأصل «نًنْجِي » بضم الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم فاستثقل توالي مثلين ، فحذفت الثانية كما حذفت في قوله { مَا نُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ }{[29455]} في قراءة من قرأه كما تقدم{[29456]} ، وكما حذفت التاء الثانية في قوله : { تَذَكَّرَونَ }{[29457]} و { تَظَاهَرُونَ }{[29458]} وبابه . ولكن أبو البقاء استضعف هذا التوجيه بوجهين فقال :

أحدهما : أنَّ النون الثانية أصل ، وهي فاء الكلمة ، فحذفها يبعد جداً .

والثاني : أنَّ حركتها غير حركة النون الأولى ، ولا يستثقل الجمع بينهما بخلاف «تظاهرون »{[29459]} ألا ترى أنك لو قلت : تتحامى المظالم لم يَسُغْ{[29460]} حذف الثانية{[29461]} .

أما كون الثانية أصلاً فلا أثر له في{[29462]} منع الحذف ، ألا ترى أن النحويين اختلفوا في إقامة واستقامة ، أي الألفين المحذوفة من أنَّ الأولى هي الأصل ، لأنها عين الكلمة{[29463]} وأما اختلاف الحركة فلا أثر له أيضاً ، لأن الاستثقال باتحاد لفظ الحرفين على أي حركة كانا .

الوجه الثاني : أنّ{[29464]} «نُجِّي »{[29465]} فعل ماض مبني للمفعول ، وإنما سكنت لامه تخفيفاً ، كما سكنت في قوله : { مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا }{[29466]} في قراءة شاذّة تقدمت{[29467]} ، قالوا : وإذا كان الماضي الصحيح قد سكن تخفيفا فالمعتل أولى ، ومنه :

3732- إنَّمَا شِعْرِي قَنْدٌ *** قَدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ{[29468]}

وتقدم منذ لك جملة{[29469]} وأسند{[29470]} هذا الفعل إلى ضمير المصدر مع وجود المفعول الصريح كقراءة أبي جعفر «لِيُجْزَى قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ »{[29471]} وهذا رأي الكوفيين والأخفش{[29472]} ، وتقدمت شواهد ذلك ، والتقدير : نُجِّي النجاة ، قال أبو البقاء : وهو ضعيف من وجهين :

أحدهما : تسكين آخر الفعل الماضي .

والآخر : إقامة المصدر مع وجود المفعول الصريح{[29473]} .

وقد عرف جوابهما مما تقدم{[29474]} .

الوجه الثالث : أن الأصل «نُنْجِي » كقراءة{[29475]} العامة إلا أن النون الثانية قلبت جيماً وأدغمت{[29476]} في الجيم بعدها{[29477]} . وهذا ضعيف جداً ، لأن النون لا تقارب الجيم فتدغم فيها{[29478]} .

الوجه الرابع : أنه ماض مسند بضمير المصدر أي : نُجِّي النجاءُ{[29479]} كما تقدم في الوجه الثاني ، إلا أنَّ «المُؤْمِنِينَ » ليس منصوباً ب «نُجِّي » بل بفعل مقدر{[29480]} . وكأن صاحب هذا الوجه فرَّ من إقامة غير المفعول به من وجوده فجعله من جملة أخرى . وهذه القراءة متواترة ، ولا التفات على من طعن على قارئها ، وإن كان أبو علي قال : هي لحن{[29481]} . وهذه جرأة منه ، وقد سبقه إلى ذلك أبو إسحاق الزجاج{[29482]} .

وأما الزمخشري فإنما طعن على بعض الأوجه المتقدمة ، فقال : ومن تمحل لصحته فجعله فُعِّل ، وقال : نُجِّي النجاء المؤمنين ، وأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ، ونصب المؤمنين فمتعسف بارد{[29483]} التعسف{[29484]} . فلم يرتض هذا التخريج بل للقراءة عنده تخريج آخر ، وقد يمكن أن يكون هو المبتدأ به لسلامته مما تقدم من الضعف{[29485]} .


[29452]:غير أبي بكر عن عاصم وابن عامر. السبعة 430.
[29453]:وهو زيد بن علي حيث قرأ {ما نزل} ماضيا مخففا مبنيا للفاعل "الملائكة" بالرفع. البحر المحيط 6/446.
[29454]:السبعة (430)، الكشف 2/113، النشر 2/324، الإتحاف 311.
[29455]:من قوله تعالى: {ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين} [الحجر: 8].
[29456]:5 وهو زيد بن علي حيث قرأ {ما نزل} ماضيا مخففا مبنيا للفاعل "الملائكة" بالرفع. البحر المحيط 6/446.
[29457]:قوله {تذكرون} ذكر في القرآن في سبعة عشر موضعا أوله: {وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} [الأنعام: 152] وانظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن 272.
[29458]:من قوله تعالى: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} [البقرة: 85]، والأصل تتظاهرون حكى هذا الوجه أبو جعفر النحاس عن علي بن سليمان. إعراب القرآن 3/87. انظر اللباب 1/201.
[29459]:من قوله تعالى: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} [البقرة: 85]، والأصل تتظاهرون حكى هذا الوجه أبو جعفر النحاس عن علي بن سليمان. إعراب القرآن 3/87. انظر اللباب 1/201.
[29460]:في النسختين: لم تمنع. وما أثبته من التبيان.
[29461]:التبيان 2/925.
[29462]:في ب: و.وهو تحريف.
[29463]:فالخليل وسيبويه على أن المحذوف الألف الثانية، والأخفش والفراء على أن المحذوف الألف الأولى.
[29464]:أن: سقط من ب.
[29465]:في ب: تنجي. وهو تحريف.
[29466]:من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278].
[29467]:وذلك أن أبيا قرأ "ما بقي" بكسر القاف وسكون الياء. المختصر (17).
[29468]:البيت من مجزوء الرمل، قاله وضاح اليمن، وهو في الحجة 2/66، اللسان (جلل) والبحر المحيط 1/42. وقبله: ضحك الناس وقالوا *** شعر وضاح الكباني القند: عسل قصب السكر، ويروى (شهد) والشهد بفتح الشين وضمها وسكون الهاء: العسل ما دام لم يعصر من شمعه، ويروى (ملح) بكسر الميم ومعناه الحسن من الملاحة، ويروى (فيد) بفتح الفاء وسكون الياء: وهو ورد الزعفران وقيل ورقه. الجلجلان: ثمرة الكزبرة، وقيل : حب السمسم، وقيل: ما في جوف التين. والاستشهاد بالبيت على حذف حركة اللام من الفعل الماضي الصحيح اللام في خلط.
[29469]:تقدم في السورة السابقة.
[29470]:في الأصل: واسكن. وهو تحريف.
[29471]:من قوله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} [ الجاثية: 14] وقراءة أبي جعفر {ليجزي} بضم الياء وفتح الزاي بالبناء للمجهول. النشر 2/372.
[29472]:وذلك أن الكوفيين والأخفش يجوزون إنابة غير المفعول به مع وجوده مطلقا، غير أن الأخفش يشترط تقدم النائب، واستدلوا على ذلك بقراءة أبي جعفر {ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} ببناء (يجزى) للمفعول، وبقول الشاعر: لم يعن بالعلياء إلا سيـــدا *** ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى وقول الآخر: وإنما يرضي المنيب ربه *** ما دام معنيا بذكر قلبــــــه ومذهب البصريين لا يجوز إنابة غير المفعول به مع وجوده، وأولوا قراءة أبي جعفر بأن النائب منها ضمير مستتر يعود على الغفران المفهوم من يغفروا وحملوا البيتين على الضرورة وانظر البيان 2/164، البحر المحيط 6/335، الهمع 1/162، شرح الأشموني 2/67-68.
[29473]:التبيان: 2/925.
[29474]:من أن تسكين آخر الفعل الماضي للتخفيف، وإقامة غير المفعول به مع وجوده مذهب الكوفيين والأخفش.
[29475]:في ب: لقراءة. وهو تحريف.
[29476]:في ب: قلبت ضما وإذا ضمت. وهو تحريف.
[29477]:وهذا الوجه لأبي عبيد، إعراب القرآن للنحاس 3/78.
[29478]:إعراب القرآن للنحاس 3/78، الكشف 2/133، التبيان 2/925، البحر المحيط 335.
[29479]:في الأصل: نجاء.
[29480]:انظر البحر المحيط 6/335.
[29481]:انظر البحر المحيط 6/335.
[29482]:قال الزجاج: (فـأما ما روي عن عاصم بنون واحدة لا وجه له، لأنّ ما لا يسمى فاعله لا يكون بغير فاعل. وقد قال بعضهم: نُجّي النجاء المؤمنين، وهذا خطأ بإجماع النحويين كلهم، لا يجوز ضُرب زيدا، تريد ضرب الضرب زيدا، لأنك إذا قلت: ضرب زيد فقد علم أنه الذي ضربه ضرب، فلا فائدة في إضماره وإقامته مقام الفاعل) معاني القرآن وإعرابه 3/4503.
[29483]:في ب: بإرادة. وهو تحريف.
[29484]:الكشاف 3/19.
[29485]:وهو قوله: (وننجي) فيكون موافقا للوجه الأول.