اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ} (30)

قوله{[31026]} تعالى : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله } الآية . «ذَلِكَ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : الأمر والشأن ذلك{[31027]} ، قال الزمخشري : كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني ، فإذا أراد الخوض في{[31028]} معنى آخر قال هذا ، وقد كان كذا{[31029]} . وقدره ابن عطية : فرضكم ذلك أو الواجب ذلك{[31030]} . وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، أي ذلك الأمر الذي ذكرته{[31031]} . وقيل : في محل نصب أي : امتثلوا ذلك{[31032]} . ونظير هذه الإشارة قول زهير بعد تقدم جمل في وصف هرم بن سنان :

هذَا وَلَيْسَ كَمنْ يَعْيَا{[31033]} بَخُطَّتِهِ *** وَسْطَ النَّدِيّ إِذَا نَاطِقٌ نَطَقَا{[31034]}

والحرمة{[31035]} ما لا يحلّ هَتْكُه ، وجميع ما كلفه الله بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل{[31036]} أن يكون عاماً في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج .

وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمشعر الحرام{[31037]} . وقال ابن زيد : الحرمات ههنا : البيت الحرام{[31038]} ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، ( والإحرام ){[31039]} {[31040]} .

وقال الليث : حرمات{[31041]} الله ما لا يحل انتهاكها{[31042]} .

وقال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به ، وحرم التفريط فيه {[31043]} .

قوله : «فهو » «هُو » ضمير المصدر المفهوم من قوله : «وَمَنْ يُعَظّم » ، أي ؛ فتعظيم حرمات الله خير له{[31044]} ، كقوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى }{[31045]} [ المائدة : 8 ] و «خير » هنا ظاهرها التفضيل{[31046]} بالتأويل المعروف{[31047]} ومعنى التعظيم : العلم بوجوب{[31048]} القيام بها وحفظها .

وقوله : «عِنْدَ رَبِّهِ » أي : عند الله في الآخرة . وقال الأصم : فهو خير له من التهاون{[31049]} .

قوله : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } ووجه النظم أنه كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تَحْرُم ، فبيَّن تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها ، ثم استثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم في سورة المائدة في قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }{[31050]} [ المائدة : 1 ] ، وقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ }{[31051]} {[31052]} [ الأنعام : 121 ] .

قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } يجوز أن يكون استثناء متصلاً ، ويصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام لسبب عارض كالموت ونحوه . وأن يكون استثناءً منقطعاً ؛ إذ ليس فيها محرم{[31053]} وقد تقدم تقرير هذا أول المائدة {[31054]} .

قوله : «مِنَ الأَوْثَانِ » . في «مِنْ » ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها لبيان الجنس{[31055]} ، وهو مشهور قول المعربين ، ويقدر{[31056]} بقولك الرجس الذي هو الأوثان . وقد تقدم أن شرط كونها بيانية ذلك{[31057]} ويجيء مواضع كثيرة لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضه .

والثاني : أنها لابتداء الغاية {[31058]} .

قال شهاب الدين : وقد خلط أبو البقاء القولين فجعلهما قولاً واحداً . فقال : و «مِنْ » لبيان الجنس ، أي : اجتنبوا الرجس من هذا القبيل وهو معنى ابتداء الغاية ههنا{[31059]} يعني أنه في المعنى يؤول إلى ذلك ولا يؤول إليه البتة{[31060]} .

الثالث : أنها للتبعيض{[31061]} . وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال : ومن قال إن «من » للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده{[31062]} . وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس{[31063]} عبادة الأوثان ، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه{[31064]} قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره مما لم يحرم الشرع{[31065]} استعماله ، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها . قاله أبو حيان{[31066]} . والأوثان جمع وثن ، والوثن يطلق على ما صُوِّر من نحاس وحديد وخشب{[31067]} ويطلق أيضاً على الصليب ، قال عليه السلام{[31068]} لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً : «أَلْقِ هذَا الوَثَنَ عَنْكَ »{[31069]} وقال الأعشى :

يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ *** كَطَوْفِ النَّصَارَى ببَيْتِ الوَثَنْ{[31070]}

واشتقاقه من وَثن الشيء ، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن ، وأنشد لرؤبة :

عَلَى أَخِلاَّءِ الصَّفَاءِ الوُثَّنِ{[31071]} ***

أي : المقيمين على العهد ، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصَّنم {[31072]} .

فصل

قال المفسرون : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } أي ؛ عبادتها ، أي كونوا على جانب منها فإنها رجس ، أي سبب رجس وهو العذاب ، والرجس بمعنى الرجز{[31073]} .

وقال الزجاج : «مِن » ههنا للتجنيس{[31074]} ، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس { واجتنبوا قَوْلَ الزور } . واعلم أنه تعالى{[31075]} لما حَثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور ، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات ، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد ، لأن الشرك من باب الزور ، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة فكأنه قال : فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله ، ولا تقربوا{[31076]} شيئاً منه ، وما ظنك بشيء من قبيلة عبادة الأوثان{[31077]} . وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات . قال الأصَمّ : إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها . وهذا بعيد ، وإنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً {[31078]} .

والزور{[31079]} من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك{[31080]} ( من أَفِكه إذا صرفه ) {[31081]} وذكر المفسرون في قول الزور وجوهاً :

الأول : قولهم : هذا حلال وهذا حرام ، وما أشبه ذلك .

والثاني : شهادة الزور ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح فلما سلم قام قائماً ، واستقبل الناس بوجهه ، وقال : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله » وتلا هذه الآية {[31082]} .

الثالث : الكذب والبهتان .

الرابع : قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك {[31083]} .


[31026]:قوله: سقط من الأصل.
[31027]:انظر الكشاف 3/31، البيان 3/174، التبيان 2/940، البحر المحيط 6/365.
[31028]:في الأصل: من.
[31029]:الكشاف 3/31.
[31030]:تفسير ابن عطية 10/272.
[31031]:انظر البحر المحيط 6/356.
[31032]:انظر تفسير ابن عطية 10/272، البحر المحيط 6/365.
[31033]:في ب: يعني وهو تحريف.
[31034]:البيت من بحر البسيط قاله زهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح فيها هرم بن سنان وهو في شرح الديوان (77)، وتفسير ابن عطية 10/272، والقرطبي 12/53، والبحر المحيط 6/366، والبيت يصف هرم بن سنان بالبلاغة والفصاحة، وبأنه لا يعيا بخطته في مجلس القوم، وذلك بعد أن وصفه في الأبيات السابقة بالكرم والشجاعة. والشاهد فيه الإشارة البليغة بقوله في أول البيت: هذا.
[31035]:من هنا نقله ابن عادل عن الكشاف 3/31، والفخر الرازي 23/32.
[31036]:في الأصل: يحتمل.
[31037]:آخر ما نقله هنا عن الكشاف 3/31، والفخر الرازي 23/32.
[31038]:في ب: الحرمات. وهو تحريف.
[31039]:انظر البغوي 5/580.
[31040]:ما بين القوسين سقط من ب.
[31041]:في ب: الحرمات. وهو تحريف.
[31042]:انظر البغوي 5/580.
[31043]:معاني القرآن وإعرابه 3/42. البغوي 5/580.
[31044]:انظر البحر المحيط 6/366.
[31045]:للتقوى: سقط من الأصل. [المائدة: 8].
[31046]:في ب: التفضل.
[31047]:أي أن (خير) حذفت منه الهمزة في الدلالة على التفضيل لكثرة الاستعمال أي: فالتعظيم خير له عند ربه، أي قربة في طاعته. وأبو حيان يرى أن الظاهر في خير هنا أنها ليست أفعل تفضيل. البحر المحيط 6/366.
[31048]:في ب: موجب. وهو تحريف.
[31049]:انظر الفخر الرازي 23/32.
[31050]:من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد} [الآية: 1].
[31051]:[الأنعام: 121].
[31052]:انظر الفخر الرازي 23/32.
[31053]:انظر التبيان 2/941.
[31054]:عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 1].
[31055]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/425، مشكل إعراب القرآن 2/97، الكشاف 3/31 تفسير ابن عطية 10/273 البيان 2/174، التبيان 2/941، البحر المحيط 6/366.
[31056]:في الأصل: ويتقدر.
[31057]:أي أن شرط كون "من" لبيان الجنس صحة وقوع الموصول مع ضمير يعود على ما قبلها إن كان ما قبلها معرفة كما هنا، أما إن كان ما قبلها نكرة فشرطها صحة وقوع الضمير فقط كقوله تعالى: {من أساور من ذهب} [الحج: 23] أي: هي ذهب شرح التصريح 2/8، وشرح الأشموني 2/211.
[31058]:فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس. تفسير ابن عطية 10/273، البحر المحيط 6/366.
[31059]:التبيان 3/941.
[31060]:الدر المصون 5/73.
[31061]:والقائل بأنها للتبعيض الأخفش فإنه قال في معاني القرآن: (وقال: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" وكلها رجس، والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي يكون منها، أي عبادتها) 2/637.
[31062]:تفسير ابن عطية 10/273.
[31063]:في الأصل: بالرجس. وهو تحريف.
[31064]:في الأصل: كأنه.
[31065]:في ب: السرع. وهو تحريف.
[31066]:البحر المحيط 6/366.
[31067]:اللسان (وثن).
[31068]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31069]:أخرجه الترمذي (تفسير) 5/278، وانظر نهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/151.
[31070]:البيت من بحر المتقارب، قاله الأعشى، وهو في ديوانه (209) واللسان (وثن)، والبحر المحيط 6/247، العفاة: السائلون. والشاهد فيه أنه أراد بالوثن الصليب.
[31071]:وجز لرؤبة في ديوانه (163)، اللسان (وثن)، البحر المحيط 6/347. أخلاء: جمع خليل، وهو المحب الذي ليس في محبته خلل. الصفاء: ضد الكدر، وهو مصدر الشيء الصافي. الوثن: المقيمون على العهد. وهو موطن الشاهد هنا.
[31072]:عند قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة؛ [الأنعام: 74].
[31073]:انظر البغوي 5/580. وفي اللسان (رجس): والرجس: العذاب كالرجز. التهذيب: وأما الرجز فالعذاب والعمل الذي يؤدي إلى العذاب. والرجس في القرآن: العذاب كالرجز.
[31074]:قال الزجاج: ("من" ههنا لتخليص جنس من أجناس المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو الوثن) معاني القرآن وإعرابه 3/425.
[31075]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/32.
[31076]:في ب: ولا تقولوا. وهو تحريف.
[31077]:في الأصل بعد قوله: (عبادة الأوثان) كرر قوله: التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله.
[31078]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/32.
[31079]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/32 – 33.
[31080]:في النسختين: الإبل. والصواب ما أثبته.
[31081]:ما بين القوسين بياض في الأصل، وسقط من ب. والتكملة من الفخر الرازي.
[31082]:أخرجه الترمذي (شهادات) 4/547، أبو داود (أقضية) 4/524 ابن ماجه (أحكام) 2/974 أحمد 4/178، 233، 321، 322.
[31083]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/32 – 33.