قوله{[31026]} تعالى : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله } الآية . «ذَلِكَ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : الأمر والشأن ذلك{[31027]} ، قال الزمخشري : كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني ، فإذا أراد الخوض في{[31028]} معنى آخر قال هذا ، وقد كان كذا{[31029]} . وقدره ابن عطية : فرضكم ذلك أو الواجب ذلك{[31030]} . وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، أي ذلك الأمر الذي ذكرته{[31031]} . وقيل : في محل نصب أي : امتثلوا ذلك{[31032]} . ونظير هذه الإشارة قول زهير بعد تقدم جمل في وصف هرم بن سنان :
هذَا وَلَيْسَ كَمنْ يَعْيَا{[31033]} بَخُطَّتِهِ *** وَسْطَ النَّدِيّ إِذَا نَاطِقٌ نَطَقَا{[31034]}
والحرمة{[31035]} ما لا يحلّ هَتْكُه ، وجميع ما كلفه الله بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل{[31036]} أن يكون عاماً في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج .
وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمشعر الحرام{[31037]} . وقال ابن زيد : الحرمات ههنا : البيت الحرام{[31038]} ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، ( والإحرام ){[31039]} {[31040]} .
وقال الليث : حرمات{[31041]} الله ما لا يحل انتهاكها{[31042]} .
وقال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به ، وحرم التفريط فيه {[31043]} .
قوله : «فهو » «هُو » ضمير المصدر المفهوم من قوله : «وَمَنْ يُعَظّم » ، أي ؛ فتعظيم حرمات الله خير له{[31044]} ، كقوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى }{[31045]} [ المائدة : 8 ] و «خير » هنا ظاهرها التفضيل{[31046]} بالتأويل المعروف{[31047]} ومعنى التعظيم : العلم بوجوب{[31048]} القيام بها وحفظها .
وقوله : «عِنْدَ رَبِّهِ » أي : عند الله في الآخرة . وقال الأصم : فهو خير له من التهاون{[31049]} .
قوله : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } ووجه النظم أنه كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تَحْرُم ، فبيَّن تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها ، ثم استثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم في سورة المائدة في قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }{[31050]} [ المائدة : 1 ] ، وقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ }{[31051]} {[31052]} [ الأنعام : 121 ] .
قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } يجوز أن يكون استثناء متصلاً ، ويصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام لسبب عارض كالموت ونحوه . وأن يكون استثناءً منقطعاً ؛ إذ ليس فيها محرم{[31053]} وقد تقدم تقرير هذا أول المائدة {[31054]} .
قوله : «مِنَ الأَوْثَانِ » . في «مِنْ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لبيان الجنس{[31055]} ، وهو مشهور قول المعربين ، ويقدر{[31056]} بقولك الرجس الذي هو الأوثان . وقد تقدم أن شرط كونها بيانية ذلك{[31057]} ويجيء مواضع كثيرة لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضه .
والثاني : أنها لابتداء الغاية {[31058]} .
قال شهاب الدين : وقد خلط أبو البقاء القولين فجعلهما قولاً واحداً . فقال : و «مِنْ » لبيان الجنس ، أي : اجتنبوا الرجس من هذا القبيل وهو معنى ابتداء الغاية ههنا{[31059]} يعني أنه في المعنى يؤول إلى ذلك ولا يؤول إليه البتة{[31060]} .
الثالث : أنها للتبعيض{[31061]} . وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال : ومن قال إن «من » للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده{[31062]} . وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس{[31063]} عبادة الأوثان ، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه{[31064]} قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره مما لم يحرم الشرع{[31065]} استعماله ، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها . قاله أبو حيان{[31066]} . والأوثان جمع وثن ، والوثن يطلق على ما صُوِّر من نحاس وحديد وخشب{[31067]} ويطلق أيضاً على الصليب ، قال عليه السلام{[31068]} لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً : «أَلْقِ هذَا الوَثَنَ عَنْكَ »{[31069]} وقال الأعشى :
يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ *** كَطَوْفِ النَّصَارَى ببَيْتِ الوَثَنْ{[31070]}
واشتقاقه من وَثن الشيء ، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن ، وأنشد لرؤبة :
عَلَى أَخِلاَّءِ الصَّفَاءِ الوُثَّنِ{[31071]} ***
أي : المقيمين على العهد ، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصَّنم {[31072]} .
قال المفسرون : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } أي ؛ عبادتها ، أي كونوا على جانب منها فإنها رجس ، أي سبب رجس وهو العذاب ، والرجس بمعنى الرجز{[31073]} .
وقال الزجاج : «مِن » ههنا للتجنيس{[31074]} ، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس { واجتنبوا قَوْلَ الزور } . واعلم أنه تعالى{[31075]} لما حَثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور ، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات ، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد ، لأن الشرك من باب الزور ، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة فكأنه قال : فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله ، ولا تقربوا{[31076]} شيئاً منه ، وما ظنك بشيء من قبيلة عبادة الأوثان{[31077]} . وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات . قال الأصَمّ : إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها . وهذا بعيد ، وإنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً {[31078]} .
والزور{[31079]} من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك{[31080]} ( من أَفِكه إذا صرفه ) {[31081]} وذكر المفسرون في قول الزور وجوهاً :
الأول : قولهم : هذا حلال وهذا حرام ، وما أشبه ذلك .
والثاني : شهادة الزور ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح فلما سلم قام قائماً ، واستقبل الناس بوجهه ، وقال : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله » وتلا هذه الآية {[31082]} .
الرابع : قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك {[31083]} .