قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } الآية . لما فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ، وعظم كفر هؤلاء فقال { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام } وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد {[30711]} .
قال ابن عباس : نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام{[30712]} الحديبية عن المسجد الحرام وعن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهَدْي ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالهم وهو محرم ، ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل {[30713]} .
قوله : «وَيَصدُّونَ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه معطوف على ما قبله ، وحينئذ ففي عطفه على الماضي ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنّ المضارع قد لا يقصد به الدلالة على زمن معين من حال أو استقبال وإنما يُراد به مجرد الاستمرار ، فكأنه قيل : إن الذين كفروا ومن شأنهم الصدّ عن سبيل الله ، ومثله : { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله{[30714]} }{[30715]} [ الرعد : 28 ] .
الثاني : أنه مؤول بالماضي لعطفه على الماضي {[30716]} .
الثالث : أنه على بابه فإن الماضي قبله مؤول بالمستقبل{[30717]} .
الوجه الثاني : أنه حال من فاعل «كَفَرُوا » ، وبه{[30718]} بدأ أبو البقاء{[30719]} . وهو فاسد ظاهراً ، لأنه{[30720]} مضارع مثبت وما{[30721]} كان كذلك لا تدخل عليه الواو وما ورد منه على قلته مؤول ، فلا يحمل عليه القرآن{[30722]} . وعلى هذين القولين فالخبر محذوف ، واختلفوا في موضع تقديره ، فقدره ابن عطية بعد قوله : «وَالبَادِ » أي : إن الذين كفروا خسروا أو أهلكوا ، ونحو ذلك {[30723]} .
وقدره الزمخشري بعد قوله : «وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ » أي إن الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم ، وإنما قدره{[30724]} كذلك ؛ لأن قوله : { نُّذِيقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يدل عليه{[30725]} . إلا أن أبا حيان في تقدير الزمخشري بعد «المَسْجِدِ الحَرَامِ » : لا يصح ، قال : لأن «الَّذِي » صفة للمسجد الحرام ، فموضع التقدير هو بعد «وَالْبَادِ »{[30726]} . يعني أنه يلزم{[30727]} من تقديره الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو خبر «إنَّ » فيصير التركيب : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم الذي جعلناه للناس .
وللزمخشري أن ينفصل عن هذا الاعتراض بأن «الَّذِي جَعَلْنَاه » لا نسلم أنه نعت للمسجد{[30728]} حتى يلزم ما ذكر بل نجعله مقطوعاً عنه نصباً أو رفعاً{[30729]} . ثم قال أبو حيان : لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية ، لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك {[30730]} .
الوجه الثالث : أن الواو في «وَيَصُدُّونَ » مزيدة في خبر «إنَّ » تقديره : إن الذين كفروا ( يصدون ){[30731]} {[30732]} . وزيادة الواو مذهب كوفي تقدم بطلانه{[30733]} . وقال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى المقصود{[30734]} . قال شهاب الدين : ولا أدري فساد المعنى من أي جهة ألا ترى لو صرح بقولنا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ ) لم يكن فيه فساد معنى ، فالمانع إنما هو أمر صناعي عند أهل البصرة لا معنوي ، اللهم إلا أن يريد معنى خاصاً يفسد بهذا التقدير فيحتاج إلى بيانه{[30735]} .
قوله : «الَّذِي جَعَلْنَاهُ » يجوز جره على النعت والبيان ، والنصب بإضمار فعل ، والرفع بإضمار مبتدأ . والجعل يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صيّر ، وأن يتعدى لواحد . والعامة على رفع «سواء » . وقرأ حفص عن عاصم بالنصب هنا{[30736]} ، وفي الجاثية «سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ »{[30737]} وافقه على الذي في الجاثية الأخوان{[30738]} وسيأتي توجيهه . فأما على قراءة الرفع ، فإِن قلنا : إنَّ «جَعَلَ » بمعنى ( صير ) كان في المفعول الثاني ثلاثة أوجه :
أظهرها{[30739]} : أن الجملة من قوله : { سَوَاءً العاكف فِيهِ } هي المفعول الثاني{[30740]} ، ثم الأحسن في رفع «سَوَاءٌ » أن يكون خبراً مقدماً ، و «العاكف » ، والبادي مبتدأ مؤخر ، وإنما وَحَّد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين ، لأنَّ «سَواءٌ » في الأصل مصدر{[30741]} وصف به ، وقد تقدم أول البقرة{[30742]} . وأجاز بعضهم أن يكون «سَوَاءٌ » مبتدأ ، وما بعده الخبر{[30743]} ، وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ ، ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة{[30744]} جعلت المعرفة المبتدأ . وعلى هذا الوجه أعني كون الجملة مفعولاً ثانياً فقوله : «للنَّاس » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بالجعل ، أي : جعلناه لأجل الناس كذا .
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من مفعول «جَعَلْنَاهُ » ، ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجه غير ذلك{[30745]} ، وليس معناه متضحاً .
الوجه الثاني : أنَّ «لِلنَّاسِ » هو المفعول الثاني ، والجملة من قوله : «سَوَاءٌ العَاكِفُ » في محل نصب على الحال ، إما من الموصول وإما من عائده وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء{[30746]} ، وفيه نظر ؛ لأنه جعل هذه الجملة التي هي محطّ الفائدة فضلة .
الوجه الثالث : أن المفعول الثاني محذوف . قال ابن عطية : المعنى الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبداً{[30747]} . فتقدير ابن عطية هذا مرشد لهذا الوجه . إلا أن أبا حيان قال : ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلا إن كان{[30748]} أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ ؛ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني ، فلا يحتاج إلى هذا التقدير{[30749]} وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله : «لِلنَّاسِ » متعلقاً بالجعل على الغلبة وجوَّز فيه أبو البقاء وجهين آخرين :
أحدهما : أنه حال من مفعول «جَعَلْنَاهُ » .
والثاني : أنه مفعول تعدى إليه بحرف الجر{[30750]} .
وهذا الثاني لا يتعقل كيف يكون «لِلنَّاسِ » مفعولاً عدي إليه الفعل بالحرف هذا ما لا يعقل ، فإن أراد أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة . وأما على قراءة حفص فإن قلنا : «جَعَلَ » يتعدى لاثنين كان «سواء » مفعولاً ثانياً{[30751]} . وإن قلنا : يتعدى لواحد كان حالاً من هاء «جَعَلْنَاهُ »{[30752]} وعلى التقديرين ف «العَاكِفُ » مرفوع به على الفاعلية ؛ لأنه مصدر وصف به ، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق ، تقديره : جعلناه مستوياً فيه العاكف ، ويدل عليه قولهم : مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٍ هُوَ وَالعَدَمُ ، فهو{[30753]} تأكيد للضمير المستتر فيه ، والعدم نسق على الضمير المستتر ؛ ولذلك ارتفع{[30754]} ، ويروى : سَوَاءٍ وَالعَدَمُ ؛ بدون تأكيد وهو شاذ{[30755]} وقرأ الأعمش وجماعة «سَوَاء » نصباً «العَاكِف » جرًّا{[30756]} ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من الناس بدل تفصيل{[30757]} .
والثاني : أنه عطف بيان ، فهذا{[30758]} أراد ابن عطية بقوله{[30759]} : عطفاً على الناس{[30760]} .
ويمتنع في هذه القراءة رفع «سَوَاءٌ » لفساده صناعة{[30761]} ومعنى{[30762]} ، ولذلك قال أبو البقاء : و «سَوَاء » على هذا نصب لا غير{[30763]} . وأثبت ابن كثير ياء «وَالبَادِي » وقفاً ووصلاً{[30764]} . وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً . وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ، وهي محذوفة في الإمام{[30765]} .
معنى الكلام : ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً كما قال : «وُضِعَ لِلنَّاسِ »{[30766]} وتقدم الكلام على معنى «سَوَاء » باختلاف القراءة .
وأراد ب «العَاكِف »{[30767]} المقيم فيه ، و «البَادِي » الطارئ من البدو ، وهو النازع{[30768]} إليه من غربته{[30769]} . وقال بعضهم : يدخل في «العَاكِف » الغريب إذا جاور ولزمه كالبعيد وإن لم يكن من أهله . واختلفوا في معنى «سَوَاء » فقال ابن عباس في بعض الروايات : إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها ، فليس أحدهما أحق بالنزول الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون أحدهما سبق إلى المنزل ، وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ، ومن مذهب هؤلاء تحريم كراء{[30770]} دور مكة وبيعها ، واستدلوا بالآية والخبر أما الآية فهذه ، قالوا : إن أرض مكة لا تملك ، فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والباد ، فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد . وأما الخبر فقوله عليه السلام{[30771]} : «مكة مناخ لمن سبق إليه »{[30772]} وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبي حنفية وإسحاق الحنظلي{[30773]} {[30774]} .
وقال عبد الرحمن بن سابط{[30775]} : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة أحق بمنزله منهم{[30776]} . وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم{[30777]} وعلى هذا فالمراد ب «المَسْجِدِ الحَرَامِ » الحرم كله ؛ لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام وإرادة البلد{[30778]} الحرام جائز لقوله{[30779]} تعالى { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام }{[30780]} [ الإسراء : 1 ] . وأيضاً فقوله : «العَاكِفُ » المراد منه المقيم ، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل{[30781]} . وقيل : { سَوَاءً العاكف فِيهِ والبادي } في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة ، أي ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ، قال عليه السلام{[30782]} : «يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلب من وُلِّي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صَلّى أية ساعة من ليل أو نهار »{[30783]} وهذا قول من أجاز بيع دور مكة{[30784]} .
وقد جرت مناظرة{[30785]} بين الشافعي وإسحاق الحنظلي بمكة وكان إسحاق لا يرخِّص في كراء بيوت مكة ، فاحتج الشافعي بقوله تعالى : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم }{[30786]} [ الحج : 40 ] . فأضاف الديار إلى مالكيها{[30787]} أو إلى غير مالكيها{[30788]} . وقال عليه السلام{[30789]} يوم فتح مكة : «من أغلق بابه فهو آمن »{[30790]} ، وقوله عليه السلام : «هل ترك لنا عقيل من رباع »{[30791]} . وقد اشترى عمر بن الخطاب دار السجن ، أترى أنه اشتراها من مالكيها{[30792]} أو من غير مالكيها {[30793]} .
قال إسحاق : فلما علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي{[30794]} . والقول بجواز بيع دور مكة وإجارتها قول طاوس{[30795]} وعمرو بن دينار وبه قال الشافعي .
قوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن{[30796]} مفعول «يُرِدْ » محذوف ، وقوله : «بإلحَادٍ بظُلمٍ » حالان مترادفان ، والتقدير : ومن يرد فيه مراداً ما{[30797]} عادلاً عن القصد ظالماً نذقه من عذاب أليم . وإنما حذف ليتناول كل متناول ، قال معناه الزمخشري {[30798]} .
والثاني : أنّ المفعول أيضاً محذوف تقديره : ومن يرد فيه تَعَدِّيا{[30799]} ، و{[30800]} «بإلحاد » حال ، أي : ملتبساً بإلحاد ، و «بِظُلْمٍ » بدل بإعادة الجار {[30801]} .
الثالث : أن يكون «بظلم » متعلقاً ب «يُرِدْ » والباء للسببية{[30802]} ، أي : بسبب الظلم و «بإلحَادٍ » مفعول به ، والباء مزيدة فيه كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ }{[30803]} [ البقرة : 195 ] .
لاَ يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ{[30804]} *** . . .
وإليه ذهب أبو عبيدة{[30805]} ، وأنشد للأعشى :
ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيالنَا أَرْمَاحُنَا{[30806]} *** . . .
أي : ضمنت رزق . ويؤيده قراءة الحسن : { وَمَنْ يُرِدْ إلحَادَهُ بِظُلْمٍ }{[30807]} .
قال الزمخشري : أراد إلحاده فيه ، فأضافه على الاتساع{[30808]} في الظرف ك «مَكْرُ اللَّيْلِ »{[30809]} ومعناه : ومن يرد أن يلحد فيه ظالما{[30810]} .
الرابع : أن تضمن «يُرِدْ » معنى يلتبس{[30811]} فذلك تعدى بالباء ، أي : ومن يلتبس بإلحاد مريداً له{[30812]} . والعامة على «يُرِد » بضم الياء من الإرادة{[30813]} . وحكى الكسائي والفراء{[30814]} أنه قرئ «يَرد » بفتح الياء{[30815]} ، قال الزمخشري : من الورود ومعناه : من أتى فيه بإلحاد ظالماً {[30816]} .
الإلحاد : العدول عن القصد ، وأصله إلحاد الحافر . واختلف المفسرون فيه ، فقيل : إنه الشرك ، أي مَن لجأ إلى الحرم ليشرك به عَذّبه الله ، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد وقتادة{[30817]} . وروي عن ابن عباس هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم من لا يظلمك{[30818]} . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سعد{[30819]} حيث استسلمه{[30820]} النبي - صلى الله عليه وسلم - فارتد مشركاً ، وفي قيس بن ( ضبابة ){[30821]} {[30822]} . وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن خطل حيث قتل الأنصاريّ وهرب إلى مكة كافراً ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله يوم الفتح{[30823]} . وقال مجاهد : تضاعَفُ السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات {[30824]} .
وعن سعيد بن جبير وحبيب بن أبي ثابت{[30825]} : هو احتكار الطعام بمكة{[30826]} . وعن عطاء هو قول الرجل في المبايعة : لا والله وبلى والله{[30827]} . وعن عبد الله بن عمر : أنه كان له فسطاطان{[30828]} أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، فقيل{[30829]} له في ذلك فقال : كنا نُحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله ، وبلى والله {[30830]} .
وعن عطاء : هو دخول الحرم غير محرم وارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر{[30831]} . ولما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بيَّن تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم فلهذا قرن الظلم بالإلحاد ؛ لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم ، ولذلك قال تعالى { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }{[30832]} [ لقمان : 13 ] .