قوله : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج } . قرأ العامة بتشديد الذال بمعنى ( ناد ) {[30897]} {[30898]} .
وقرأ الحسن وابن محيصن «آذن » بالمد والتخفيف بمعنى أعلم{[30899]} . ويبعده قوله : «فِي النّاس » إذ{[30900]} كان ينبغي أن يتعدى بنفسه . ونقل أبو الفتح عنهما أنهما قرءا بالقصر وتخفيف الذال{[30901]} ، وخرجها أبو الفتح وصاحب اللوامح على أنها عطف على «بَوَّأْنَا » أي : واذكر إذ بوأنا وإذ أُذن في الناس ، وهي تخريج وضاح {[30902]} . وزاد صاحب اللوامح فقال : فيصير في الكلام تقديم وتأخير ويصير «يأتوك » جزماً على جواب الأمر في «وَطهِّر »{[30903]} .
ونسب ابن عطية أبا الفتح في هذه القراءة إلى التصحيف فقال بعد أن حكى قراءة الحسن وابن محيصن «وآذن » بالمد : وتصحف هذا على ابن جنيّ فإنه حكى عنهما «وأَذِنَ » على أنه{[30904]} فعل ماض وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على «بَوَّأْنَا »{[30905]} . قال شهاب الدين : ولم يتصحف عليه بل حكى هذه القراءة أبو الفضل الرازي في اللوامح له عنهما ، وذكرها أيضاً ابن خالويه{[30906]} ، ولكنه لم يطلع عليها ، فنسب من اطّلع عليها للتصحيف ، ولو تأنّى أصاب أو كاد{[30907]} .
وقرأ ابن أبي إسحاق «بالحجِّ » بكسر الحاء حيث وقع{[30908]} كما تقدم .
قال أكثر المفسرين{[30909]} : لما فرغ إبراهيم{[30910]} من بناء البيت قال الله له : { أذن في الناس بالحج } ، قال : يا رب وما يبلغ صوتي ؟ قال : عليك الأذان وعليَّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا ، وفي رواية أبا قبيس ، وفي رواية على المقام . فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه ، وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً ، وقد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم{[30911]} ، فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهم لبيك . قال ابن عباس{[30912]} : فأول من أجابه أهلُ اليَمَن فهم أكثر الناس حجاً{[30913]} . وقال مجاهد : من أجاب مرّة حجّ مرّة ومن{[30914]} أجاب مرتين أو أكثر فيحج مرتين أو أكثر بذلك المقدار{[30915]} . قال ابن عباس : لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى{[30916]} . وقال الحسن وأكثر المعتزلة : إنّ المأمور بالأذان هو محمد - عليه السلام - {[30917]}واحتجوا بأن ما جاء في القرآن وأمكن حَمْله على أن محمداً هو المخاطب فهو أولى وقد بينا أن قوله : «وَإِذْ بَوَّأنَا » ، أي : واذكر يا محمد إذ بوأنا ، فهو في حكم المذكور ، فلما قال : «وَأَذِّنْ » فإليه يرجع الخطاب{[30918]} . قال الجبائي : أمر محمداً - صلى الله عليه وسلم{[30919]} - أن يفعل ذلك في حجة الوداع . قالوا : إنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول ، وفي قوله : «يَأْتُوكَ » دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدى به{[30920]} .
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُم{[30921]} الحجَّ فحُجُّوا »{[30922]} .
قوله : «رِجَالاً » نصب على الحال{[30923]} ، وهو جمع راجل نحو : صاحب وصِحَاب ، وتاجر وتجار ، وقائم وقيام{[30924]} . وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز «رُجَّالاً » بضم الراء وتشديد الجيم .
وروي عنهم تخفيفها ، وافقهم ابن أبي إسحاق على التخفيف ، وجعفر بن محمد ومجاهد على التشديد ، ورويت{[30925]} عن ابن عباس أيضاً{[30926]} . فالمخفف اسم جمع كظؤار{[30927]} ، والمشدد جمع تكسير كصائم وصوام{[30928]} . وروي عن عكرمة أيضاً «رُجَالَى » كنُعَامى بألف التأنيث{[30929]} . وكذلك عن ابن عباس وعطاء إلا أنهما شددا الجيم{[30930]} . قوله : { وعلى كُلِّ ضَامِرٍ } نسق على «رجالاً » ، فيكون حالاً{[30931]} أي : مشاة وركباناً{[30932]} . والضمور : الهزال ، ضَمَر يضْمُر ضُمُوراً ، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها {[30933]} .
قوله : «يأتين » . النون ضمير «كُلِّ ضَامِر » حملاً على المعنى ، إذ المعنى : على ضوامر ، ف «يَأْتِينَ » صفة ل «ضامر » ، وأتى بضمير الجمع حَملاً على المعنى{[30934]} ، أي جماعة الإبل ، وقد تقدم في أول الكتاب أن «كل » إذا أضيفت إلى نكرة لم يراع{[30935]} معناها إلا في قليل{[30936]} ، كقوله :
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ *** فَتَرَكْتُ كُلَّ{[30937]} حَديقَة كَالدِّرْهَمِ{[30938]}
وهذه الآية ترده ، فإن «كلّ » فيها مضافة لنكرة وقد روعي معناها ، وكان بعضهم أجاب عن بيت زهير بأنه{[30939]} إنما جاز ذلك ؛ لأنه في جملتين ، قيل له : فهذه الآية جملة واحدة ، لأن «يأتين » صفة ل «ضَامِر » . وجوَّز أبو حيان أن يكون الضمير يشمل «رجالاً » و «كل ضامر » قال : على معنى الجماعات والرفاق{[30940]} . قال شهاب الدين : فعلى هذا يجوز أن يقال عنده : الرجال يأتين ، ولا ينفعه كونه اجتمع مع الرجال هنا «كل ضامر » ، فيقال جاز ذلك لما اجتمع معه ما يجوز فيه ذلك إذ يلزم منه تغليب غير العاقل على العاقل وهو ممنوع{[30941]} . وقال البغوي : وإنما جمع «يَأْتِين » لمكان{[30942]}«كُلّ » وأراد النوق{[30943]} .
وقرأ ابن مسعود والضحاك وابن أبي عبلة «يَأْتون » تغليباً للعقلاء الذكور{[30944]} . وعلى هذا فيحتمل أن يكون قوله : { على كل ضامر } حالاً أيضاً ، ويكون «يأتون » مستأنفاً متعلق به من كل فج أي يأتونك رجالاً وركباناً ثم قال : { يأتون من كل فج } وأن يتعلق بقوله«يأتون » أي يأتون على كل ضامر من كل فجّ ، و «يأتون » مستأنف أيضاً{[30945]} ، فلا يجوز أن يكون صفة ل «رجالاً » ول «ضامر » لاختلاف الموصوف في الإعراب ؛ لأن أحدهما منصوب والآخر مجرور ، ولو قلت : رأيت زيداً ومررت بعمرو العاقلين . على النعت لم يجز بل على القطع . وقد جوَّز ذلك الزمخشري فقال : وقرئ «يَأْتُون » صفة للرجال والركبان{[30946]} وهو مردود بما ذكرنا . والفج : الطريق بين الجبلين ، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعاً{[30947]} . والعميق : البعيد سفلاً ، يقال : بئر عميقة معيقة{[30948]} ، فيجوز أن يكون مقلوباً إلا أنه أقل{[30949]} من الأول ، قال :
إِذَا الخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ *** يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ{[30950]}
وقرأ ابن مسعود : «مَعِيقٌ »{[30951]} ويقال : عمق وعمق بكسر العين وضمها عمقاً بفتح الفاء قال الليث : عميق ( ومعيق ، والعميق في الطريق أكثر{[30952]} . وقال الفراء : عميق لغة الحجاز{[30953]} ) ومعيق لغة تميم{[30954]} وأعمقت البئر وأمعقتها وعَمُقَت ومَعُقَت عماقة ومعاقة وإعماقاً وإمعاقاً قال رؤبة :
وَقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي المُخْتَرقْ{[30955]} *** . . .
الأعماق هنا بفتح الهمزة جمع عُمْق وعلى هذا فلا قلب في معيق ، لأنها لغة مستقلة ، وهو ظاهر قول الليث أيضاً ، ويؤيده قراءة ابن مسعود بتقديم الميم ، ويقال : غميق بالغين المعجمة أيضاً {[30956]} .
فصل{[30957]}
بدأ الله بذكر المشاة تشريفاً لهم ، وروى{[30958]} سعيد بن جبير بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : «إن{[30959]} الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم ، قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم ؟ قال : الحسنة بمائة ألف حسنة »{[30960]} .
وإنما قال تعالى : «يَأْتُوكَ رِجَالاً » ؛ لأنه هو المنادي فمن أتى مكة حاجّاً فكأنه أتى إبراهيم - عليه السلام{[30961]} - ، لأنه يجيب نداءه .