اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } الآية . قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم{[31526]} عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه{[31527]} على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش ، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء يُنَفِّر عنه ، وتمنى ذلك فأنزل الله سورة { والنجم إِذَا هوى }{[31528]} [ النجم : 1 ] ، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى }{[31529]} [ النجم : 19 - 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه لما كان تحدثه{[31530]} به نفسه ويتمنّاه : تلك الغَرَانِيق{[31531]} العُلَى منها الشفاعة ترتجى . فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءته ، وقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة{[31532]} ، فسجد المسلمون لسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حِفْنَةً من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين ، فلم يستطيعا السجود ، وتفرقت قريش ، وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذِّكر ، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإن جعل لها محمد نصيباً فنحن معه فلما أمسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل ، فقال : يا محمد مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ ما لم أنزل به عن الله عز وجل{[31533]} ، وقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ ؟ فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزناً شديداً ، وخاف من الله خوفاً عظيمًا فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيماً {[31534]} .

قال ابن الخطيب : وأما أهل التحقيق فقالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول : أما القرآن فقوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين{[31535]} } [ الحاقة : 44 - 46 ] ، وقوله : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ }{[31536]} [ يونس : 15 ] ، وقوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى }{[31537]} [ النجم : 3 - 4 ] . فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله : تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال ، وذلك لا يقوله مسلم . وقوله : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً }{[31538]} [ الإسراء : 73 ] وكلمة «كاد » عند بعضهم قريب{[31539]} أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل ، وقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ }{[31540]} [ الإسراء : 74 ] وكلمة «لَوْلاَ » لانتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فذلك دل{[31541]} على أن الركون{[31542]} القليل لم يحصل ، وقوله : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ }{[31543]} [ الفرقان : 32 ] ، وقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى }{[31544]} [ الأعلى : 6 ] وأما السنة : فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة{[31545]} فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً .

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي{[31546]} هذه{[31547]} القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال : رواة هذه القصة مطعونون . وروى البخاري في صحيحه أنه - عليه السلام{[31548]} - قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق{[31549]} .

وروي هذا الحديث من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق . وأما المعقول فمن وجوه :

أحدها : أن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر{[31550]} ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان .

وثانيها : أنه - عليه السلام{[31551]} - ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمناً لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه ، وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروا ليلاً أو في أوقات خلوة ، وذلك يبطل قولهم .

وثالثها : أن معاداتهم للرسول{[31552]} كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر ، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سُجَّداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم .

ورابعها : قوله : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ } وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره ، فبأن يُمْنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى .

وخامسها : أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه ، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : { بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس }{[31553]} [ المائدة : 67 ] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان{[31554]} عن الوحي وبين الزيادة فيه .

فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة . وأما من جهة التفصيل فالتمني جاء في اللغة لأمرين :

أحدهما : تمني القلب .

والثاني : القراءة ، قال الله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ }{[31555]} [ البقرة : 78 ] أي : إلا قراءة ، لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف ، وإنما يعلمه من القراءة .

وقال حسان : {[31556]}

تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ *** وآخِرَها لاقَى حَمَام المَقَادِرِ{[31557]}

وقيل : إنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يُبْتلى بها .

وقال أبو مسلم : التَّمَنِّي هو التقدير ، وتَمَنَّى هو تَفَعَّل من مَنَيْتُ ، والمَنِيَّة وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله{[31558]} ، ومَنَّى الله لك أي : قدَّر لك ، وإذا{[31559]} تقرر ذلك فإن التالي مقدر للحروف يذكرها شيئاً فشيئاً . فالحاصل أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر ، فإن فسرناها بالقراءة ففيه قولان :

الأول : أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه{[31560]} من قوله : تلك{[31561]} الغرانيق العُلَى .

والثاني : المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ، ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه :

الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم{[31562]}- لم{[31563]} يتكلم بقوله : تلك الغرانيق العلى ، ولا الشيطان تكلم به ، ولا أحد تكلم به لكنه - عليه السلام{[31564]} - لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه{[31565]} من قولهم : تلك الغَرَانِيقُ العُلَى . وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير{[31566]} ما يقال ، قاله جماعة وهو ضعيف لوجوه :

أحدها : أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما جرت العادة بسماعه ، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه .

وثانيها : أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم في بعض هذا لتوهم{[31567]} بعض السامعين{[31568]} دون البعض فإن{[31569]} العادة مانعة من اتفاق الجمع العظيم في الساعة الواحدة{[31570]} على خيال{[31571]} واحد فاسد في المحسوسات .

وثالثها : لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان .

الوجه الثاني : قالوا : إن ذلك الكلام كلام الشيطان وذلك بأن يلفظ بكلام من تلقاء نفسه يوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن{[31572]} أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول ، قالوا : ويؤيد ذلك أنه لا خلاف أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول ، فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول ، وعند سكوته ، فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول ، وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له . وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول{[31573]} فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع . فإن قيل : هذا الاحتمال قائم في الكل ، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله أن يبين الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس .

فالجواب لا يجب على الله تعالى إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات ، وإذا لم يجب على الله ذلك أمكن الاحتمال في الكل .

الوجه الثالث : أن يقال : المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس ، وهم الكفرة فإنه عليه السلام{[31574]} لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع ذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها ، فقال بعضهم : تلك الغرانيق العُلاَ ، فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط{[31575]} القوم وكثرة مباحثهم ، وطلبهم تغليطه ، وإخفاء قراءته ، ولعل ذلك في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ، ويسمعون قراءته ، ويَلْغَوْنَ فيها . وقيل : إنه عليه السلام{[31576]} كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات ، فألقى بعض الحاضرين ذلك{[31577]} الكلام في تلك الوقفات ، فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول ، ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان ، لأنه بوسوسته يحصل أولاً ، أو لأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم نفسه شيطاناً .

وهذا أيضاً ضعيف لوجهين :

أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول إزالة الشبهة وتصريح الحق ، وتبكيت ذلك القائل ، وإظهار أن هذه الكلمة صدرت منه ، ولو فعل ذلك لنقل ، فإن قيل : إنما لم يفعل الرسول ذلك ، لأنه كان{[31578]} قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة دون هذه الزيادة{[31579]} ، فلم يكن ذلك مؤدياً إلى اللبس كما لم يؤد سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس .

قلنا : لأن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته ، لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور ، فلم تكن تأدية تلك{[31580]} السورة بدون الزيادة سبباً{[31581]} لزوال اللبس .

وثانيهما : لو كان كذلك لاستحق العتاب على فعل الغير ، وذلك لا يليق بالحكيم .

الوجه الرابع : أن المتكلم بهذا هو الرسول - عليه السلام {[31582]}- ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه :

إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً . فإن قالها سهواً{[31583]} كما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا : إنه عليه السلام{[31584]} كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان ، فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد ، وفرح المشركون بما سمعوا ، وأتاه جبريل واستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال : لم آتِكَ بهذا ، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أنزلت هذه الآية . وهذا ضعيف لوجوه :

أحدها : أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع ، وحينئذ تزول الثقة عن الشرع .

وثانيها : أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ، وطريقتها ومعناها ، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها .

وثالثها : هب أنه تكلم بذلك سهواً فكيف لا يتنبه لذلك حين قرأها على جبريل وذلك ظاهر . وأما إن تكلم بذلك قَسْراً ، كما قال قوم إن الشيطان أجبر{[31585]} النبي على التكلم به وهذا أيضاً فاسد لوجوه :

أحدها : أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي لكان اقتداره علينا أكثر ، فوجب أن يزيل الشيطان الناس{[31586]} عن الدين ، ولجاز في أكثر ما يتكلم به أحدنا أن يكون ذلك بإجبار الشيطان .

وثانيها{[31587]} : أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار{[31588]} لارتفع الأمان عن{[31589]} الوحي لقيام هذا الاحتمال .

وثالثها : أنه باطل لقوله تعالى حاكياً عن الشيطان { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي }{[31590]} [ إبراهيم : 22 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ }{[31591]} [ النحل : 99 ] وقال : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين }{[31592]} [ الحجر : 40 ] ولا شك أنه - عليه السلام{[31593]} - كان سيد المرسلين .

وأما إن كان تكلمه بذلك اختياراً وهاهنا وجهان :

أحدهما : أن يقول إن هذه الكلمة باطلة .

والثاني : أن يقول إنها ليست كلمة باطلة .

أما على الأول فذكروا فيه طريقين :

الأول : قال ابن عباس في رواية عطاء : إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم ، فجاءه جبريل فاستعرضه ، فقرأ السورة ، فلما بلغ إلى تلك الكلمة . قال جبريل : أنا ما جئتك بهذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أَتَانِي آتٍ عَلَى صُورَتِكَ فَأَلْقَاهُ عَلَى لِسَانِي » .

الطريق الثاني : قال بعض الجهال : إنه - عليه السلام - لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ، ثم رجع عنها . وهذان القولان لا يرغب فيهما{[31594]} مسلم ألبتة ، لأن الأول يقتضي أنه - عليه السلام{[31595]} - ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث . والثاني{[31596]} يقتضي أنه كان خائناً في الوحي ، وكل واحد منهما خروج عن الدين .

وأما الوجه الثاني وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فهاهنا أيضاً طرق :

الأول : أن يقال : الغرانيق هم الملائكة ، وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة ، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله ذلك .

الثاني : أن يقال : المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار ، فكأنه قال : أشفاعتهن{[31597]} ترتجى ؟

الثالث : أن يقال : ذكر تعالى الإثبات وأراد النفي كقوله { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ }{[31598]} [ النساء : 176 ] أي : لا تضلوا ، كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً }{[31599]} [ الأنعام : 151 ] والمعنى أن تشركوا . وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا{[31600]} يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن ، أو في الصلاة بناء على هذا التأويل ، ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيئاً من ذلك ، لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر ، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى{[31601]} على تركها نحو الفظاظة وقول الشعر ، فقد ظهر القطع بكذب هذه الوجوه المذكورة في قوله : الغرانيق العلا هذا إذا فسرنا التمني بالتلاوة . فأما إن فسرنا التمني بالخاطر وتمني القلب ، فالمعنى أنه - عليه السلام{[31602]} - إذا تمنى بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته . ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه :

أحدها : أنه تمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا : إنه - عليه السلام - كان{[31603]} يحب أن يتألفهم{[31604]} ، فكان يتردد ذلك في نفسه ، فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه ، وهذا أيضاً خروج عن الدين لما تقدم{[31605]} .

وثانيها{[31606]} : قال مجاهد إنه - عليه السلام{[31607]} - كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير ، فنسخ الله ذلك بأن عرفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها .

وثالثها : يحتمل أنه - عليه السلام{[31608]} - عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إذا كان مجملاً ، فيلقي الشيطان في جملته ما لم ينزل{[31609]} ، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده بأدلته وآياته .

ورابعها : معنى «إذَا تَمَنَّى » إذا أراد فعلاً مقرباً{[31610]} إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه ، فرجع إلى الله في ذلك ، وهو كقوله : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }{[31611]} [ الأعراف : 201 ] ، وكقوله : { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله }{[31612]} [ الأعراف : 200 ] . ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب ، لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتنة للكفار ، وذلك يبطله قوله : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ } . والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار{[31526]} .


[31526]:في ب: ما عد هو. وهو تحريف.
[31527]:في ب: لحرضه. وهو تصحيف.
[31528]:[النجم: 1].
[31529]:[النجم: 19 – 20].
[31530]:في ب: يحدث.
[31531]:الغرانيق: هي الأصنام، وهي في الأصل الذكور من طير الماء. ابن الأنباري: الغرانيق الذكور من الطير واحدها غرنوق، وغرنيق سمي به لبياضه. وقيل هو الكركي. كانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله عز وجل، وتشفع لهم إليه فشبهت بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء. قال ويجوز أن تكون الغرانيق في الحديث جمع الغرانق وهو الحسن. يقال: غرانق وغرانق وغرانيق. اللسان (غرنق).
[31532]:عند قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62].
[31533]:في ب: عن الله تعالى.
[31534]:انظر تفسير البغوي 5/600 – 601، أسباب النزول للواحدي 229 – 230، الفخر الرازي 23/50 – 51.
[31535]:[الحاقة: 44، 45، 46].
[31536]:[يونس: 15].
[31537]:[النجم: 3، 4].
[31538]:[الإسراء: 73].
[31539]:في ب: قرب.
[31540]:[الإسراء: 74].
[31541]:في ب: فدل ذلك.
[31542]:في ب: الركوب. وهو تحريف.
[31543]:من قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} [الفرقان: 32].
[31544]:[الأعلى: 6].
[31545]:في الأصل: الصفة. وهو تحريف.
[31546]:تقدم.
[31547]:في ب: في هذه. وهو تحريف.
[31548]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31549]:عن ابن عباس – رضي الله عنه قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. أخرجه البخاري (التفسير) 3/194.
[31550]:فقد كفر: سقط من ب.
[31551]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31552]:في ب: الرسول.
[31553]:[المائدة: 67].
[31554]:في ب: فإنه لا فرق بين العقل والنقصان وهو تحريف.
[31555]:[البقرة: 78].
[31556]:تقدم.
[31557]:في المخطوط: المغالب. والبيت من بحر الطويل وقد تقدم ويروى: "أول ليله- وآخره". تمني: قرأ وتلا، وهو موطن الشاهد. الحمام بالكسر: قضاء الموت وقدره، ومن قولهم: حم كذا، أي قدر.
[31558]:لفظ الجلالة سقط من ب.
[31559]:في ب: إذا.
[31560]:في ب: ما ورده. وهو تحريف.
[31561]:في النسختين: إن.
[31562]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31563]:في الأصل: لا.
[31564]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31565]:في ب: ما رواه. وهو تحريف.
[31566]:في ب: عر وهو تحريف.
[31567]:في الأصل: يتوهم.
[31568]:في الأصل: المسامعين. وهو تحريف.
[31569]:في ب: وإن.
[31570]:في ب: العادة. وهو تحريف.
[31571]:في ب: حال. وهو تحريف.
[31572]:في ب: فيظن.
[31573]:الرسول: سقط من ب.
[31574]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31575]:في ب: لفظ. وهو تحريف.
[31576]:الرسول: سقط من ب.
[31577]:في ب: ملك. وهو تحريف.
[31578]:كان: سقط من الأصل.
[31579]:في الأصل: الروايات.
[31580]:في ب: هذه.
[31581]:سببا: سقط من الأصل.
[31582]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31583]:سهوا: سقط من ب.
[31584]:في الأصل: على.
[31585]:في النسختين أجرى: والصواب ما أثبته.
[31586]:في ب: والناس. وهو تحريف.
[31587]:في ب: وثانيهما. وهو تحريف.
[31588]:في ب: الإخبار. وهو تحريف.
[31589]:في الأصل: على.
[31590]:[إبراهيم: 22].
[31591]:[النحل: 99].
[31592]:[الحجر: 40] و[ص: 83].
[31593]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31594]:في ب: فيها. وهو تحريف.
[31595]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31596]:في ب: الثالث. وهو تحريف.
[31597]:في ب: شفاعتهن.
[31598]:[النساء: 176].
[31599]:[الأنعام: 151].
[31600]:لا: سقط من الأصل.
[31601]:تعالى: سقط من الأصل.
[31602]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31603]:في ب: كانوا وهو تحريف.
[31604]:في الأصل: يتفالهم. وهو تحريف.
[31605]:عند حديثه عن ضعف الوجه الرابع.
[31606]:في ب: وثالثها. وهو تحريف.
[31607]:في الأصل: يرده.
[31608]:في الأصل: يرده.
[31609]:في الأصل: يرده.
[31610]:في ب: تقربا.
[31611]:[الأعراف: 20]. و"طيف" قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي وقرأ الباقون "طائف". انظر السبعة (301)، الكشف 1/476 – 478.
[31612]:[الأعراف: 200].