قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } الآية . قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم{[31526]} عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه{[31527]} على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش ، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء يُنَفِّر عنه ، وتمنى ذلك فأنزل الله سورة { والنجم إِذَا هوى }{[31528]} [ النجم : 1 ] ، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى }{[31529]} [ النجم : 19 - 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه لما كان تحدثه{[31530]} به نفسه ويتمنّاه : تلك الغَرَانِيق{[31531]} العُلَى منها الشفاعة ترتجى . فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءته ، وقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة{[31532]} ، فسجد المسلمون لسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حِفْنَةً من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين ، فلم يستطيعا السجود ، وتفرقت قريش ، وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذِّكر ، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإن جعل لها محمد نصيباً فنحن معه فلما أمسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل ، فقال : يا محمد مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ ما لم أنزل به عن الله عز وجل{[31533]} ، وقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ ؟ فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزناً شديداً ، وخاف من الله خوفاً عظيمًا فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيماً {[31534]} .
قال ابن الخطيب : وأما أهل التحقيق فقالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول : أما القرآن فقوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين{[31535]} } [ الحاقة : 44 - 46 ] ، وقوله : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ }{[31536]} [ يونس : 15 ] ، وقوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى }{[31537]} [ النجم : 3 - 4 ] . فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله : تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال ، وذلك لا يقوله مسلم . وقوله : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً }{[31538]} [ الإسراء : 73 ] وكلمة «كاد » عند بعضهم قريب{[31539]} أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل ، وقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ }{[31540]} [ الإسراء : 74 ] وكلمة «لَوْلاَ » لانتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فذلك دل{[31541]} على أن الركون{[31542]} القليل لم يحصل ، وقوله : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ }{[31543]} [ الفرقان : 32 ] ، وقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى }{[31544]} [ الأعلى : 6 ] وأما السنة : فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة{[31545]} فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً .
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي{[31546]} هذه{[31547]} القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال : رواة هذه القصة مطعونون . وروى البخاري في صحيحه أنه - عليه السلام{[31548]} - قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق{[31549]} .
وروي هذا الحديث من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق . وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها : أن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر{[31550]} ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان .
وثانيها : أنه - عليه السلام{[31551]} - ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمناً لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه ، وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروا ليلاً أو في أوقات خلوة ، وذلك يبطل قولهم .
وثالثها : أن معاداتهم للرسول{[31552]} كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر ، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سُجَّداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم .
ورابعها : قوله : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ } وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره ، فبأن يُمْنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى .
وخامسها : أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه ، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : { بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس }{[31553]} [ المائدة : 67 ] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان{[31554]} عن الوحي وبين الزيادة فيه .
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة . وأما من جهة التفصيل فالتمني جاء في اللغة لأمرين :
والثاني : القراءة ، قال الله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ }{[31555]} [ البقرة : 78 ] أي : إلا قراءة ، لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف ، وإنما يعلمه من القراءة .
وقال حسان : {[31556]}
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ *** وآخِرَها لاقَى حَمَام المَقَادِرِ{[31557]}
وقيل : إنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يُبْتلى بها .
وقال أبو مسلم : التَّمَنِّي هو التقدير ، وتَمَنَّى هو تَفَعَّل من مَنَيْتُ ، والمَنِيَّة وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله{[31558]} ، ومَنَّى الله لك أي : قدَّر لك ، وإذا{[31559]} تقرر ذلك فإن التالي مقدر للحروف يذكرها شيئاً فشيئاً . فالحاصل أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر ، فإن فسرناها بالقراءة ففيه قولان :
الأول : أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه{[31560]} من قوله : تلك{[31561]} الغرانيق العُلَى .
والثاني : المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ، ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه :
الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم{[31562]}- لم{[31563]} يتكلم بقوله : تلك الغرانيق العلى ، ولا الشيطان تكلم به ، ولا أحد تكلم به لكنه - عليه السلام{[31564]} - لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه{[31565]} من قولهم : تلك الغَرَانِيقُ العُلَى . وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير{[31566]} ما يقال ، قاله جماعة وهو ضعيف لوجوه :
أحدها : أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما جرت العادة بسماعه ، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه .
وثانيها : أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم في بعض هذا لتوهم{[31567]} بعض السامعين{[31568]} دون البعض فإن{[31569]} العادة مانعة من اتفاق الجمع العظيم في الساعة الواحدة{[31570]} على خيال{[31571]} واحد فاسد في المحسوسات .
وثالثها : لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان .
الوجه الثاني : قالوا : إن ذلك الكلام كلام الشيطان وذلك بأن يلفظ بكلام من تلقاء نفسه يوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن{[31572]} أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول ، قالوا : ويؤيد ذلك أنه لا خلاف أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول ، فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول ، وعند سكوته ، فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول ، وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له . وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول{[31573]} فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع . فإن قيل : هذا الاحتمال قائم في الكل ، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله أن يبين الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس .
فالجواب لا يجب على الله تعالى إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات ، وإذا لم يجب على الله ذلك أمكن الاحتمال في الكل .
الوجه الثالث : أن يقال : المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس ، وهم الكفرة فإنه عليه السلام{[31574]} لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع ذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها ، فقال بعضهم : تلك الغرانيق العُلاَ ، فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط{[31575]} القوم وكثرة مباحثهم ، وطلبهم تغليطه ، وإخفاء قراءته ، ولعل ذلك في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ، ويسمعون قراءته ، ويَلْغَوْنَ فيها . وقيل : إنه عليه السلام{[31576]} كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات ، فألقى بعض الحاضرين ذلك{[31577]} الكلام في تلك الوقفات ، فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول ، ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان ، لأنه بوسوسته يحصل أولاً ، أو لأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم نفسه شيطاناً .
أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول إزالة الشبهة وتصريح الحق ، وتبكيت ذلك القائل ، وإظهار أن هذه الكلمة صدرت منه ، ولو فعل ذلك لنقل ، فإن قيل : إنما لم يفعل الرسول ذلك ، لأنه كان{[31578]} قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة دون هذه الزيادة{[31579]} ، فلم يكن ذلك مؤدياً إلى اللبس كما لم يؤد سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس .
قلنا : لأن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته ، لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور ، فلم تكن تأدية تلك{[31580]} السورة بدون الزيادة سبباً{[31581]} لزوال اللبس .
وثانيهما : لو كان كذلك لاستحق العتاب على فعل الغير ، وذلك لا يليق بالحكيم .
الوجه الرابع : أن المتكلم بهذا هو الرسول - عليه السلام {[31582]}- ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه :
إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً . فإن قالها سهواً{[31583]} كما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا : إنه عليه السلام{[31584]} كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان ، فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد ، وفرح المشركون بما سمعوا ، وأتاه جبريل واستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال : لم آتِكَ بهذا ، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أنزلت هذه الآية . وهذا ضعيف لوجوه :
أحدها : أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع ، وحينئذ تزول الثقة عن الشرع .
وثانيها : أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ، وطريقتها ومعناها ، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها .
وثالثها : هب أنه تكلم بذلك سهواً فكيف لا يتنبه لذلك حين قرأها على جبريل وذلك ظاهر . وأما إن تكلم بذلك قَسْراً ، كما قال قوم إن الشيطان أجبر{[31585]} النبي على التكلم به وهذا أيضاً فاسد لوجوه :
أحدها : أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي لكان اقتداره علينا أكثر ، فوجب أن يزيل الشيطان الناس{[31586]} عن الدين ، ولجاز في أكثر ما يتكلم به أحدنا أن يكون ذلك بإجبار الشيطان .
وثانيها{[31587]} : أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار{[31588]} لارتفع الأمان عن{[31589]} الوحي لقيام هذا الاحتمال .
وثالثها : أنه باطل لقوله تعالى حاكياً عن الشيطان { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي }{[31590]} [ إبراهيم : 22 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ }{[31591]} [ النحل : 99 ] وقال : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين }{[31592]} [ الحجر : 40 ] ولا شك أنه - عليه السلام{[31593]} - كان سيد المرسلين .
وأما إن كان تكلمه بذلك اختياراً وهاهنا وجهان :
أحدهما : أن يقول إن هذه الكلمة باطلة .
والثاني : أن يقول إنها ليست كلمة باطلة .
أما على الأول فذكروا فيه طريقين :
الأول : قال ابن عباس في رواية عطاء : إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم ، فجاءه جبريل فاستعرضه ، فقرأ السورة ، فلما بلغ إلى تلك الكلمة . قال جبريل : أنا ما جئتك بهذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أَتَانِي آتٍ عَلَى صُورَتِكَ فَأَلْقَاهُ عَلَى لِسَانِي » .
الطريق الثاني : قال بعض الجهال : إنه - عليه السلام - لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ، ثم رجع عنها . وهذان القولان لا يرغب فيهما{[31594]} مسلم ألبتة ، لأن الأول يقتضي أنه - عليه السلام{[31595]} - ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث . والثاني{[31596]} يقتضي أنه كان خائناً في الوحي ، وكل واحد منهما خروج عن الدين .
وأما الوجه الثاني وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فهاهنا أيضاً طرق :
الأول : أن يقال : الغرانيق هم الملائكة ، وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة ، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله ذلك .
الثاني : أن يقال : المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار ، فكأنه قال : أشفاعتهن{[31597]} ترتجى ؟
الثالث : أن يقال : ذكر تعالى الإثبات وأراد النفي كقوله { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ }{[31598]} [ النساء : 176 ] أي : لا تضلوا ، كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً }{[31599]} [ الأنعام : 151 ] والمعنى أن تشركوا . وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا{[31600]} يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن ، أو في الصلاة بناء على هذا التأويل ، ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيئاً من ذلك ، لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر ، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى{[31601]} على تركها نحو الفظاظة وقول الشعر ، فقد ظهر القطع بكذب هذه الوجوه المذكورة في قوله : الغرانيق العلا هذا إذا فسرنا التمني بالتلاوة . فأما إن فسرنا التمني بالخاطر وتمني القلب ، فالمعنى أنه - عليه السلام{[31602]} - إذا تمنى بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته . ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه :
أحدها : أنه تمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا : إنه - عليه السلام - كان{[31603]} يحب أن يتألفهم{[31604]} ، فكان يتردد ذلك في نفسه ، فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه ، وهذا أيضاً خروج عن الدين لما تقدم{[31605]} .
وثانيها{[31606]} : قال مجاهد إنه - عليه السلام{[31607]} - كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير ، فنسخ الله ذلك بأن عرفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها .
وثالثها : يحتمل أنه - عليه السلام{[31608]} - عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إذا كان مجملاً ، فيلقي الشيطان في جملته ما لم ينزل{[31609]} ، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده بأدلته وآياته .
ورابعها : معنى «إذَا تَمَنَّى » إذا أراد فعلاً مقرباً{[31610]} إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه ، فرجع إلى الله في ذلك ، وهو كقوله : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }{[31611]} [ الأعراف : 201 ] ، وكقوله : { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله }{[31612]} [ الأعراف : 200 ] . ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب ، لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتنة للكفار ، وذلك يبطله قوله : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ } . والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار{[31526]} .