اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّيۡحَةُ بِٱلۡحَقِّ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ غُثَآءٗۚ فَبُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (41)

ثم بيّن تعالى{[32813]} الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق } قيل : إن جبريل - عليه السلام{[32814]} - صاح بهم صيحةً عظيمةً فهلكوا . وقال ابن عباس : الصيحة الرجفة{[32815]} . وعن الحسن : الصيحة نفس العذاب والموت . كما يقال فيمن يموت : دعي فأجاب .

وقيل : هي العذاب المصطلم{[32816]} ، قال الشاعر :

صاح الزمان بآل برمك صيحة *** خروا لشدتها على الأذقان{[32817]}

والأول أولى لأنه الحقيقة{[32818]} .

قوله : «بالحقِّ » أي : دمرناهم بالعدل ، من قولك : فلانٌ يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضائه {[32819]} . وقال المُفضل : «بالحقِّ » بما لا مدفع له كقوله{[32820]} : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ{[32821]} }{[32822]} [ ق : 19 ] .

قوله : «فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً » الجعل بمعنى : التصيير ، و «غُثَاءً » مفعول ثان ، والغُثَاء : قيل : هو الجفاء ، وتقدم في الرعد{[32823]} ، قاله الأخفش{[32824]} وقال الزجاج : هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل خالط زبده واسود{[32825]} ، ومنه قوله : «غُثَاءً أَحْوَى »{[32826]} وقيل : كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به{[32827]} ، وبه يُضْربُ المثل في ذلك ولامه واو ، لأنه من غَثَا الوادي يَغْثُوا غَثْواً ، وكذلك غَثَتِ القِدر ، وأمّا غَثِيَتْ نَفْسُهُ تَغْثِي غَثَيَاناً ، أي : خَبُثَتْ . فهو قريب من معناه ، ولكنه من مادة الياء {[32828]} .

وتشدد ( ثاء ) الغُثَاء ، وتُخفَّف ، وقد جمع على أَغْثَاء ، وهو شاذ ، بل كان قياسه أن يجمع على أغْثِية ، كَأغْرِيَة ، وعلى غِيثَان ، كغِرْبَان ، وغِلْمَان{[32829]} وأنشدوا لامرئ القيس :

مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءُ فَلْكَةَُ مِغْزَلِ{[32830]} *** . . . بتشديد الثاء ، وتخفيفها ، والجمع ، أي : والأَغْثَاء .

قوله : { فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } «بُعْداً » مصدر يذكر بدلاً من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم ، والأصل : بَعُدَ{[32831]} بُعْداً وبَعَداً نحو رَشُدَ رُشْداً ورَشَداً{[32832]} وفي هذه اللام قولان :

أظهرهما : أنها متعلقة بمحذوف للبيان ، كهي في سَقْياً له ، وجَدْعاً له . قاله الزمخشري{[32833]} .

والثاني : أنَّها متعلقة ب «بُعْداً » قاله الحوفي{[32834]} . وهذا مردود ، لأنه لا يُحفظ حذف هذه اللام ، ووصول المصدر إلى مجروها ألبتة ، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله : { والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ }{[32835]} [ محمد : 8 ] لأن اللام لا تتعلق ب «تَعْساً » بل بمحذوف ، وإن كان الزمخشري جَوَّز ذلك{[32836]} ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى{[32837]} .

فصل

«فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً » صيرناهم {[32838]}هلكى فَيَبِسُوا يَبْسَ الغثاء من نبات الأرض ، «فَبُعْداً » بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير «لِلقَوْمِ الظَالِمِينَ » الكافرين ، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم{[32839]} .


[32813]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/100.
[32814]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[32815]:الرجفة: الزلزلة. ورجفت الأرض ترجف رجفا: اضطربت اللسان (رجف).
[32816]:الاصطلام: الاستئصال وهو افتعال من الصلم، وهو القطع. اللسان (صلم).
[32817]:البيت من بحر الكامل، لم أهتد إلى قائله، وهو في الفخر الرازي 23/100، البحر المحيط 6/406.
[32818]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/100.
[32819]:انظر الفخر الرازي 23/100.
[32820]:في ب: كقولك. وهو تحريف.
[32821]:[ق: 19].
[32822]:انظر الفخر الرازي 23/100، البحر المحيط 6/406.
[32823]:عن قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا فأما الزبد فيذهب جفاء} [الرعد: 17]. وذكر ابن عادل هناك: والجفاء: قال ابن الأنباري المتفرق، يقال: جفأت الريح السحاب، أي: قطعته وفرقته، وقيل: الجفاء ما يرمي به السيل يقال: جفأت القدر بزبدها تجفأ من باب قطع، وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل باللام. انظر اللباب 5/100.
[32824]:قال الأخفش: الغثاء والجفاء واحد. وهو ما احتمله السيل من القذر والزبد. انظر قول الأخفش في البحر المحيط 6/393، وهو غير موجود في معاني القرآن.
[32825]:معاني القرآن وإعرابه 4/13.
[32826]:من قوله تعالى: {فجعله غثاء أحوي} [الأعلى: 5].
[32827]:انظر البحر المحيط 6/393.
[32828]:انظر اللسان (غثا).
[32829]:لأن (فعال) لا يجمع على (أفعال)، وإنما يجمع جمع قلة على أفعلة لأنه رباعي قبل آخره مد، فهو يساوي في القلة فعال – وبالفتح – وفعال – بالكسر – كـ (زمان) أزمنة، و (مكان) أمكنة، و (حمار) أحمرة، و(خلال) أخلة. وبابه في الكثير (فعلان) كغلمان، وغربان، وخرجان وذبان. شرح الشافية 2/ 128- 129.
[32830]:عجز بيت من بحر الطويل، قاله امرؤ القيس، وهو من معلقته، وهو في الديوان (25)، والكشاف 3/48، وشرح شواهده (99).
[32831]:في ب: بعدا. وهو تحريف.
[32832]:"بعدا" من جملة المصادر التي قال سيبويه إنها نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها، ومنها: سقيا، ورعيا، وخيبة. حيث قال: (إنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه، على إضمار الفعل، كأنك قلت: سقاك الله سقيا، ورعاك الله رعيا، وخيبك الله خيبة، فكل هذا وأشباهه على هذا ينتصب. وإنما اختزل الفعل ههنا، لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل، كما جعل الحذر بدلا من احذر. وكذلك هذا كأنه بدل من سقاك الله، ورعاك الله، ومن خيبك الله) الكتاب 1/311 – 312. وانظر أيضا الكشاف 3/48، تفسير ابن عطية 10/358، البحر المحيط 6/406.
[32833]:انظر الكشاف ص 3/48.
[32834]:البرهان 6/150.
[32835]:من قوله تعالى: {والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم} [محمد: 8] فـ "الذين كفروا" مبتدأ، والخبر محذوف تقديره تعسوا، أو أتعسوا، ودل عليهما "تعسا" ودخلت الفاء تنبيها على الخبر. التبيان 2/1160.
[32836]:قال الزمخشري: "والذين كفروا" يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بما يفسره "فتعسا لهم" كأنه قال: أتعس الذين كفروا) الكشاف 3/454.
[32837]:[محمد: 8].
[32838]:في ب: فصيرناهم.
[32839]:انظر الفخر الرازي 23/100.