فقيل : نزلت في قصة أُحُد ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعُوَ على الكفار ، فنزلت هذه الآيةُ ، وهؤلاء ذكروا أقوالاً :
أحدها : أن عُتْبَةَ بن أبي وقاص شجَّه ، وكسر رَبَاعِيَتَهُ ، فجعل يمسحُ الدمَ عن وجهه ، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم ، وهو يقول : كيف يُفْلِح قومٌ خضَّبوا وَجْه نبيهم بالدم ، وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ ثم أراد أن يدعُوَ عليهم ، فنزلت هذه الآية {[5909]} .
وروى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لَعَنَ أقواماً ، فقال : " اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارثَ بن هشام ، اللهم العن صفوانَ بن أمَيَّة " ، فنزلت هذه الآية .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } فتابَ على هؤلاءِ ، وحَسُنَ إسلامهم {[5910]} .
وقيل : نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما فعلوا به من المُثْلَة ، قال : لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به . فنزلت هذه الآية{[5911]} .
قال القفال : وكل هذه الأشياء حصلت يومُ أُحُد ، فنزلت الآيةُ عند الكل ، فلا يمنع حملها على الكل .
الثاني : أنها نزلت بسبب أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يلعنَ المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا ، فمنعه الله من ذلك قاله ابنُ عباس .
الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم أراد أنْ يستغفرَ للمسلمين الذين انهزموا ، وخالفوا أمره ، ويدعوَ لهم ، فنزلت الآية .
القول الثاني : أنها نزلت في واقعةٍ أخرى ، وهي أنه صلى الله عليه وسلم بعث جَمْعاً من خيار أصْحَابه - وهم سبعون رجلاً من القُرَّاء إلى بِئْر معونة ، في صفر سنة أربع من الهجرة ، على رأس أربعة أشهر من أحد ، ليُعَلِّموا الناسَ القرآن والعلم ، أميرهم المنذر بن عمرو ، فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره فقتلهم ، فوَجِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وَجْداً شديداً ، وقَنَتَ شهراً في الصلوات كلِّها يدعو على جماعة من تلك القبائلِ باللعن والسنين ، فنزلت الآية ، قاله مقاتل وأكثر العلماء متفقون على أنها في قصة أحد .
فإن قيل : ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت للمنع من أمرٍ كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يفعلَه ، وذلك الفعل إن كان بأمر الله ، فكيف يمنعه منه ؟ وإن كان بغير أمر الله ، فكيف يصح هذا مع قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } [ النجم : 3 ] ؟ وأيضاً فالآية دالة على عصمة الأنبياء ، فالأمر الممنوع منه في هذه الآية ، إن كان حَسَناً فلِمَ منعه اللهُ ؟ وإن كان قبيحاً ، فكيف يكون فاعله معصوماً ؟
الأول : أن المنعَ من الفعل لا يدل على أن الممنوع كان مُشْتَغَلاً به ؛ فإنه تعالى - قال للنبي صلى الله عليه وسلم { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، وإنه صلى الله عليه وسلم لم يُشْرِك قط ، وقال : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] وهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ، ثم قال : { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ } [ الأحزاب : 1 ] ، وهذا لا يدل على أنه أطاعهم ، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغَمَّ الشديد ، والغضب العظيم ، وهو قَتْل عمه حمزةَ ، وقتل المسلمين . والظاهر أن هذا الغضب يَحْمِل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل ، فنصَّ الله على المنع ؛ تقويةً لِعصْمَته ، وتأكيداً لطهارته .
والثاني : لعله صلى الله عليه وسلم همَّ أن يفعلَ ، لكنه كان ذلك من باب تَرْك الأفضل ، والأوْلَى ، فلا جرم ، أرشده الله تعالى إلى اختيار الأوْلَى ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } [ النحل : 126-127 ] فكأنه - تعالى - قال : إن كان لا بد أن تعاقب ذلك الظالمَ فاكتفِ بالمثل ، ثم قال ثانياً : وإن تركته كان ذلك أوْلَى ، ثم أمره أمراً جازِماً بتَرْكِه ، فقال : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } [ النحل : 127 ] .
ووجه ثالث : وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما مال قلبه إلى اللعنة عليهم ، استأذن ربه فيه ، فنزلت الآية بالنص على المنع . وعلى هذا التقدير ، فلا يدل هذا النهي على القدح في العِصْمة .
الأول : ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أُوحِي إليك .
وثانيها : ليس لك في أن يتوبَ الله عليهم ، ولا في أن يعذبَهم شيء إلا إذا كان على وفق أمري ، وهو كقوله : { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ } [ الأنعام : 62 ] ، واختلفوا في هذا المنع من اللعن ، لأي معنًى كان ؟
فقيل : الحكمة فيه أنه - تعالى - ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب ، وأنه سيولد له وَلَدٌ ، يكون مسلماً ، بَرًّا ، تقيًّا ، فإذا حصل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم بالهلاك ، فإن قُبلت دعوتُه فات هذا المقصود ، وإنْ لم تُقْبَلْ دعوتُه كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى - من اللَّعْن ، وأمره بأن يُفَوِّضَ الكل إلى علم الله سبحانه وتعالى .
وقيل المقصود منه إظهار عجز العبودية وألا يخوض العبد في أسرار الله تعالى .
قوله : { أَوْ يَتُوبَ } في نصبه أوجهٌ :
أحدها : أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبلَه ، تقديره : لِيقطَعَ ، أو يتوبَ عليهم ، أو يكبتهم ، أو يعذبهم . وعلى هذا فيكون قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } جملة معترضة بين المتعاطِفَيْن ، والمعنى : إن الله تعالى هو المالك لأمرهم ، فإن شاء قطع طرفاً منهم ، أو هزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا ، أو يعذبهم إن تمادَوْا على كُفْرهم ، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء ، والزجاج .
الثاني : أن " أو " هنا بمعنى " إلا أن " كقولهم : لألزمنك أو تقضين حقي أي : إلا أن تقتضينه .
الثالث : " أوْ " بمعنى : " حتى " ، أي : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } ، والمعنى : ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام ، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه ، أو يعذبهم بقتل ، أو نار في الآخرة ، فتشقى بهم ، وممن ذهب إلى ذلك الفراء ، وأبو بكر بن الأنباري ، قال الفراء : ومثل هذا من الكلام : لألزمنك أو تعطيني ، على معنى إلا أن تُعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرئ القيس : [ الطويل ]
فَقُلْتُ لَهُ : لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا *** تُحَاوِلُ مُلْكاً ، أوْ تَمُوتَ ، فَتُعْذَرَا{[5912]}
أراد : حتى تموت ، أو : إلا أن تموت .
قال شهاب الدين{[5913]} : " وفي تقدير بيت امرئ القيس ب " حتى " نظر ؛ إذ ليس المعنى عليه ؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية ، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى : إلا أنْ " .
الثالث : منصوب بإضمار : " أنْ " عطفاً على قوله : " الأمر " ، كأنه قيل : ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم ، أو تعذيبهم شيء ، فلما كان في تأويل الاسم عُطِفَ على الاسم قبلَه ، فهو من باب قوله : [ الطويل ]
فَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أعِزَّةٌ *** وَآلُ سُبَيْعٍ ، أوْ أسُوءَكَ عَلْقَمَا{[5914]}
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ ، وَتَقَرَّ عَيْنِي *** أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ{[5915]}
الرابع : أنه معطوف - بالتأويل المذكور - على " شَيءٌ " ، والتقدير : ليس لك من الأمر شيء ، أو توبة الله عليهم ، أو تعذيبهم ، أي : ليس لك - أيضاً - توبتهم ولا تعذيبهم ، إنما ذلك راجع إلى الله عز وجل .
وقرأ أبّيّ : أو يتوبُ ، أو يعذبهم ، برفعهما{[5916]} على الاستئناف في جملة اسمية ، أضْمِر مبتدؤُها ، أي : هو يتوبُ ، ويعذبُهم .
يحتمل أن يكون المراد من هذا العذاب : هو عذاب الدنيا - بالقَتْل والأسْر - وأن يكون عذابَ الآخرة ، وعلى التقديرين فعِلْمُ ذلك مُفَوَّضٌ إلى الله تعالى .
قوله : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } جملة مستقلة ، والمقصود من ذكرها : تعليل حسن والتعذيب ، والمعنى : إن يعذبهم فبظلمهم .
واعلم أنه إذا كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفار صَحَّ ذلك ، وسمَّاهم ظالمين ؛ لأن الشرك ظلم ، بل هو أعظم الظلم ؛ لأن الله تعالى قال : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
وإن كان الغرضُ منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره ، صح الكلام - أيضاً - ؛ لأن من عصى الله ، فقد ظلم نفسه .
والمقصود منه : تأكيد ما ذكره أولاً من قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، والمعنى : إنما يكون ذلك لمن له الملك ، وليس هو لأحد إلا الله .