اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } الجمهور على { فَتَقَبَّلَهَا } فعلاً ماضياً على " تَفَعَّل " بتشديد العينِ - و{ رَبُّهَا } فاعل به ، وتفعل يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير ،

و " تَفَعَّل " يأتي بمعنى " فَعَل " مُجَرَّداً ، نحو تعجب وعَجب من كذا ، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه .

والثاني : أن " تفعل " بمعنى : استفعل ، أي : فاستقبلها ربُّها ، يقال : استقبلت الشيءَ أي : أخذته أول مرة .

والمعنى : أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها .

ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ *** وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا{[15]}

ومنه المثل : خذ الأمر بقوابله . و " تَفَعَّل " بمعنى " استفعل " كثير ، نحو : تعظم ، واستعظم ، وتكبر ، واستكبر ، وتعجَّل واستعجل .

قال بعضُ العلماء : " إن ما كان من باب التفعُّل ، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل ، كالتصبُّر والتجلُّد ، ونحوهما ، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في إظهار الصَبْرِ والجَلَدِ ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ " .

فإن قيل : فلِمَ لَمْ يَقُلْ : فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ ، حتى تكمُلَ المبالغةُ ؟

فالجوابُ : أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ ، فذكر التقبلَ ، ليفيد الجد والمبالغة ، ثم ذكر القبولَ ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ ، بل على وفق الطبعِ ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها ، وهو وجه مناسبٌ .

والباء - في قوله : " بِقَبُول " - فيها وجهانِ :

أحدهما : أنها زائدة ، أي : قبولاً ، وعلى هذا فينتصب " قبولاً " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد ؛ إذْ لو جاء على " تَقَبُّل " لقيل : تَقَبُّلاً ، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً .

وَقَبُول : من المصادر التي جاءت على " فَعُول " - بفتح الفاء - قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على " فَعُول " قَبُول ، وطَهُور ، ووَقُود ، ووَضُوء ، وولُوع ، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ ، يقال : قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً ، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس ، كالدخولِ والخروجِ ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب : قبلت قَبُولاً وقُبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً ، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم ، وأنشدوا : [ السريع ]

قَدْ يُحْمَدُ الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ *** بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ{[16]}

بضم القاف - كذا حكاه بعضهم .

قال الزَّجَّاجُ : إن " قَبُولاً " هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر ، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له ، - أي : مجرداً - قال : والتقدير : فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً ، أي : رضيها ، وفيه بُعَدٌ .

والوجه الثاني : أن الياء ليست بزائدة ، بل هي على حالها ، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ ، نحو اللدود ، لما يُلَدُّ به . والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر .

فصل

في تفسير ذلك القبولِ الْحَسَنِ وجوهٌ :

أحدها : أنه - تعالى - استجاب دعاءَ أمِّ مريمَ ، وعصمها ، وعصم ولدَهَا عيسى - عليه السلام - من الشيطان .

روى أبو هريرةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسه - حِيْنَ يُولَدُ - فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إلاَّ مَرْيَمَ وَابنها " ، ثم قال أبو هريرة : اقرَؤوا - إنْ شِئْتُمْ - { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }{[17]} ، طعن القاضي في هذا الخبر ، وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدَّليلِ ؛ وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ :

الأول : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشَّرِّ مَنْ يَعْرف الخير والشر ، والطفل المولود ليس كذلك .

الثاني : أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك - من إهلاك الصالحين ، وإفساد أحوَالهم .

الثالث : لِمَ خَصَّ - بهذا الاستثناء - مريم وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء ؟

الرابع : أن ذلك المس لو وُجِدَ بَقِيَ أثَرهُ ، ولو بقي أثره لدام الصُّرَاخُ والبُكاءُ ، فلمَّا لم يكن كذلك علمنا بُطْلانَهُ .

الوجه الثاني - في معنى القبول الحسن - : ما رُوِيَ أن حَنَّةَ - حين ولدت مريمَ - لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة - وقالت : خذوا هذه النذيرةَ ، فتنافسوا فيها ؛ لأنها كانت بنت إمامهم ، فقال لهم زكريَّا : أنا أحق بها ؛ عندي خالتها ، فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا - وكانوا سبعةً وعشرين - إلى نهرٍ جارٍ .

قال السُّدِّيُّ : هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها ، على أن كل من يرتفع قلمه ، فهو الراجحُ ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ ، وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريَّا {[18]} .

قاله محمد بن إسحاق وجماعة ، وقيل : جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ ، وجرت أقلامهم بجري الماء {[19]} .

وقال السُّدِّيُّ وجماعة : ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامُهم ، فذهب بها الماء ، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها .

الوجه الثالث : رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط ، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ . {[20]}

الوجه الرابع : أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام ، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد ، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا ، وعدم قدرتها على خدمة المسجد .

وقيل : معنى التَّقَبُّل : التكفُّل في التربية ، والقيام بشأنها .

وقال الحسنُ : معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار {[21]} .

وقوله : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } نبات : مصدر على غير المصدر ؛ إذ القايس إنبات ، وقيل : بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً ، تقديره : فتنبت نباتاً حسناً ، قاله ابنُ الأنباريّ .

وقيل : كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام .

وقيل : تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ .

وقال القرطبي : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أي : سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ .

قوله : { وَكَفَّلَهَا } قرأ الكوفيون{[22]} { وَكَفَّلَهَا } - بتشديد الْعَيْنِ - " زَكَرِيَّا " - بالقصر - إلا أبا بكر ، فإنه قرأه بالمد كالباقين ، ولكنه ينصبه ، والباقون يرفعونه .

وقرأ مجاهدٌ{[23]} " فَتَقَبَّلَهَا " بسكون اللام " رَبَّهَا " منصوباً ، " وأنْبَتَهَا " - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [ وسكون اللام ] {[24]} والتخفيف وقرأ أبي : " وأكْفَلَهَا " - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً .

وقرأ عبد الله المزني " وَكَفِلَهَا " - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ- .

فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين ، ثانيهما زكريا ، فمن قصره ، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب ، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به ، وأما قراءة بقية السبعة ف " كَفِلَ " مخفف عندهم ، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا .

قال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ولا مخالفة بين القراءتين ؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها ، وهو في قراءتهم ممدود ، مرفوع بالفاعلية .

وأما قراءة : " أكْفَلهَا " فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته ، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى ، والمفعول الأول هو : ضمير مَرْيَمَ والثاني : هو زكريا .

أما قراءة " وَكفِلها " - بكسر الفاءِ - فإنها لغة في " كَفَل " يقال : كَفَلَ يَكْفُل - كقَتَل يقْتُل - وهي الفاشية ، وكَفِلَ يَكْفَلُ - كعَلِمَ يَعْلَمُ - وعليها هذه الْقِرَاءةُ ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون " زكريا " فاعلاً .

وأما قراءة مجاهدٍ فإنها " كَفِّلْهَا " على لفظ الدعاء من أم مريم لله - تعالى - بأن يفعل لها ما سألته ربَّهَا منصوب على النداء ، أي : فَتَقَبَّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وأنبِتْهَا وكَفِّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضاً كقراءة الكوفيين . وقرأ حفص والأخوانِ " زكريا " - بالقصر - حيث ورد في القرآن ، وباقي السبعة بالْمَدِّ والمدُّ والقَصْرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز . وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه : مُنِع من الصرف للعلمية ، والعُجْمَة - كنظائره - وإنَّما قالوا منع من الصرف لوجود ألفِ التَّأنِيثِ فيه : إما الممدودة كَحَمْرَاءَ ، وإما المقصورة كحُبْلَى ، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوْه ممنوعاً - معرفةً ونكرة - قالوا : فلو كان منعه للعلمية والعُجمَةِ لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع ، لكن العرب منعته نكرةً ، فعلمنا أن المانع غير ذلك ، وليس معناه - هنا - يصلح مانعاً من صَرْفهِ إلا ألف التأنيث - يَعْنُون للشبه بألف التأنيث - وإلا فهذا اسم أعجمي لا يُعْرفَ له اشتقاقٌ ، حتى يُدَّعَى فيه أنَّ الألف فيه للتأنيث .

على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صَرْفه نكرةً ، وكأنه لحظ المانعَ فيه ما تقدمَ من العلميَّة والعُجْمَةِ ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك ، وأشبع الفارسيُّ القولَ فيه فقال : " لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث ، أو للإلحاق أو منقلبة ، ولا يجوز أن تكون منقلبةٌ ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرفٍ أصلي ، أو من حرف الإلحاق ؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا مُلْحَقاً به ، وإذا ثَبَتَ ذلكَ ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة " .

قال شِهَابُ الدِّينِ : " وهذا - الذي قاله أبو علي - صحيح ، لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاق ويدخله تصريف ، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجميّة مُجْرَى العربية بمعنى أنَّ هذا لَوْ وَرَدَ في لسان العرب كيف يكون حكمه " .

وفيه - بَعْدَ ذلك - لغتانِ أخْرَيَانِ :

إحداهما : زكريّ - بياء مشددة في آخره فقط دون ألف - وهو في هذه اللغة منصرف ، ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال : " القول فيه أنَّهُ حُذِفَ منه الياءان اللتان كانتا فيه - ممدوداً ومقصوراً - وما بعدها ، وألحق بياء النَّسَب ، ويدل على ذلك صرفُ الاسم ، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ ؛ للعجمة والتعريف ، وهذه لُغَةُ أهل نجد ومَنْ والاهم " .

الثانية : زَكْر - بوزن عَمْرو - حكاه الأخفشُ .

والكفالة أي : الضمان - في الأصل - ثم يُستعار للضَّمِّ والأخذ ، يقال منه : كَفَل يَكْفُل ، وكَفِلَ يَكْفَلُ ، كعلم يعلم - كفالةً وكَفْلاً ، فهو كافِل وكفيل ، والكافل : هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله ، وفي الحديث : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة{[25]} " وقال تعالى :

{ أَكْفِلْنِيهَا } [ ص : 23 ] .

واختلفوا في كَفَالةِ زكريا - عليه الصلاة والسلام - إياها ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفولتها ، وبه جاءت الروايات .

وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن طمثت ، واحتجوا بوجهين :

أحدهما : قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } ثم قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } وهذا يوهم أن تكل الكفالة بعد ذلك النباتِ الحسنِ .

الثاني : أنه - تعالى - قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة .

وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الإنباتَ الحسنَ وكفالة زكريا حَصَلا معاً . وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها ، وسؤالَه لها هذا السؤالَ لعله وقع في آخرِ زمانِ الكفالةِ .

قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } " المحراب " فيه وجهان :

أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف ، وشذ عن سائر أخواته بعد " دَخَلَ " خاصَّةً ، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة " في " نحو صليت في المحراب - ولا تقول : صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول : السوقَ - إلا مع دخل خاصة ، نحو دخلت السوق والبيت . . . الخ . وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو .

والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد " دَخَلَ " على المفعول به لا على الظرف فقولك : دخلت البيت ، كقولك : هدمت البيت ، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح ؛ بدليل أن " دَخَلَ " لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة " في " تقول : دخلتُ في الأمر - ولا تقول : دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه .

والجواب : قال ابو عبيدة : هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد .

وقال أبو عمرو بن العلاء : هو القصر ؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ .

وقال الأصمعيُّ : هو الغُرْفَة .

وأنشد لامرئِ القيس : [ الطويل ]

وَمَاذَا عَلَيْهِ أن ذَكَرْتَ أو أنِسَا *** كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ{[26]}

قالوا معناه : في غرف أقيال . وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة : [ السريع ]

رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا *** لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما{[27]}

وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود ، وهو الأليق بالآية .

وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به : المحراب من حيث هو ، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه . واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : { إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ } [ ص : 21 ] والتسوُّر لا يكون إلا من عُلُو . يُرْوَى أنها لما صارت شابة بنى زكريا - عليه السلام - لها غرفة في المسجد ، وجعل بابها في وسطها ، لا يُصْعَد إليها إلا بِسُلَّم ، ويقال للمسجد - أيضاً - المحراب .

قال المبرد : " لا يكون المحراب : إلا أن يُرْتَقَى إليه بِدَرَج " .

واشتقاقه من الحرب ؛ لتحارُبِ الناس عليه .

قال ابنُ ذكوان - عن ابن عامر - " المِحْرَاب " في هذه السورة - موضعين - بلا خلاف ؛ كونه أن فيه سببَ الإمالة ، وذلك أن الألف تقدمها كسرة ، وتأخرت عنها كسرةٌ أخْرَى ، فقوى داعي الإمالة ، وهذا بخلاف المحراب غير المجرور فإنه نُقِل عن ابن ذكوان فيه الوجهان : الإمالة وعدمها ، نحو قوله : { إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ } [ ص : 21 ] فوجه الإمالة تقدم الكسرة ، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل .

قوله : { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } " وجد " هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو " رِزْقاً " و " عندها " الظاهر أنه ظرف للوجدان .

وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من " رِزْقاً " ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل ، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف ، ف " وجد " هو الناصب لِ " كُلَّمَا " لأنها ظرفية ، وأبو البقاء سمَّاه جوابها ؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي .

قوله : { قَالَ يَا مَرْيَمُ } فيه وجهان :

أحدهما : أنه مستأنف ، قال ابو البقاء : " ولا يجوز أن يكون بدلاً من " وَجَدَ " ؛ لأنه ليس بمعناه " .

الثاني : أنه معطوف بالفاء ، فحذف العاطف ، قال أبو البقاء : " كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }

[ الأنعام : 121 ] ، وكذلك قول الشاعر : [ البسيط ]

مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا *** . . . {[28]}

وهذا الموضع يشبه جوابَ الشرط ، لأن " كُلَّمَا " تشبه الشرط في اقتضائها الجواب .

قال شهاب الدين{[29]} : وهذا - الذي قاله - فيه نظر من حيث إنه تخيَّل أن قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } أن جوابَ الشرط هو نفس { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } حُذِفَتْ منه الفاء ، وليس كذلك ، بل جواب الشرط محذوف ، و- { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة ، وليس هذا مما حُذِفَتْ منه فاء الجزاء ألبتة ، وكيف يَدَّعِي ذلك ، ويُشَبِّهه بالبيت المذكور ، وهو لا يجوز إلا في ضرورة ؟

ثم الذي يظهر أن الجملةَ من قوله : " وَجَدَ " في محل نصب على الحال من فاعل " دَخَلَ " ويكون جواب " كُلَّمَا " هو نفس " قَالَ " والتقدير : كلما دخل عليها زكريا المحراب واجداً عندَها الرزق .

قال : وهذا بَيِّن .

ونكر " رِزْقاً " تعظيماً ، أو ليدل به على نوع " ما " .

قوله : { أَنَّى لَكِ هَذَا } " أنى " خبر مقدم ، و " هَذَا " مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا : من أين ؟ كذا فسَّره أبو عبيدة .

قيل : ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي : كيف تَهَيأ لكِ هذا ؟

قال الكميت : [ المنسرح ]

{[30]}أنَّى وَمِنْ أيْنَ هَزَّكَ الطَّرَبُ *** مِنْ حَيْثُ لاَ صَبْوةٌ وَلاَ رِيَبُ{[31]}

وجوَّز أبو البقاء في " أنَّى " أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في " ذلك " . و " لك " رافع ل " هذا " يعني بالفاعلية . ولا حاجة إلى ذلك ، وتقدم الكلام على " أنى " في " البقرة{[32]} .

فصل

قال الرَّبيع بن أنس : إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعةَ أبوابٍ ، فإذا دخل عليها غُرفتها وجد عندها رزقاً - أي : فاكهة في غير حينها - فاكهة الصَّيْفِ في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فيقول يا مريمُ ، أنى لك هذا{[33]} ؟

قال أبو عبيدة : معناه من أين لك هذا ، وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا ؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة ، وأين للسؤال عن المكان .

فصل

احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية ؛ فإنَّ حصول الرزق عندها إمَّا أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون ، فإن كان غيرَ خارقٍ للعادة ، فذلك باطلٌ من خمسة أوْجُهٍ :

الأول : أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزقُ عند مريم دليلاً على عُلُوِّ شأنِهَا ، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصِّيَّةِ ، وهو المعنى المراد من الآية .

الثاني : قوله : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] والقرآن دلَّ على أنه كان آيساً من الولد ؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى خَرْقَ العادة في حق مريمَ طمع في حصول الولد ، فيستقيم قوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } . ولو كان الذي شاهده في حق مريم غيرَ خارق لم تكن مشاهدةُ ذلك سببا لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر .

الثالث : تنكير الرزق في قوله : " رِزْقاً " فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل : رزق وإنه رزق عجيب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية .

الرابع : أنه - تعالى - قال : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] ولولا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك .

الخامس : تواتُر الروايات على أن زكريا - عليه السلام - كان يجد عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقاً للعادة ، وإذا ثبت ذلك فنقول : إمّا أنه كان معجزةً لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل ؛ لأن النبيَّ الموجودَ في ذلكَ الزمانِ زكريا - عليه السلام - ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله ، ولم يَشْتبه أمْرُه عليه ، ولم يَقُلْ ل " مريم " أنَّى لَكِ هَذَا ؟ وأيضاً فقوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } مُشْعِرٌ بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله ، فهنالك طمع في انخراق العادةِ في حصول الولد من المرأة الشيخة العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم ، وإذا كان كذلك ، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا - عليه السلام - فلم يَبْقَ إلاَّ أنها كانت لمريم عليها السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عليه الصلاة والسلام كرامة لمريم ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل .

قال أبو علي الجبائي : لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا - عليه السلام - لوجهين :

الأول : أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وأنه كان غافلاً عما يأتيها من الأرزاق من عند الله ، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معيَّن قال لها : أنَّى لكِ هذا ؟ فقالت هو من عند الله ، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزةَ .

الثاني : يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقاً معتاداً ، إلا أنه كان يأتيها من السماء ، وكان زكريا يسألها عن ذلك ، حَذَراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها ، فقالت : هو من عند الله لا من عند غيره .

وأيضاً لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق ، بل معنى الآية أن الله - تعالى - كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهداتِ العابداتِ ، فكأن زكريا عليه الصلاة والسلام لمّا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه رُبَّما أتاها ذلك الرزق من جهةٍ لا ينبغي ، فكان يسألها عن كيفية الحال .

والجواب عن الأول والثاني : أنه لو كان معجزاً لزكريا لكان زكريا مأذوناً له من عند الله في طلب ذلك ، ومتى كان مأذوناً له في ذلك الطلب كان عالماً - قطعاً - بأنه يحصل ، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ، ولم يكن لقول : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } فائدة .

والجواب عن الثالث : أنه - على هذا التقدير - لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه .

أيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق ، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة ؟ فسقطت هذه الأسئلة .

واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النَّبِيِّ لا يوجد مع غير النبي ، كما أن الفعل المُحْكَم - لما كان دليلاً على العلم لا جرم - لا يوجد في حَقِّ غَيْرِ العالمِ .

والجواب من وجوه :

الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدَّعِي ، فإن ادَّعَى صاحبهُ النبوةَ ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيًّا ، وإن ادَّعَى الولايةَ ، فذلك يدل على كونه وليًّا .

والثاني : قال بعضهم : " الأنبياء مأمورون بإظهارها ، والأولياء مأمورون بإخفائها " .

والثالث : أن النبي يدَّعي المعجزة ويقطع به ، والولي لا يمكنه القطع به .

الرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة .

قوله : { إنًّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يُحْتَمَل أن يكون من جملة كلام مريم - عليها السلام - فيكون منصوباً .

ويحتمل أن يكون مستأنفاً ، من كلام الله تعالى ، وتقدم الكلامُ على نظيره .


[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.
[32]:ينظر: الكشاف 1/335، والمحرر الوجيز 1/397، والبحر المحيط 2/ 389، الدر المصون 2/7. وأما رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في "الحجة" في مظنته، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.
[33]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/327. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم- خطأ لا يجوز، ولا تقوله العرب لثقله.