قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } الجمهور على { فَتَقَبَّلَهَا } فعلاً ماضياً على " تَفَعَّل " بتشديد العينِ - و{ رَبُّهَا } فاعل به ، وتفعل يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير ،
و " تَفَعَّل " يأتي بمعنى " فَعَل " مُجَرَّداً ، نحو تعجب وعَجب من كذا ، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه .
والثاني : أن " تفعل " بمعنى : استفعل ، أي : فاستقبلها ربُّها ، يقال : استقبلت الشيءَ أي : أخذته أول مرة .
والمعنى : أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها .
وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ *** وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا{[15]}
ومنه المثل : خذ الأمر بقوابله . و " تَفَعَّل " بمعنى " استفعل " كثير ، نحو : تعظم ، واستعظم ، وتكبر ، واستكبر ، وتعجَّل واستعجل .
قال بعضُ العلماء : " إن ما كان من باب التفعُّل ، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل ، كالتصبُّر والتجلُّد ، ونحوهما ، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في إظهار الصَبْرِ والجَلَدِ ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ " .
فإن قيل : فلِمَ لَمْ يَقُلْ : فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ ، حتى تكمُلَ المبالغةُ ؟
فالجوابُ : أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ ، فذكر التقبلَ ، ليفيد الجد والمبالغة ، ثم ذكر القبولَ ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ ، بل على وفق الطبعِ ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها ، وهو وجه مناسبٌ .
والباء - في قوله : " بِقَبُول " - فيها وجهانِ :
أحدهما : أنها زائدة ، أي : قبولاً ، وعلى هذا فينتصب " قبولاً " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد ؛ إذْ لو جاء على " تَقَبُّل " لقيل : تَقَبُّلاً ، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً .
وَقَبُول : من المصادر التي جاءت على " فَعُول " - بفتح الفاء - قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على " فَعُول " قَبُول ، وطَهُور ، ووَقُود ، ووَضُوء ، وولُوع ، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ ، يقال : قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً ، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس ، كالدخولِ والخروجِ ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب : قبلت قَبُولاً وقُبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً ، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم ، وأنشدوا : [ السريع ]
قَدْ يُحْمَدُ الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ *** بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ{[16]}
قال الزَّجَّاجُ : إن " قَبُولاً " هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر ، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له ، - أي : مجرداً - قال : والتقدير : فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً ، أي : رضيها ، وفيه بُعَدٌ .
والوجه الثاني : أن الياء ليست بزائدة ، بل هي على حالها ، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ ، نحو اللدود ، لما يُلَدُّ به . والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر .
في تفسير ذلك القبولِ الْحَسَنِ وجوهٌ :
أحدها : أنه - تعالى - استجاب دعاءَ أمِّ مريمَ ، وعصمها ، وعصم ولدَهَا عيسى - عليه السلام - من الشيطان .
روى أبو هريرةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسه - حِيْنَ يُولَدُ - فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إلاَّ مَرْيَمَ وَابنها " ، ثم قال أبو هريرة : اقرَؤوا - إنْ شِئْتُمْ - { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }{[17]} ، طعن القاضي في هذا الخبر ، وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدَّليلِ ؛ وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ :
الأول : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشَّرِّ مَنْ يَعْرف الخير والشر ، والطفل المولود ليس كذلك .
الثاني : أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك - من إهلاك الصالحين ، وإفساد أحوَالهم .
الثالث : لِمَ خَصَّ - بهذا الاستثناء - مريم وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء ؟
الرابع : أن ذلك المس لو وُجِدَ بَقِيَ أثَرهُ ، ولو بقي أثره لدام الصُّرَاخُ والبُكاءُ ، فلمَّا لم يكن كذلك علمنا بُطْلانَهُ .
الوجه الثاني - في معنى القبول الحسن - : ما رُوِيَ أن حَنَّةَ - حين ولدت مريمَ - لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة - وقالت : خذوا هذه النذيرةَ ، فتنافسوا فيها ؛ لأنها كانت بنت إمامهم ، فقال لهم زكريَّا : أنا أحق بها ؛ عندي خالتها ، فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا - وكانوا سبعةً وعشرين - إلى نهرٍ جارٍ .
قال السُّدِّيُّ : هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها ، على أن كل من يرتفع قلمه ، فهو الراجحُ ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ ، وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريَّا {[18]} .
قاله محمد بن إسحاق وجماعة ، وقيل : جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ ، وجرت أقلامهم بجري الماء {[19]} .
وقال السُّدِّيُّ وجماعة : ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامُهم ، فذهب بها الماء ، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها .
الوجه الثالث : رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط ، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ . {[20]}
الوجه الرابع : أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام ، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد ، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا ، وعدم قدرتها على خدمة المسجد .
وقيل : معنى التَّقَبُّل : التكفُّل في التربية ، والقيام بشأنها .
وقال الحسنُ : معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار {[21]} .
وقوله : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } نبات : مصدر على غير المصدر ؛ إذ القايس إنبات ، وقيل : بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً ، تقديره : فتنبت نباتاً حسناً ، قاله ابنُ الأنباريّ .
وقيل : كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام .
وقيل : تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ .
وقال القرطبي : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أي : سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ .
قوله : { وَكَفَّلَهَا } قرأ الكوفيون{[22]} { وَكَفَّلَهَا } - بتشديد الْعَيْنِ - " زَكَرِيَّا " - بالقصر - إلا أبا بكر ، فإنه قرأه بالمد كالباقين ، ولكنه ينصبه ، والباقون يرفعونه .
وقرأ مجاهدٌ{[23]} " فَتَقَبَّلَهَا " بسكون اللام " رَبَّهَا " منصوباً ، " وأنْبَتَهَا " - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [ وسكون اللام ] {[24]} والتخفيف وقرأ أبي : " وأكْفَلَهَا " - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً .
وقرأ عبد الله المزني " وَكَفِلَهَا " - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ- .
فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين ، ثانيهما زكريا ، فمن قصره ، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب ، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به ، وأما قراءة بقية السبعة ف " كَفِلَ " مخفف عندهم ، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا .
قال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ولا مخالفة بين القراءتين ؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها ، وهو في قراءتهم ممدود ، مرفوع بالفاعلية .
وأما قراءة : " أكْفَلهَا " فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته ، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى ، والمفعول الأول هو : ضمير مَرْيَمَ والثاني : هو زكريا .
أما قراءة " وَكفِلها " - بكسر الفاءِ - فإنها لغة في " كَفَل " يقال : كَفَلَ يَكْفُل - كقَتَل يقْتُل - وهي الفاشية ، وكَفِلَ يَكْفَلُ - كعَلِمَ يَعْلَمُ - وعليها هذه الْقِرَاءةُ ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون " زكريا " فاعلاً .
وأما قراءة مجاهدٍ فإنها " كَفِّلْهَا " على لفظ الدعاء من أم مريم لله - تعالى - بأن يفعل لها ما سألته ربَّهَا منصوب على النداء ، أي : فَتَقَبَّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وأنبِتْهَا وكَفِّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضاً كقراءة الكوفيين . وقرأ حفص والأخوانِ " زكريا " - بالقصر - حيث ورد في القرآن ، وباقي السبعة بالْمَدِّ والمدُّ والقَصْرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز . وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه : مُنِع من الصرف للعلمية ، والعُجْمَة - كنظائره - وإنَّما قالوا منع من الصرف لوجود ألفِ التَّأنِيثِ فيه : إما الممدودة كَحَمْرَاءَ ، وإما المقصورة كحُبْلَى ، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوْه ممنوعاً - معرفةً ونكرة - قالوا : فلو كان منعه للعلمية والعُجمَةِ لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع ، لكن العرب منعته نكرةً ، فعلمنا أن المانع غير ذلك ، وليس معناه - هنا - يصلح مانعاً من صَرْفهِ إلا ألف التأنيث - يَعْنُون للشبه بألف التأنيث - وإلا فهذا اسم أعجمي لا يُعْرفَ له اشتقاقٌ ، حتى يُدَّعَى فيه أنَّ الألف فيه للتأنيث .
على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صَرْفه نكرةً ، وكأنه لحظ المانعَ فيه ما تقدمَ من العلميَّة والعُجْمَةِ ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك ، وأشبع الفارسيُّ القولَ فيه فقال : " لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث ، أو للإلحاق أو منقلبة ، ولا يجوز أن تكون منقلبةٌ ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرفٍ أصلي ، أو من حرف الإلحاق ؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا مُلْحَقاً به ، وإذا ثَبَتَ ذلكَ ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة " .
قال شِهَابُ الدِّينِ : " وهذا - الذي قاله أبو علي - صحيح ، لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاق ويدخله تصريف ، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجميّة مُجْرَى العربية بمعنى أنَّ هذا لَوْ وَرَدَ في لسان العرب كيف يكون حكمه " .
وفيه - بَعْدَ ذلك - لغتانِ أخْرَيَانِ :
إحداهما : زكريّ - بياء مشددة في آخره فقط دون ألف - وهو في هذه اللغة منصرف ، ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال : " القول فيه أنَّهُ حُذِفَ منه الياءان اللتان كانتا فيه - ممدوداً ومقصوراً - وما بعدها ، وألحق بياء النَّسَب ، ويدل على ذلك صرفُ الاسم ، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ ؛ للعجمة والتعريف ، وهذه لُغَةُ أهل نجد ومَنْ والاهم " .
الثانية : زَكْر - بوزن عَمْرو - حكاه الأخفشُ .
والكفالة أي : الضمان - في الأصل - ثم يُستعار للضَّمِّ والأخذ ، يقال منه : كَفَل يَكْفُل ، وكَفِلَ يَكْفَلُ ، كعلم يعلم - كفالةً وكَفْلاً ، فهو كافِل وكفيل ، والكافل : هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله ، وفي الحديث : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة{[25]} " وقال تعالى :
{ أَكْفِلْنِيهَا } [ ص : 23 ] .
واختلفوا في كَفَالةِ زكريا - عليه الصلاة والسلام - إياها ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفولتها ، وبه جاءت الروايات .
وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن طمثت ، واحتجوا بوجهين :
أحدهما : قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } ثم قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } وهذا يوهم أن تكل الكفالة بعد ذلك النباتِ الحسنِ .
الثاني : أنه - تعالى - قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة .
وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الإنباتَ الحسنَ وكفالة زكريا حَصَلا معاً . وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها ، وسؤالَه لها هذا السؤالَ لعله وقع في آخرِ زمانِ الكفالةِ .
قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } " المحراب " فيه وجهان :
أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف ، وشذ عن سائر أخواته بعد " دَخَلَ " خاصَّةً ، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة " في " نحو صليت في المحراب - ولا تقول : صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول : السوقَ - إلا مع دخل خاصة ، نحو دخلت السوق والبيت . . . الخ . وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو .
والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد " دَخَلَ " على المفعول به لا على الظرف فقولك : دخلت البيت ، كقولك : هدمت البيت ، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح ؛ بدليل أن " دَخَلَ " لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة " في " تقول : دخلتُ في الأمر - ولا تقول : دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه .
والجواب : قال ابو عبيدة : هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد .
وقال أبو عمرو بن العلاء : هو القصر ؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ .
وقال الأصمعيُّ : هو الغُرْفَة .
وأنشد لامرئِ القيس : [ الطويل ]
وَمَاذَا عَلَيْهِ أن ذَكَرْتَ أو أنِسَا *** كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ{[26]}
قالوا معناه : في غرف أقيال . وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة : [ السريع ]
رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا *** لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما{[27]}
وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود ، وهو الأليق بالآية .
وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به : المحراب من حيث هو ، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه . واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : { إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ } [ ص : 21 ] والتسوُّر لا يكون إلا من عُلُو . يُرْوَى أنها لما صارت شابة بنى زكريا - عليه السلام - لها غرفة في المسجد ، وجعل بابها في وسطها ، لا يُصْعَد إليها إلا بِسُلَّم ، ويقال للمسجد - أيضاً - المحراب .
قال المبرد : " لا يكون المحراب : إلا أن يُرْتَقَى إليه بِدَرَج " .
واشتقاقه من الحرب ؛ لتحارُبِ الناس عليه .
قال ابنُ ذكوان - عن ابن عامر - " المِحْرَاب " في هذه السورة - موضعين - بلا خلاف ؛ كونه أن فيه سببَ الإمالة ، وذلك أن الألف تقدمها كسرة ، وتأخرت عنها كسرةٌ أخْرَى ، فقوى داعي الإمالة ، وهذا بخلاف المحراب غير المجرور فإنه نُقِل عن ابن ذكوان فيه الوجهان : الإمالة وعدمها ، نحو قوله : { إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ } [ ص : 21 ] فوجه الإمالة تقدم الكسرة ، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل .
قوله : { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } " وجد " هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو " رِزْقاً " و " عندها " الظاهر أنه ظرف للوجدان .
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من " رِزْقاً " ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل ، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف ، ف " وجد " هو الناصب لِ " كُلَّمَا " لأنها ظرفية ، وأبو البقاء سمَّاه جوابها ؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي .
قوله : { قَالَ يَا مَرْيَمُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف ، قال ابو البقاء : " ولا يجوز أن يكون بدلاً من " وَجَدَ " ؛ لأنه ليس بمعناه " .
الثاني : أنه معطوف بالفاء ، فحذف العاطف ، قال أبو البقاء : " كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
[ الأنعام : 121 ] ، وكذلك قول الشاعر : [ البسيط ]
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا *** . . . {[28]}
وهذا الموضع يشبه جوابَ الشرط ، لأن " كُلَّمَا " تشبه الشرط في اقتضائها الجواب .
قال شهاب الدين{[29]} : وهذا - الذي قاله - فيه نظر من حيث إنه تخيَّل أن قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } أن جوابَ الشرط هو نفس { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } حُذِفَتْ منه الفاء ، وليس كذلك ، بل جواب الشرط محذوف ، و- { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة ، وليس هذا مما حُذِفَتْ منه فاء الجزاء ألبتة ، وكيف يَدَّعِي ذلك ، ويُشَبِّهه بالبيت المذكور ، وهو لا يجوز إلا في ضرورة ؟
ثم الذي يظهر أن الجملةَ من قوله : " وَجَدَ " في محل نصب على الحال من فاعل " دَخَلَ " ويكون جواب " كُلَّمَا " هو نفس " قَالَ " والتقدير : كلما دخل عليها زكريا المحراب واجداً عندَها الرزق .
ونكر " رِزْقاً " تعظيماً ، أو ليدل به على نوع " ما " .
قوله : { أَنَّى لَكِ هَذَا } " أنى " خبر مقدم ، و " هَذَا " مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا : من أين ؟ كذا فسَّره أبو عبيدة .
قيل : ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي : كيف تَهَيأ لكِ هذا ؟
{[30]}أنَّى وَمِنْ أيْنَ هَزَّكَ الطَّرَبُ *** مِنْ حَيْثُ لاَ صَبْوةٌ وَلاَ رِيَبُ{[31]}
وجوَّز أبو البقاء في " أنَّى " أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في " ذلك " . و " لك " رافع ل " هذا " يعني بالفاعلية . ولا حاجة إلى ذلك ، وتقدم الكلام على " أنى " في " البقرة{[32]} .
قال الرَّبيع بن أنس : إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعةَ أبوابٍ ، فإذا دخل عليها غُرفتها وجد عندها رزقاً - أي : فاكهة في غير حينها - فاكهة الصَّيْفِ في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فيقول يا مريمُ ، أنى لك هذا{[33]} ؟
قال أبو عبيدة : معناه من أين لك هذا ، وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا ؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة ، وأين للسؤال عن المكان .
احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية ؛ فإنَّ حصول الرزق عندها إمَّا أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون ، فإن كان غيرَ خارقٍ للعادة ، فذلك باطلٌ من خمسة أوْجُهٍ :
الأول : أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزقُ عند مريم دليلاً على عُلُوِّ شأنِهَا ، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصِّيَّةِ ، وهو المعنى المراد من الآية .
الثاني : قوله : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] والقرآن دلَّ على أنه كان آيساً من الولد ؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى خَرْقَ العادة في حق مريمَ طمع في حصول الولد ، فيستقيم قوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } . ولو كان الذي شاهده في حق مريم غيرَ خارق لم تكن مشاهدةُ ذلك سببا لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر .
الثالث : تنكير الرزق في قوله : " رِزْقاً " فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل : رزق وإنه رزق عجيب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية .
الرابع : أنه - تعالى - قال : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] ولولا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك .
الخامس : تواتُر الروايات على أن زكريا - عليه السلام - كان يجد عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقاً للعادة ، وإذا ثبت ذلك فنقول : إمّا أنه كان معجزةً لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل ؛ لأن النبيَّ الموجودَ في ذلكَ الزمانِ زكريا - عليه السلام - ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله ، ولم يَشْتبه أمْرُه عليه ، ولم يَقُلْ ل " مريم " أنَّى لَكِ هَذَا ؟ وأيضاً فقوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } مُشْعِرٌ بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله ، فهنالك طمع في انخراق العادةِ في حصول الولد من المرأة الشيخة العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم ، وإذا كان كذلك ، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا - عليه السلام - فلم يَبْقَ إلاَّ أنها كانت لمريم عليها السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عليه الصلاة والسلام كرامة لمريم ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل .
قال أبو علي الجبائي : لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا - عليه السلام - لوجهين :
الأول : أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وأنه كان غافلاً عما يأتيها من الأرزاق من عند الله ، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معيَّن قال لها : أنَّى لكِ هذا ؟ فقالت هو من عند الله ، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزةَ .
الثاني : يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقاً معتاداً ، إلا أنه كان يأتيها من السماء ، وكان زكريا يسألها عن ذلك ، حَذَراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها ، فقالت : هو من عند الله لا من عند غيره .
وأيضاً لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق ، بل معنى الآية أن الله - تعالى - كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهداتِ العابداتِ ، فكأن زكريا عليه الصلاة والسلام لمّا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه رُبَّما أتاها ذلك الرزق من جهةٍ لا ينبغي ، فكان يسألها عن كيفية الحال .
والجواب عن الأول والثاني : أنه لو كان معجزاً لزكريا لكان زكريا مأذوناً له من عند الله في طلب ذلك ، ومتى كان مأذوناً له في ذلك الطلب كان عالماً - قطعاً - بأنه يحصل ، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ، ولم يكن لقول : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } فائدة .
والجواب عن الثالث : أنه - على هذا التقدير - لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه .
أيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق ، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة ؟ فسقطت هذه الأسئلة .
واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النَّبِيِّ لا يوجد مع غير النبي ، كما أن الفعل المُحْكَم - لما كان دليلاً على العلم لا جرم - لا يوجد في حَقِّ غَيْرِ العالمِ .
الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدَّعِي ، فإن ادَّعَى صاحبهُ النبوةَ ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيًّا ، وإن ادَّعَى الولايةَ ، فذلك يدل على كونه وليًّا .
والثاني : قال بعضهم : " الأنبياء مأمورون بإظهارها ، والأولياء مأمورون بإخفائها " .
والثالث : أن النبي يدَّعي المعجزة ويقطع به ، والولي لا يمكنه القطع به .
الرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة .
قوله : { إنًّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يُحْتَمَل أن يكون من جملة كلام مريم - عليها السلام - فيكون منصوباً .
ويحتمل أن يكون مستأنفاً ، من كلام الله تعالى ، وتقدم الكلامُ على نظيره .