اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩} (24)

قوله : { بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } مصدر مضاف لمفعوله . والفاعل محذوف أي بأَنْ سَأَلَكَ نَعْجَتَكَ ، وضمّن السؤال معنى الإضافة والانضمام أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال ولذلك عدي ( بإلى ) .

فصل :

قال ابن الخطيب : للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال :

أحدها : أن هذه القصة دلت على صدور الكبيرة عنه . وثانيها : دلالتها على الصغيرة . وثالثها : لا تدل على كبيرة ولا على صغيرة ، فأما القول الأول فقالوا : إن داودَ أحبًَّ امرأة «أُوريَا » فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله تعالى ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته وعرضا تلك الواقعة عليه ، فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة . وقال ابن الخطيب : والذي أدين به وأذهبُ إليه أنّ ذلك باطلٌ لوجوهٍ :

الأول : أن هذه الحكاية لا تناسب داودَ لأنها لو نُسبت إلى أفْسَقِ النَّاس وأشدهم فجوراً لانتفى منها ، والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه ورعاً ولعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إليه ؟ ! .

الثاني : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي وقتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول فأمر منكر ؛ قال - عليه ( الصلاة و ) السلام : «مَنْ سَعَى فِي دَمِ مُسْلِمٍ ولَوْ بشَرِّ كَلمَةٍ جَاءَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيسٌ مِن رَحمةِ اللَّهِ » . وأما الثاني فمنكر عظيم ، قال - عليه ( صلاة و ) السلام- : «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ » . وإن «أوريا » لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه .

الثالث : أن الله تعالى وصف داودَ بصفات تنافي كونه- عليه ( الصلاة و ) السلام- موصوفاً بهذا الفعل المنكر فالصفة الأول أنه تعالى أمر محمداً - صلى الله عليه وسلم - في أن يقتدي بداود في المصابرة مع المكاره فلو قيل إنَّ داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحد الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله ؟ ! .

وأما الصفة الثانية فإنه وصفه بكونه عبداً له ، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في وصف العبودية أما في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحضورات ، فلو قلنا : إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملاً إلاَّ في طاعة الهوى والشهوة . وأما الصفة الثالثة وهي قوله : { ذَا الأيد } [ ص : 17 ] أي ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار ، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات ، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم ؟ ! الصفة الرابعة : كونه أوَّاباً كثيرَ الرجوع إلى الله تعالى فكيف يليق هذا بمن قلبه مشغوفٌ بالقتل والفجور ؟ ! الصفة الخامسة : قوله تعالى : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ } أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذوا سبيله إلى القتل والفجور ؟ ! الصفة السادسة : قوله تعالى : { والطير مَحْشُورَةً } قيل : إنه كان محرَّماً عليه صيد شيءْ من الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على زوجته ومنكوحه . الصفة السابعة : قوله تعالى : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } ومحال أن يكون المراد أنه تعالى : شد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد بأنا ملكناه تقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة ، أو المراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك ؟ ! الصفة الثامنة : قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ الحكمة وَفَصْلَ الخطاب } والحكمة : اسم جامع لكل ما ينبغي علماً وعملاً فكيف يجوز أن يقال : إِنَّا آتَيْنَاهُ ) الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف عنه الشيطان من مُزاَحَمَة أخصِّ أصحابه في الروح والمنكوح ؟ !