اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ص مكية ، وهي خمس وثمانون آية ، وسبعمائة واثنتان وثمانون كلمة ، وثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا .

قوله تعالى : { ص } قرأ العامة بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور وقد مر ما فيه .

وقرأ أبيٌّ والحسنُ وابن أبي إسحاق وابن أبي عَبْلَة وأبو السّمَال بكسر الدال من غير تنوين . وفيه وجهان :

أحدهما : أنه كسر لالتقاء الساكنين وهذا أقرب .

والثاني : أنه ( أمر ) من المصاداة وهي المعارضة ومنه صوت الصَّدَى لمعارضته لصوتك ، وذلك في الأماكن الصُّلبة الخالية .

والمعنى عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره ( وانته عن نواهيه . قاله الحسن . وعنه أيضاً أنه من صَادَيْتُ أي حَادَثْتُ ) والمعنى حَادِث النَّاسَ بالقرآن ، وقرأ ابنُ أبي إسْحَاقَ كذلك إلاَّ أنه نونه وذلك على أنه مجرور بحرف قسم مقدر حذف وبقي عمله كقولهم : اللَّهِ لاَفْعَلَنَّ بالجر إلا أن الجر يقل في غير الجلالة ، وإنما صرفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب أو التنزيل . وعن الحسن أيضاً وابن السميقع وهَارونَ الأَعْور صادُ بالضم من غير تنوين على أنه اسم للسورة وهو ( خبر ) مبتدأ مضمر أي هذه صاد . ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث وكذلك قرأ ابن السَّمَيْقَع وهارُون قافُ ونونُ بالضم على ما تقدم وقرأ عيسى وأبو عمرو - في رواية محبوب - صَادَ بالفتح من غير تنوين وهي تحتمل ثلاثة أوجه : البناء على الفتح تخفيفاً كأينَ وكَيْفَ ، والجر بحرف القسم المقدر وإنما منع من الصرف للعلمية والتأنيث كما تقدم . والنصب بإضمار فعل أو على حذف حرف القسم نحو قوله :

فَذَاكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ . . .

وامتنعت من الصرف لما تقدم . وكذلك قرأ قاف ونون بالفتح فيهما . وهما كما تقدم ولم يحفظ التنوين مع الفتح والضم .

فصل

قيل : هذا قسم ، وقيل : اسم للسورة كما ذكر في الحروف المقطعة في أوئل السور . قال محمد بن كعب القُرَظِيّ : ( ص ) مفتاح اسم الصّمد وصادق الوعد . وقال الضحاك : معناه صدق الله وروي عن ابن عباس صدق محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضته .

فإن قيل : قوله { والقرآن ذِي الذكر } قسم فأين المقسم عليه ؟ .

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال الزجاج والكوفيون غير الفراء : هو قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } [ ص : 64 ] قال الفراء : لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قوله { والقرآن } . وقال ثعلب والفراء هو قوله : «كَمْ أَهْلَكْنَا » والأصل : «لكم أهلكنا » فحذف اللام كما حذفها في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] بعد قوله : { وَالشَّمْسِ } ، لما طال الكلام .

الثالث : قال الأخفش هو قوله : «إنْ كُلُّ لَمَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ » ، كقوله : { تالله إِن كُنَّا } [ الشعراء : 97 ] وقوله : { والسمآء والطارق } { إِن كُلُّ } [ الطارق : 1و 4 ] .

الرابع : قوله : { إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا } [ ص : 54 ] .

الخامس : هو قوله : «( ص ) » لأن المعنى والقرآن لقد صدق محمد قاله الفراء وثعلب أيضاً ؛ وهذا بناء منهما على جواز تقديم جواب القسم وأن هذا الحرف مقتطع من جملة دالّ هو عليها وكلاهما ضعيف .

السادس : أنه محذوف . واختلفوا في تقديره فقال الحَوْفيُّ تقديره : «لَقَدْ جَاءَكُم الحَقُّ » ونحوه وقدره ابن عطية : ما الأمر كما تزعمون . ودل على هذا المحذوف قوله : { بَلِ الذين كَفَرُواْ } . والزمخشري : أنه لمعجز ، وأبو حيان : إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ . قال : لأنه نظير : { يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 1-3 ] .

وللزمخشري هنا عبارة بشعة جداً قال : فإن قلت : قوله : «ص . والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق » كلام ظاهر متناف غير منتظم فما وجه انتظامه ؟ .

قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز كما مر في أول الكتاب ثم أتبعه القسم محذوف الجواب بدلالة التَّحدِّي عليه كأنه قال : والقرآن ذِي الذِّكْر إنه لكلام معجز .

والثاني : أن يكون ( صاد ) خبر مبتدأ محذوف على أنها اسم للسورة كأنه قال : هذه «ص » يعني هذه السورة التي أعجزت العرب وَالقُرآنِ ذي الذكر كما تقول : «هذا حَاتمٌ واللَّهِ » تريد هو المشهور بالسخاء واللَّهِ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال : أقسمتُ بصاد والقرآنِ ذي الذكر إنه لمعجز . ثم قال : بلِ الذَّينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف ( بالحق ) وشِقَانِ لله ورسوله . ( و ) جعلتها مقسماً بها وعطفت عليها «والقرآن ذي الذكر » جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله ، وأن تريد السورة بعينها . ومعناه : أُقْسِمُ بالسُّورةِ الشًّرِيفة والقرآنِ ذِي الذِّكر كما تقول : مَرَرْتُ بالرَّجُلِ الكَرِيم وبالنِّسْبَة المُبَارَكَةِ ، ولا تريد بالنّسبة غيرَ الرجل . وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشقاق والقرآنِ ذي الذكر .

( والمراد بكون القرآن ذي الذكر ) أي : ذي الشرف ، قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] وقال : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] كما تقول : «لِفُلاَنٍ ذٍكْرٌ فِي النَّاسِ » . ويحتمل أن يكون معناه ذو النبأ أي فيه أخبار الأولين والآخرين وبيان العلوم الأصلية والفرعية .