اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ} (22)

وقوله : { إِذْ دَخَلُواْ } . قال الزمخشري : وهو يقع للواحد والجمع كالضَّيْفِ ، قال تعالى : { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } [ الذاريات : 24 ] لأنه مصدر في أصله ، يقال خَصَمَهُ يَخْصِمَهُ خصما كما تقول : ضَافَهُ ضَيْفاً . فإن قلت : هذا جمع وقوله : خَصْمَان تثنية فكيف استقام ذلك ؟ قلت : معنى خصمان فريقان خصمان ، والدليل قراءة من قرأ : «بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ » ونحوه قوله تعالى : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } [ الحج : 19 ] فإن قلت : فما تَصْنَعُ بقوله : { إِنَّ هَذَآ أَخِي } وهو دليل على الاثنين ؟ قلت : معناه أنّ التحاكم بين ملكين ولا يمنع أن يصحبهما آخرون ، فإن قلت : كيف سماهم جميعاً خَصْماً في قوله : «نَبَأُ الخَصْمِ وخَصْمَان » ؟ قلت : لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به .

قوله : { إِذْ تَسَوَّرُواْ } في العامل في «إذْ » أَوْجُهٌ : أحدها : أنه معمول للنبأ إذا لم يرد به القصة . وإليه ذهب ابنُ عطية وأبو البقاء ومكِّيٌّ أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تَسَوُّرهم المحراب ، وقد ردّ بعضهم هذا بأن النبأ الواقع في ذلك الوقت لا يصح إتيانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن أريد بالنبأ القصة لم يكن ناصباً . قاله أبو حَيَّانَ .

الثاني : أن العامل فيه «أَتَاكَ » . وُردَّ بما رُدَّ به الأول ، وقد صرح الزَّمَخْشَريُّ بالرد على هذين الوجهين : فقال : «فإن قلت : بم انتصب إذ ؟ قلت : لا يخلوا إما أن ينتصب «بأتَاكَ » أو «بالنَّبَأ » أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأَتَاك لأن إتيان النبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقع إلا في عهده لا في عهد داودَ ( و ) لا بالنبأ ، لأن النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم يكن ناصباً ، فبقي أن يكون منصوباً بمحذوف تقديره : وهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ تَحَاكُمِ الخَصْمِ إذْ » . فاختار أن يكون معمولاً لمحذوف .

الرابع : أن ينتصب بالخصم ؛ لما فيه من معنى الفِعْل .

قوله : «إذْ دَخَلُوا » فيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من «إذ » الأُولَى . الثاني : أنه منصوب بتَسَوَّرُوا .

ومعنى تسوروا عَلَوْ أَعْلَى السّور ، وهو الحائط غير مهموز كقولك : تَسَنَّم البَعِيرَ أي بَلَغَ سَنَامَهُ . والضمير في «تَسَوَّرُوا » و «دَخَلُوا » راجع على الخصم ، لأنه جمع في المعنى على ما تقدم ، أو على أنه مثنًّى والمثنى جمع في المعنى . وتقدم تحقيقه .

قوله : { خَصْمَانِ } خبر مبتدأ مضمر أي نَحْنُ خَصْمَانِ ولذلك جاء بقوله : { بَعْضُنَا } ، ومن قرأ «بعضهم » بالغيبة يجوز أن يقدره كذلك ويكون قد راعى لفظ : خَصْمَان ، ويجوز أن يقدرهم خَصْمَان ليتطابق ، وروي عن الكسائي خِصْمَانِ بكسر الخَاء . وقد تقدم أنه قرأها كذلك في الحَجِّ .

قوله : { بغى بَعْضُنَا } جملة يجوز أن تكون مفسِّرة لحالهم ، وأن تكون خبراً ثانياً .

فإن قيل : كيف قالا : بغى بعضنا على بعض وهما مَلَكَان - على قول بعضهم- والملكان لا يبغيان ؟ قيل : معناه أرأيت خَصْمَيْن بَغَى أحَدُهُما على الآخر ، وهذا من مَعَارِيضِ الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما .

قوله : { فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ } العامة على ضم التاء وسكون الشين ، وضم الطاء الأولى من ( أ )شْطَطَ يُشْطِطُ إشْطَطاً إذا تجاوز الحق ، قال أبو عبيدة : شَطَطْتُ في الحكم وأَشْطَطْتُ إذا جُرْت ؛ فهو مما اتفق فيه فَعَلَ وأَفْعَلَ ، وإنما فكَّهُ على أحد الجائزين كقوله : { مَنْ يَرْتَدِدْ } [ البقرة : 217 ] . وقد تقدم تحقيقه . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن أبي عبلة تَشطُطْ بفتح التاء وضم الطاء من «شَطّ » بمعنى «أَشَطَّ » كما تقدم .

وقرأ قتادة : تُشِطّ من «أَشَطَّ » رباعياً إلا أنه أدغم . وهو أحد الجائزين كقراءة من قرأ «مَنْ يَرْتَدَّ منْكُمْ » وعنه أيضاً «تُشَطِّطْ » بفتح الشين وكسر الطاء مشددة من شَطَّط يشطِّطُ . والتثقيل فيه للتكثير . وقرأ زر بن حبيش تشاطط من المفاعلة وأصل الكلمة من : شَطَّتِ الدَّارُ وأَطَّتْ إذا بَعُدَتْ . «وَاهْدِنَا إلَى سَوَاء الصِّرَاطِ » أَرْشِدْنَا إلى طريق الصواب .