اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ فَوَيۡلٞ لِّلۡقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} (22)

قوله تَعَالَى : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } الآية ، لما بين الدلائل الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله ووجوب الإعراض عن الدنيا وذكر أن الانتفاع بهذه البيانات لا تكمل إلا إذا شُرحَ الصدر ونُوِّر القلب ، والكلام في قوله ( تعالى ) : { أَفَمَن شَرَحَ الله } وقوله : «أَفَمَنْ يتقي » كالكلام في «أَفَمَنْ حَقَّ » والتقدير : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لْلإسْلاَم كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ ، أو كالقَاسِي المُعْرِضِ لدلالة : { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } عليه وكذا التقدير في : «أَفَمَنْ يتقي » أي كمن أمن العذاب ، وهو تقدير الزمخشري ، أو : كالمُنعمِينَ في الجنة وهو تقدير ابن عطيَّةَ .

فصل :

معنى شرح الله صدره للإسلام أيْ وسعه لقبول الحق { فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } كمن أقسى الله قلبه { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين } . قال مالك بن دينار : ما ضرب عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوةِ القلب وَمَا غضب الله على قوم إلا نَزَعَ منهم الرحمة .

فإن قيل : إن ذكر الله - عزّ جلّ- سبب لحُصُول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] فكيف جعله في هذه الآية مبيناً لحصول القسوة في القلب ؟ .

فالجواب : أن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العُنْصر بعيدةً عن مناسبة الرُّوحَانِيَّات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذَّميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوةً وكُدُورةً ، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس تسود وجه القصار ويبيض ثوبه ، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقِد الملح . وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره ، وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس ، ولما نزل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] وعمر بن الخطاب حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] قال كل ( واحد ) منهما : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اكتب فكذا نزلت فازْدَادَ عمرُ إيماناً على إيمان ، وازداد ذلك الإنسان كفراً على كُفْرٍ ، وإذا عرف هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله- عزّ وجلّ- يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانيَّة ويوجب القَسْوَة والبعد عن الحقّ في النفوس الخبيثة الشَّيْطَانِيَّة .