اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } : في " مَا " هذه وجهان :

أحدهما : أنها زائدةٌ بين الجارِّ ومجروره تأكيداً .

والثاني : أنها نكرة تامَّة ، و " نَقْضِهِمْ " بدلٌ منه ، وهذا كما تقدَّم في [ قوله ] { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ } [ آل عمران : 159 ] . و " نَقْضِ " مصدرٌ مضاف لفاعله ، و " مِيثَاقَهُمْ " مفعوله ، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ ل " مَا " هذه وجهان :

أحدهما : أنه " حَرَّمْنَا " المتأخِّر في قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا }{[10255]} [ النساء : 160 ] وعلى هذا ، فيقال : " فَبِظُلْمٍ " متعلِّق ب " حَرَّمْنَا " أيضاً ، فيلزم أن يتعلق حرفاً جَرٍّ متحدانِ لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ ؛ وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل ، وأجابوا عنه بأن قوله " فَبِظُلْمٍ " بدل من قوله " فبمَا " بإعادة العامل ، فيقال : لو كان بدلاً لما دخلَتْ عليه فاءُ العطف ؛ لأن البدل تابعٌ بنفسه من غير توسُّطِ حرفِ عطفٍ ، وأُجيبَ عنه بأنه لمَّا طالَ الكلام بين البدل والمبدلِ منه ، أعادَ الفاءَ للطُّولِ ، ذكر ذلك أبو البقاء{[10256]} والزَّجَّاج{[10257]} والزمخشريُّ وأبو بَكْرٍ وغيرهم .

ورَدَّه أبو حيان{[10258]} بما معناه أنَّ ذلك لا يجوز لطُول الفصْل بين المبدَلِ والبدل ، وبأنَّ المعطوفَ على السببِ سببٌ ، فيلزمُ تأخُّرُ بعضِ أجزاءِ السبب الذي للتحريم في الوقتِ عن وقت التحريم ؛ فلا يمكنُ أن يكون سبباً أو جزء سببٍ إلا بتأويلٍ بعيدٍ ، وذلك أن قولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ } وقولهم على مريم البهتان إنما كان بعد تحْريم الطيبات ، قال : " فالأوْلَى أن يكونَ التقدير : لَعَنَّاهُمْ ، وقد جاء مصرَّحاً به في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " .

والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، فقدَّره ابنُ عطيَّة : لعنَّاهُمْ وأذْلَلْنَاهُمْ وختمنا على قلُوبهم ، قال : " وحَذْفُ جواب مثْلِ هذا الكلام بليغٌ " ، وتسميةُ مثل هذا " جَوَاب " غيرُ معروف لغةً وصناعةً ، وقدَّره أبو البقاء{[10259]} : " فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ طُبعَ على قُلُوبِهِمْ ، أوْ لُعِنُوا ، وقيل : تقديرُه : فبما نقضهِمْ لا يُؤمِنُونَ ، والفاءُ زائدةٌ " . [ أي : في قوله تعالى { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ] . انتهى . وهذا الذي أجازه أبو البقاء تَعَرَّضَ له الزمخشريُّ ، وردَّه ، فقال : " فإن قلْتَ : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ المحذوفَ الذي تعلَّقَتْ به الباء ما دَلَّ عليه قوله " بَلْ طَبَعَ اللَّهُ ، فيكون التقديرُ : فبمَا نقضِهِمْ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ ، بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكُفْرهِمْ قلت : لم يصحَّ لأن قوله : { بل طبع الله عليها بكفرهم } ردٌّ وإنكارٌ لقولهم : " قُلوبُنَا غُلْفٌ " ، " فكانَ متعلِّقاً به " ، قال أبو حيان{[10260]} : " وهو جوابٌ حسنٌ ، ويمتنعُ من وجهٍ آخر ، وهو أنَّ العطفَ ب " بَلْ " للإضرابِ ، والإضرابُ إبطالٌ ، أو انتقالٌ ، وفي كتاب الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقالِ ، ويُسْتفادُ من الجملةِ الثانية ما لا يُسْتفاد من الأولى ، والذي قَدَّره الزمخشريُّ لا يَسُوغُ فيه الذي قرَّرناه ؛ لأنَّ قوله : فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرهِمْ بآياتِ الله وقوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا [ هو مدلولُ الجمْلة التي صَحبتها " بَلْ " ، فأفادت الثانِيَة ما أفَادَتِ الأولَى ، ولو قُلْت : مرَّ زَيْد بِعَمْرو ، بل مَرَّ زَيْدٍ بعمرٍو ، لم يَجُزْ " . وقَدَّرَهُ الزمَخْشَرِي : فَعَلْنَا بِهِم ما فَعَلْنَا ، وتقدَّم الكَلاَم على الكُفْرِ بآيَاتِ اللَّهِ ، وقَتْلِهِم الأنْبِيَاءَ بغَيْرِ حَقٍّ في البَقَرة .

وأمَّا قولُهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع غِلاَفٍ ، والأصل " غُلُفٌ " بتحريك اللاَّم ، وخُفِّفَ كما قِيلَ بالتَّسْكِين ؛ ككُتْب وَرُسْل بتَسْكِين التاءِ والسِّين والمَعْنَى على هذا : أنهم قالوا : قُلُوبُنَا غُلْف ، أي : أوْعِيَةٌ للعِلْمِ ، فلا حَاجَة بِنَا{[10261]} إلى عِلْمٍ سِوَى ما عِنْدَنَا ، فكَذَّبُوا الأنْبِيَاء بهَذَا القَوْلِ .

وقيل : إن غُلْفاً جَمْع أغْلَف{[10262]} وهو المغَطَّى بالغلافِ ، أي : بالغِطَاءِ ، والمَعْنَى على هذا : أنَّهمُ قالُوا : قُلُوبُنَا في أغْطِيَةٍ ، [ فَهي ]{[10263]} لا تَفْقَهُ ما تَقُولُون ؛ نظيره قولُهُم : { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] .

قوله : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا } هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدِّم ، أي : ليس الأمرُ كما قالوا من قولهم : " قُلُوبُنَا غُلْفٌ " ، وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بَلْ في " طَبَعَ " إلا الكسائي{[10264]} ، فأدغم من غيرِ خلاف ، وعن حمزة خلاف ، والباء في " بِكُفرهِمْ " يُحتمل أن تكون للسببية ، وأن تكون للآلة ؛ كالباء في " طَبَعْتُ بالطِّينِ على الْكِيسِ " يعني أنه جعل الكُفْر كالشيء المطْبُوع به ، أي : مُغَطِّياً عليها ، فيكونُ كالطابع ، وقوله : " إِلاَّ قَلِيلاً " يحتملُ النصبَ على نعت مصدر محذوف ، أي : إلا إيماناً قليلاً وهو إيمانُهُم بمُوسَى والتَّوراة فقط ، وقد تقدم أن الإيمَانَ بالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ كُفْرٌ ، ويُحْتَمل كَوْنُه نَعْتاً لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ ، أي : زَمَاناً قَلِيلاً ، ولا يجُوزُ أن يكُون مَنْصُوباً على الاسْتِثْنَاءِ من فَاعِل " يؤمنُونَ " أي : إلاَّ قَلِيلاً مِنْهُم فإنَّهُم يُؤمِنُون ؛ لأنَّ الضَّمِير في " لاَ يُؤمِنُونَ " عائدٌ على المَطْبُوعِ على قُلُوبهم ، ومن طُبعَ على قَلْبِه بالكُفْرِ ، فلا يَقَعُ مِنْهُ الإيمانُ .

[ والجواب أنَّه مِنْ إسنادِ مَا للبعض للكُلِّ ، أي : في قوله : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فتأمّل ]{[10265]} .

وقال البغوي{[10266]} : " إِلاَّ قَلِيلاً " يعني : ممَّن كَذَّب الرُّسُل [ لا ]{[10267]} من طُبِعَ{[10268]} على قَلْبِهِ ؛ لأنَّ من طَبَعَ الله على قَلْبِه ، لا يُؤمِنُ أبَداً ، وأرَادَ بالقَلِيلِ : عَبْد الله بن سَلاَم وأصْحَابه .

قوله : " وبكُفْرهِمْ " : فيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوفٌ على " مَا " في قوله : " فَبِمَا نَقضهِمْ " فيكونُ متعلِّقاً بما تعلَّق به الأول .

الثاني : أنه عطفٌ على " بِكُفرِهِمْ " الذي بعد " طَبَعَ " ، وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك غايةَ الإيضاح ، واعترضَ وأجابَ بأحسنِ جواب ، فقال : " فإنْ قلْتَ : علامَ عَطَفَ قوله " وَبكُفْرِهِمْ " ؟ قلتُ : الوجهُ أن يُعْطَفَ على " فَبِمَا نَقْضِهمْ " ، ويُجْعَلَ قولُه : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } كلاماً يَتْبَع قوله : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } على وجه الاستطراد ، ويجوزُ عطفه على ما يليه من قوله " بِكُفْرِهِمْ " ، فإن قلت : فما معنى المجيءِ بالكُفْر معطوفاً على ما فيه ذِكْرُهُ ؟ سواءٌ عطف على ما قبل الإضْراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : { وَكُفْرِهِمْ بآيَاتِ الله } ، وقوله " بِكُفْرِهمْ " ؟ قُلْتُ : قد تكرر منهم الكُفْر ؛ لأنهم كفروا بموسَى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمدٍ ، فعطف بعض كُفْرِهِمْ على بعض ، أو عَطَفَ مجموعَ المعطوفِ على مجموعِ المعطوف عليه ؛ كأنه قيل : فبجمْعِهِمْ بين نقضِ الميثاقِ ، والكُفْرِ بآيات الله ، وقتلِ الأنبياء ، وقولهم : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ، وجمعهم بين كفرِهمْ وبَهْتِهِمْ مريم وافتخارهم بقتلِ عيسى ؛ عاقبناهم ، أو بلْ طَبَع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم كذا وكذا " .


[10255]:في الآية 60.
[10256]:ينظر: الإملاء 1/200.
[10257]:ينظر: معاني القرآن 1/139.
[10258]:ينظر: البحر المحيط: 3/404.
[10259]:ينظر: الإملاء 1/200.
[10260]:ينظر: البحر المحيط 3/404.
[10261]:في ب: لنا.
[10262]:في أ: أغفلة.
[10263]:سقط في أ.
[10264]:ينظر: السبعة 123.
[10265]:سقط في أ.
[10266]:ينظر: تفسير البغوي 1/496.
[10267]:سقط في ب.
[10268]:في ب: يطبع.