قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } : في " مَا " هذه وجهان :
أحدهما : أنها زائدةٌ بين الجارِّ ومجروره تأكيداً .
والثاني : أنها نكرة تامَّة ، و " نَقْضِهِمْ " بدلٌ منه ، وهذا كما تقدَّم في [ قوله ] { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ } [ آل عمران : 159 ] . و " نَقْضِ " مصدرٌ مضاف لفاعله ، و " مِيثَاقَهُمْ " مفعوله ، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ ل " مَا " هذه وجهان :
أحدهما : أنه " حَرَّمْنَا " المتأخِّر في قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا }{[10255]} [ النساء : 160 ] وعلى هذا ، فيقال : " فَبِظُلْمٍ " متعلِّق ب " حَرَّمْنَا " أيضاً ، فيلزم أن يتعلق حرفاً جَرٍّ متحدانِ لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ ؛ وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل ، وأجابوا عنه بأن قوله " فَبِظُلْمٍ " بدل من قوله " فبمَا " بإعادة العامل ، فيقال : لو كان بدلاً لما دخلَتْ عليه فاءُ العطف ؛ لأن البدل تابعٌ بنفسه من غير توسُّطِ حرفِ عطفٍ ، وأُجيبَ عنه بأنه لمَّا طالَ الكلام بين البدل والمبدلِ منه ، أعادَ الفاءَ للطُّولِ ، ذكر ذلك أبو البقاء{[10256]} والزَّجَّاج{[10257]} والزمخشريُّ وأبو بَكْرٍ وغيرهم .
ورَدَّه أبو حيان{[10258]} بما معناه أنَّ ذلك لا يجوز لطُول الفصْل بين المبدَلِ والبدل ، وبأنَّ المعطوفَ على السببِ سببٌ ، فيلزمُ تأخُّرُ بعضِ أجزاءِ السبب الذي للتحريم في الوقتِ عن وقت التحريم ؛ فلا يمكنُ أن يكون سبباً أو جزء سببٍ إلا بتأويلٍ بعيدٍ ، وذلك أن قولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ } وقولهم على مريم البهتان إنما كان بعد تحْريم الطيبات ، قال : " فالأوْلَى أن يكونَ التقدير : لَعَنَّاهُمْ ، وقد جاء مصرَّحاً به في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " .
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، فقدَّره ابنُ عطيَّة : لعنَّاهُمْ وأذْلَلْنَاهُمْ وختمنا على قلُوبهم ، قال : " وحَذْفُ جواب مثْلِ هذا الكلام بليغٌ " ، وتسميةُ مثل هذا " جَوَاب " غيرُ معروف لغةً وصناعةً ، وقدَّره أبو البقاء{[10259]} : " فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ طُبعَ على قُلُوبِهِمْ ، أوْ لُعِنُوا ، وقيل : تقديرُه : فبما نقضهِمْ لا يُؤمِنُونَ ، والفاءُ زائدةٌ " . [ أي : في قوله تعالى { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ] . انتهى . وهذا الذي أجازه أبو البقاء تَعَرَّضَ له الزمخشريُّ ، وردَّه ، فقال : " فإن قلْتَ : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ المحذوفَ الذي تعلَّقَتْ به الباء ما دَلَّ عليه قوله " بَلْ طَبَعَ اللَّهُ ، فيكون التقديرُ : فبمَا نقضِهِمْ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ ، بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكُفْرهِمْ قلت : لم يصحَّ لأن قوله : { بل طبع الله عليها بكفرهم } ردٌّ وإنكارٌ لقولهم : " قُلوبُنَا غُلْفٌ " ، " فكانَ متعلِّقاً به " ، قال أبو حيان{[10260]} : " وهو جوابٌ حسنٌ ، ويمتنعُ من وجهٍ آخر ، وهو أنَّ العطفَ ب " بَلْ " للإضرابِ ، والإضرابُ إبطالٌ ، أو انتقالٌ ، وفي كتاب الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقالِ ، ويُسْتفادُ من الجملةِ الثانية ما لا يُسْتفاد من الأولى ، والذي قَدَّره الزمخشريُّ لا يَسُوغُ فيه الذي قرَّرناه ؛ لأنَّ قوله : فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرهِمْ بآياتِ الله وقوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا [ هو مدلولُ الجمْلة التي صَحبتها " بَلْ " ، فأفادت الثانِيَة ما أفَادَتِ الأولَى ، ولو قُلْت : مرَّ زَيْد بِعَمْرو ، بل مَرَّ زَيْدٍ بعمرٍو ، لم يَجُزْ " . وقَدَّرَهُ الزمَخْشَرِي : فَعَلْنَا بِهِم ما فَعَلْنَا ، وتقدَّم الكَلاَم على الكُفْرِ بآيَاتِ اللَّهِ ، وقَتْلِهِم الأنْبِيَاءَ بغَيْرِ حَقٍّ في البَقَرة .
وأمَّا قولُهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع غِلاَفٍ ، والأصل " غُلُفٌ " بتحريك اللاَّم ، وخُفِّفَ كما قِيلَ بالتَّسْكِين ؛ ككُتْب وَرُسْل بتَسْكِين التاءِ والسِّين والمَعْنَى على هذا : أنهم قالوا : قُلُوبُنَا غُلْف ، أي : أوْعِيَةٌ للعِلْمِ ، فلا حَاجَة بِنَا{[10261]} إلى عِلْمٍ سِوَى ما عِنْدَنَا ، فكَذَّبُوا الأنْبِيَاء بهَذَا القَوْلِ .
وقيل : إن غُلْفاً جَمْع أغْلَف{[10262]} وهو المغَطَّى بالغلافِ ، أي : بالغِطَاءِ ، والمَعْنَى على هذا : أنَّهمُ قالُوا : قُلُوبُنَا في أغْطِيَةٍ ، [ فَهي ]{[10263]} لا تَفْقَهُ ما تَقُولُون ؛ نظيره قولُهُم : { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] .
قوله : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا } هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدِّم ، أي : ليس الأمرُ كما قالوا من قولهم : " قُلُوبُنَا غُلْفٌ " ، وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بَلْ في " طَبَعَ " إلا الكسائي{[10264]} ، فأدغم من غيرِ خلاف ، وعن حمزة خلاف ، والباء في " بِكُفرهِمْ " يُحتمل أن تكون للسببية ، وأن تكون للآلة ؛ كالباء في " طَبَعْتُ بالطِّينِ على الْكِيسِ " يعني أنه جعل الكُفْر كالشيء المطْبُوع به ، أي : مُغَطِّياً عليها ، فيكونُ كالطابع ، وقوله : " إِلاَّ قَلِيلاً " يحتملُ النصبَ على نعت مصدر محذوف ، أي : إلا إيماناً قليلاً وهو إيمانُهُم بمُوسَى والتَّوراة فقط ، وقد تقدم أن الإيمَانَ بالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ كُفْرٌ ، ويُحْتَمل كَوْنُه نَعْتاً لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ ، أي : زَمَاناً قَلِيلاً ، ولا يجُوزُ أن يكُون مَنْصُوباً على الاسْتِثْنَاءِ من فَاعِل " يؤمنُونَ " أي : إلاَّ قَلِيلاً مِنْهُم فإنَّهُم يُؤمِنُون ؛ لأنَّ الضَّمِير في " لاَ يُؤمِنُونَ " عائدٌ على المَطْبُوعِ على قُلُوبهم ، ومن طُبعَ على قَلْبِه بالكُفْرِ ، فلا يَقَعُ مِنْهُ الإيمانُ .
[ والجواب أنَّه مِنْ إسنادِ مَا للبعض للكُلِّ ، أي : في قوله : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فتأمّل ]{[10265]} .
وقال البغوي{[10266]} : " إِلاَّ قَلِيلاً " يعني : ممَّن كَذَّب الرُّسُل [ لا ]{[10267]} من طُبِعَ{[10268]} على قَلْبِهِ ؛ لأنَّ من طَبَعَ الله على قَلْبِه ، لا يُؤمِنُ أبَداً ، وأرَادَ بالقَلِيلِ : عَبْد الله بن سَلاَم وأصْحَابه .
قوله : " وبكُفْرهِمْ " : فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوفٌ على " مَا " في قوله : " فَبِمَا نَقضهِمْ " فيكونُ متعلِّقاً بما تعلَّق به الأول .
الثاني : أنه عطفٌ على " بِكُفرِهِمْ " الذي بعد " طَبَعَ " ، وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك غايةَ الإيضاح ، واعترضَ وأجابَ بأحسنِ جواب ، فقال : " فإنْ قلْتَ : علامَ عَطَفَ قوله " وَبكُفْرِهِمْ " ؟ قلتُ : الوجهُ أن يُعْطَفَ على " فَبِمَا نَقْضِهمْ " ، ويُجْعَلَ قولُه : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } كلاماً يَتْبَع قوله : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } على وجه الاستطراد ، ويجوزُ عطفه على ما يليه من قوله " بِكُفْرِهِمْ " ، فإن قلت : فما معنى المجيءِ بالكُفْر معطوفاً على ما فيه ذِكْرُهُ ؟ سواءٌ عطف على ما قبل الإضْراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : { وَكُفْرِهِمْ بآيَاتِ الله } ، وقوله " بِكُفْرِهمْ " ؟ قُلْتُ : قد تكرر منهم الكُفْر ؛ لأنهم كفروا بموسَى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمدٍ ، فعطف بعض كُفْرِهِمْ على بعض ، أو عَطَفَ مجموعَ المعطوفِ على مجموعِ المعطوف عليه ؛ كأنه قيل : فبجمْعِهِمْ بين نقضِ الميثاقِ ، والكُفْرِ بآيات الله ، وقتلِ الأنبياء ، وقولهم : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ، وجمعهم بين كفرِهمْ وبَهْتِهِمْ مريم وافتخارهم بقتلِ عيسى ؛ عاقبناهم ، أو بلْ طَبَع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم كذا وكذا " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.