هذا استِفْهام يرادُ به التَّحْرِيض ، والأمر بالجِهَاد على سَبيلِ الوُجُوب ، ومعناه : أنَّه لا عُذْر لَكُمْ في تَرْكِ المُقَاتلةِ ، وقد بَلَغَ حال المُسْتَضْعَفِين من الرِّجَال والنِّسَاءِ والولْدَانِ من المُسْلِمِين إلى ما بلغ في الضَّعْفِ ، فهذا الحَثُّ شديدٌ ، وبيان العِلَّة{[8807]} التي صَار القِتَالُ لِهَا وَاجِباً ، وهو مَا فِي القِتَال من تَخْلِيص هَؤلاء المُؤمِنين من أيْدِي الكَفَرَة ؛ لأنَّ هذا يَجْمَعُ مع الجِهَادِ ما يَجْرِي مُجْرى فكاك الأَسِير .
و " ما " : مبتدأ ، و " لكم " خَبَرُه ، أي : أيّ شَيْءٍ استقرَّ لكم ، وجُمْلَة قوله : " لا تقاتلون " فيها وجْهَانِ :
أظهرُهُمَا : أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ ، أي : مَا لَكُمْ غير مُقاتِلِين ، أنكر عليهِمْ أن يكُونُوا على غير هذه الحَالَةِ ، وقد صرَّح بالحَالِ بعد هذا التركيب في قوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وقال في مثل هذه الحال : إنَّها لازمة ؛ لأنَّ الكلام لا يتمُّ دونَها ، وفيه نَظَرٌ ، والعَامِل في هذه الحالِ ، الاستقرار المقدَّر ؛ كقولك : ما لك ضاحِكاً .
والوجه الثاني : أن الأصل : " وما لكم في ألا تقاتلوا " فَحُذِفَت " في " فبقي " ألا تقاتلوا " فجرى{[8808]} فيها الخِلاف المَشْهُور ، ثم حُذِفَت " أنْ " النَّاصِبَة ، فارْتَفَعَ الفِعْل بَعْدَهَا ؛ كقولهم : تَسْمعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيرٌ من أنْ تَرَاهُ ، وقوله : [ الطويل ]
أيُّهَذَا{[8809]} الزَّاجِرِي أحْضُرُ الْوَغَى *** . . . {[8810]}
في إحدى الروايتين ، وهذا يؤيِّد كَوْنَ الحَالِ ليست بلازِمة .
قالت المُعتزلة : قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } إنكار عليهم في تَرْك القِتَالِ ، وبَيَان أن لا عُذْر ألْبَتَّة في تركه ، ولو كان فِعْل العَبْد ، بخلق الله - تعالى - ، لبطل هذا الكلام ؛ لأن من أعْظَم العُذْر أنَّ الله ما خَلَقَهُ وما أرادَهُ ، وما قَضَى به ، وجوابُه مذكورٌ .
قوله : " والمستضعفين " فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها{[8811]} : أنه مَجْرورُ عطفاً [ على اسْمِ اللَّه ، أي : وفي سَبيلِ المُسْتَضْعَفِين .
والثاني : وإليه ذَهَب الزجاج والمَبرِّد أن يكون مَجْرُوراً عطفاً ]{[8812]} على نَفْسِ " سَبِيل " . قال أبو البَقَاء{[8813]} بعد أن حَكَاهُ عن المُبَرِّد وحده : وليس بِشَيْءٍ كأنه لم يَظْهر لأبِي البَقَاء وجه ذلك ، ووَجْهُه أنَّ تقديره : وفي خلاص المُسْتَضْعفِين .
والثَّالِث : وإليه ذَهَب الزَّمَخْشَرِي{[8814]} ، أن يكون مَنْصوباً على الاخْتِصَاصِ ، تقديره : وأخُصُّ من سبيل اللَّهِ خلاص المُسْتَضْعَفين ؛ لأن سَبِيل اللَّه عامٌّ في كل خير ؛ وخلاص المُسْتَضْعَفِين من المسْلِمِين من أيدي الكُفَّار من أعْظَم الخيور . والجُمْهُورُ على : " والمستضعفين " بواو العَطْفِ .
وقرأ ابن شهاب : { في سبيل الله المستضعفين } وفيها تخريجان :
أحدهما : أن يكُونَ حَرْفُ العَطْفِ مقدراً ؛ كقولهم : " أكلت لَحْمَاً تَمْراً سَمَكاً " .
والثاني : أن يكونَ بَدَلاً من " سبيل الله " أي : في سَبِيل الله سبيلِ المُسْتضْعَفِين ؛ لأنَّ سَبِيلَهم سَبِيلُ الله - تعالى - .
قوله : { مِنَ الرِّجَالِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ من المُسْتضْعَفين .
والثاني : أن " مِنْ " لِبَيَان الجنس ، و " الولدان " : قيل : جَمْع " وليد " ؛ وهم المُسْلِمُون الَّذِين بَقُوا بمكَّة لصدِّ المُشْرِكين ، أو ضعفهم عن الهِجْرَة مستنزلين ممتنعين . انتهى بيضاوي .
فيكون المُرَاد بهم : العَبيد والإماءُ ؛ لأن العَبْد والأمَةَ يقال لَهُما : الوَلِيدُ والوليدَةُ ، وجمعهما : الوِلْدَان والوَلائِد ، إلا أنَّه ههنا غلَّب الذكور ، ويكون المُرادُ بالرِّجَال والنِّسَاء : الأحْرار ، والحَرَائِر{[8815]} .
وقيل : جَمْع وَلَد ؛ كَوَرَل ووِرْلان وحَربٌ وحَرْبَان والمُرَاد بهم : الصِّبْيَان ، [ وقيل : العبيد والإمَاء ، يقال للعبد : " وَليدٌ " ، وللأمة : " وليدَةٌ " ، فغلَّب المُذكَّر على المُؤنَّث ؛ لاندراجه فيه ]{[8816]} .
و " الذين يقولون " فيه وَجْهَان :
أحدهُما : أن يكُونَ مجروراً على أنَّه صفةٌ : إمَّا للمستَضعفِين ، وإمَّا للرِّجَال ومن بعدهم ، وغلَّب المُذَكَّرَ على المؤنَّثِ .
وقال أبو البَقَاء{[8817]} : " الذين يقولون " في مَوْضِع جَرِّ صفة لِمَنْ عَقِل من المذكورين " . كأنه تَوَهَّم أنَّ الولدَان الصبيانُ ، والصبيانُ لا يعقلُون ؛ فَجَعَله نعتاً لِمَنْ عقل من المذْكُورين وهُم الرِّجَال والنِّسَاء دونَ الولدان ، لأنَّ جَمْعَ السَّلامَة في المُذَكَّر يُشْترط فيه العَقْلُ ، و " الذين " جَارٍ مُجْرَاه .
قال شهاب الدين : وهذه غَفْلةً ؛ لأنَّ مرادَ النَّحْويين بالعَاقِلِ : ما كان من جنْس العُقَلاَء وإنْ كان مسلوبَ العَقْلِ ؛ ويدُلُّ عليه قوله - تعالى - :
{ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } [ النور : 31 ] فالمُرادُ بالطفل هنا : الصِّبْيَان الصِّغار ، ومع ذلك وَصَفهم بالذين .
والثاني : أن يكُونَ منصوباً على الاخْتِصَاصِ .
المُرَاد بالمُستضعفين من الرِّجال والنِّسَاء والولْدَان : قومٌ من المُسْلِمِين بقُوا بمكَّة ، عَجَزُوا عن الهِجْرَة إلى المَدِينَةِ ، وكانوا يَلْقُون من كُفَّار مكَّة أذى شَديداً .
قال ابن عبَّاس : كنت أنَا وأمِّي من المُستضعَفِين من النِّسَاء والولدان{[8818]} ، وكانُوا يدعُون ويقولُون في دُعائِهِم : " ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها " وكانوا يُشْرِكُون معهم صِغَارَهمُ في الدُّعَاء ؛ لأن الصِّغَار لم يُذْنِبُوا ؛ كما وَرَدَت السُّنَّة في إخْرَاجِهِم في الاسْتِسْقَاءِ ، إنما ذكر الولدان ؛ مُبَالَغةً في شَرْحِ ظُلْمِهِم . حيث بَلَغَ أذاهُم غير المُكَلَّفِين ، وأجْمَعُوا على أنَّ المراد من هذه القرية الظَّالِمِ أهلها [ مكة ]{[8819]} وكون أهْلِهَا موصُوفِين بالظُّلْمِ : يُحْتَمل أن يكُون لأجْل لأنَّهُم مُشْرِكُون ؛ قال - تعالى - : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
[ لقمان : 13 ] ويحتمل أن يكون لأجْل أنَّهم كانوا يُؤذُون المُسْلِمين .
قوله : " الظالم أهلها " " الظالم " : صفةُ للقرية ، و " أهلها " : مرفوعٌ به على الفاعلية . و " أل " في " الظالم " موصولةٌ بمعنى التي ، أي : التي ظَلَمَ أهْلُهَا . فالظلمُ جَارٍ على القَرْيَةِ لفظاً ، وهو لِما بَعْدَها معنى ، ومثلهُ : " مررْتُ برجلٍ حَسَنٍ غلامُه " .
قال الزمخشري{[8820]} : فإن قلت : لِمَ ذكَّر " الظالم " وموصُوفُه مؤنث ؟ قلت : هو وصْفٌ للقرْية إلا أنَّه مستَنِدٌ إلى أهْلِها ، فأعْطِي إعْرَاب " القرية " لأنها صفتها ، وذُكِّر لإسناده إلى الأهْل ؛ كما تقول : من هذه القرية التي ظلم أهلُها ، ولو أنِّثَ فقيل : " الظَّالمةُ أهْلُها " لجَاز ، لا لتأنيث الموصُوف ؛ بل لأنَّ الأهلَ يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ .
فإن قلت : هل يجُوزُ : مِنْ هذه القريةِ الظَّالِمين أهْلُها ؟ .
قلت : نَعَمْ ، كما تقُول : " التي ظلموا أهلها " على لغة : " أكلوني البراغيث " ومنه : { وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] انتهى .
وهذه قاعدةٌ كُلية : أنَّ الصِّفة إذا جَرَتْ على غيرِ مَنْ هِيَ له سواءً كَانَتْ خبراً ، أم نعتاً ، أم حالاً يُنْعَتُ ما قَبْلَها في اثنين من خَمْسَة : واحدٍ من ألْقَابِ الإعْراب ، وواحدٍ من التَّنْكير والتَّعْرِيف ، وأمَّا بالنِّسْبَةِ إلى التَّذْكير ، والتَّأنيث ، والإفراد ، وضدَّيه فَيُحْسَبُ المرفُوعُ بها كالفِعْلِ ، وقد تقدَّم تحقيقُه ، ويجبُ أيضاً إبرازُ الضَّمير منها مُطْلَقاً - أعني : سواءً ألْبس أم لم يُلْبِس - وأمَّا إذا كان المَرْفُوعُ بها اسْماً ظَاهِراً ، فلا حاجة إلى رفعها الضَّمِيرَ ، إلا أنه لا بُدَّ من رَاجِع يرْجع إلى الاسْمِ الموْصُوف بها لَفْظاً كهذه الآية ، وهذا بِخِلافِ الفِعْلِ إذا وُصِف به ، أو أُخْبِر به ، أو وَقَعَ حالاً لِشَيْء لفظاً وهو لغيره مَعْنىً ، فإن الضَّمِيرَ لا يُبْرَزُ منه بل يَسْتَتِرُ ، نحو : " زيدٌ هِنْدٌ يَضْرِبُها " و " هند زيدٌ تَضْرِبُه " من غيرِ ضميرٍ بارزٍ ، لقوة الفِعْل وضَعْفِ الاسم في العَمَلِ ، وسواءً لم يُلْبِس - كما تقدَّم تَمْثِيله - أو ألْبَسَ ، نحو : " زيدٌ عَمْرو يضربه " إذا قصدْتَ أن زيداً هو الضَّارِبُ لِعمْرو ، هذا مُقْتَضَى مذهب البصْريِّين ، نصَّ عليه مَكي{[8821]} وغيره ، إلا أنَّه قال قبل ذَلِكَ : " إلا أنَّ اسْمَ الفَاعِل إذا كان خَبَراً أو صِفَةً لغير مَنْ هو له ، لم يَسْتَتِرْ فيه ضَمِيرٌ ، ولا بد من إظْهَارِهِ ، وكذلك إنْ عُطِف على غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ " .
قال شهاب الدين : هذه الزِّيادةُ لمْ يذكُرْها النَّحْويُّون وتمثيلُها عَسِرٌ ، وأمَّا ابنُ مالِكٍ : فإنه سَوَّى بين الفِعْل والوَصْف ، يعني : إنْ ألْبس ، وجَب الإبْرازُ حتى في الفِعْل ، نحو : زيدٌ عَمْرٌو يَضْرِبُه هو " وإن لم يُلْبس جَاز ، نحو : " زَيْد هِنْدٌ يضْرِبُها " وهذا مقتضى مذهَبِ الكوفيين ؛ فإنهم عَلَّلوا باللبس ، وفي الجُمْلَة ففي المَسْألة خِلافٌ .
قوله : { وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } قال ابن عبَّاسٍ : يريدون : اجعل علينا رجُلاً من المُؤمنين يُوَالِينا ، ويقوم بِمَصالِحِنا ، ويحفظ عَلَيْنَا دِيننا وشرْعَنا ؛ فأجَابَ اللَّهُ دعاءَهُم ؛ لأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، لما فَتَح مكَّة ، جعل عتَّاب بن أسَيْد وَالِياً عليهم ، فكان يُنْصِف الضَّعيفَ من القويِّ ، والمَظْلوم مِنَ الظَّالِم{[8822]} .
وقيل : المُرَاد : واجْعَل لَنَا من لدُنْك ولاية ونُصْرَة ، أي : كُنْ أنْتَ لنا ولِيّاً .