أحدهما : قال أبو البقاء{[8893]} : إنها شَرْطِيةٌ : وضَعَّف أن تكونَ مَوْصُولةً قال : " ولا يَحْسُن أن تكُونَ بِمَعْنَى الذي ؛ لأنَّ ذلك يَقْتَضِي أن يكون المُصِيبُ لهم مَاضِياً مخصَّصاً ، والمعنى على العُمُومِ والشَّرْطيةُ أشْبَهُ ، والمرادُ بالآيةَ : الخِصْب والجَدْب ، ولذلك لم يَقُلْ :ما أصَبْت " . انتهى ، يَعْنِي أنَّ بَعْضَهم يَقُول : إنَّ المرادَ بالحَسَنة الطَّاعةُ ، وبالسَّيِّئةِ المَعْصِيَةُ ، ولو كان هَذَا مُرَاداً ، لقال : " ما أصَبْتُ " ؛ لأنَّه الفَاعِلُ للحَسَنةِ والسَّيِّئة جَمِيعاً ، فلا تُضَاف إليه إلا بِفعْلِهِ لَهُمَا .
والثاني : أنها مَوْصُولةٌ بمعنى الَّذِي ، وإليه ذَهَب{[8894]} مكِّي ، ومَنَع أن تَكُونَ شَرْطيَّة ، قال : " وليسَتْ للشرطِ ؛ لأنَّها نزلت في شَيْءٍ بِعَيْنِه ، وهو الجَدْب والخِصْب ، والشرطُ لا يكون إلا مُبْهَماً ، يجوزُ أنْ يَقَع وألاَّ يقعَ ، وإنَّما دخلت الفَاءُ للإبْهَام الَّذِي في " الَّذِي " مع أن صِلتهِ فِعْلٌ ، فدلَّ على أنَّ الآية لَيْسَت في المَعَاصِي والطَّاعَات كَمَا قال أهْلُ الزَّيْغ ، وأيْضاً فإنَّ اللَّفْظَ " ما أصابَكَ " ، ولم يَقُل : " ما أصَبْتَ " . انتهى .
والأوَّلُ أظهرُ ؛ لأنَّ الشرطيةَ أصْلٌ في الإبْهام كما ذكره أبُو البَقَاء ، والموصولةُ فبالحَمْل عَلَيْها ، وقولُ مكيّ : " لأنها نَزلَتْ في شيء بعينه " هذا يقتضي ألاَّ يُشَبَّه الموصولُ بالشرطِ ؛ لأنه لا يُشَبَّه به حَتَّى يرادَ الإبْهَامُ لا شيءَ بِعَيْنِه ، وإلاَّ فمتى أُريد به شَيْءٌ بعينه ، لم يُشَبَّه بالشَّرْط فلم تَدْخُلِ الفَاءُ في خَبَره ، نَصَّ النَّحْويُّون على ذلك ، وفي المَسْألَةِ خلافٌ : فَعَلَى الأوَّل : " أصابَك " في محلِّ جَزْم بالشَّرْط ، وعلى الثَّاني : لا مَحَلَّ له ؛ لأنه صِلَة .
و " من حسنة " الكلامُ فيه كالكَلامِ في قَوْله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ }
[ البقرة : 106 ] وقد تقدَّم ، والفاءُ في " فمن الله " جَوَابُ الشَّرْط على الأولِ وزائدةٌ على الثَّّاني ، والجارُّ بَعْدَها خبرٌ لمبتدأ مَحْذُوف ، تقديرُه : فَهُو من الله ، والجُمْلَةُ : إمَّا في محلِّ جَزْمٍ أوْ رَفْعٍ على حَسَبِ القَوْلين .
واختلِفَ في كافِ الخِطَابِ : فقيل : المرادُ كلُّ أحدٍ ، وقيل : الرَّسُول والمُرادُ أمتهُ ، وقيل : الفَرِيقُ في قوله : { إِذَا فَرِيقٌ } ، وذلك لأنَّ " فريقاً " اسمُ جَمْعٍ فله لَفْظٌ ومَعْنًى ، فراعَى لفظه فأفْرَدَ ؛ كقوله : [ الطويل ]
تَفَرَّقَ أهْلاَنَا بِبَيْنٍ فَمِنْهُمُ *** فَرِيقٌ أقَامَ واسْتَقَلَّ فَرِيقُ{[8895]}
وقيل في قوله : { فَمِن نَّفْسِكَ } : إنَّ همزَة الاسْتفْهَام مَحْذوفةٌ ، تقديره : أفمِنْ نفسِك ، وهو كَثِيرٌ ؛ كقوله - تعالى - : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا } [ الشعراء : 22 ] وقوله - تعالى - : { بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] . ومنه : [ الطويل ]
رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلدُ لا تُرَعْ *** فَقُلْتُ وأنْكَرْتُ الْوُجُوه هُمُ هُمُ{[8896]}
أفْرَحُ أنْ أرْزَأ الْكِرَامَ وأنْ *** أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبْلاً{[8897]}
تقديره : وأتِلْكَ ، وأهَذا رَبِّي ، وأهمُ هُم ، وأفرحُ ، وهذا لم يُجْزه من النُّحَاةِ إلا الأخفش{[8898]} ، وأمَّا غَيْره فلم يُجِزْهُ إلا قَبْل " أمْ " ؛ كقوله : [ الطويل ]
لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإنْ كُنْتُ دَارِياً *** بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ{[8899]}
وقيل : ثَمَّ قولٌ مقدَّر ، أي : لا يكَادُونَ يَفْقهون حَدِيثاً يَقُولون : ما أصَابَكَ .
وقرأت عائشة{[8900]} : " فَمَنْ نَفْسُكَ " بفتح ميم " من " ورفع السِّين ، على الابتداء والخَبَر ، أيّ شيءٍ نَفْسُك حَتَّى يُنْسب إليها فِعْلٌ ؟ .
قوله : " رسولاً " فيه وَجْهَان :
والثَّاني : أنه مَصْدر مؤكِّدٌ بِمَعْنَى إرسال ، وِمنْ مَجِيء " رَسُول " مَصْدراً قوله : [ الطويل ]
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ *** بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ{[8901]}
أي : بإرسال ، بمعنى رِسَالة . و " للناس " يتعلق ب " أرسلناك " ، واللاَّم للعِلَّة ، وأجاز أبو البقاء{[8902]} أن يكونَ حَالاً من " رسولاً " كأنه جَعَله في الأصْلِ صِفَةً للنَّكِرَة ، فقُدِّم عليها ، وفيه نَظَر .
قال الجُبَّائِيُّ : قد ثَبتَ أنَّ لَفْظَ السَّيِّئَة يقع على البَلِيَّةِ والمِحْنَة ، وتارة يقع على الذَّنْب والمَعْصِيَة ، ثم إنَّه - تعالى - أضَافَ السَّيِّئَة إلى نَفْسِهِ في الآية الأولَى بقوله : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } ، وأضَافَها في هذه الآيَةِ إلى العَبْد بِقَوْله : { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } ولا بُدَّ من التَّوْفِيقِ بين الآيَتَيْنِ ؛ فنقول : لمَّا كانت السَّيِّئَةُ بمعنى البَلاَءِ والشِّدَّة مُضَافَة إلى اللَّه ، وجب أنْ تَكُون السِّيِّئَةُ بمعْنَى المُصِيبَة مُضَاَفة إلى العَبْدِ ؛ ليزُول التَّنَاقُضُ بين هَاتَيْنِ الآيَتَيْن المُتَجَاوِرَتَيْن ، وقد حَمَل المُخَالِفُون{[8903]} أنْفُسَهم على تَغْيِير الآيَةِ ، وقرأوا : " فمن نفسك " فَغَيَّروا القُرْآن{[8904]} ، وسلَكُوا{[8905]} مثل طريقَةِ الرَّافِضَة في ادِّعاءِ التَّغْيير في القُرْآن .
فإن قيل : فَلِمَ فَصَل - تعالى - بَيْن الحَسَنَة والسَّيِّئَة في هَذِه الآيَةِ ؛ فأضاف الحسَنة الَّتِي هي الطَّاعَة إلى نَفْسِه دون السَّيِّئَة ، وكلاهُمَا فعل العَبْد عِنْدَكُم ؟ .
قلنا : إن الحسَنَة وإن كَانَت من فِعْل العَبْد ، فإنَّما وَصَل إلَيْهَا بتسْهِيله وألْطَافِه ، فصَحَّت الإضَافَةُ إلَيْه ، وأمَّا السَّيِّئة ، فَهِي غير مُضَافَةٍ إلى اللَّه - تعالى - بأنَّه [ مَا ]{[8906]} فَعَلَهَا ، ولا أرَادَهَا ، ولا أمَر بِهَا ، ولا رَغَّبَ فيهَا . فلا جَرَم انْقَطَعَتْ هذه النِّسْبَة إلى اللَّه تعَالى من جَمِيعِِ الوُجُوهِ .
قال ابن الخَطِيبِ : والجَوابُ : أن هَذه الآيَةَ دلَّت على أنَّ الإيمَان حَصَل بتَخْلِيق اللَّه - تعالى - : لأن الإيمَان حَسنَةٌ [ والحَسَنَة ]{[8907]} هي الغِبْطَةَ الخَالِيَةُ عن جَمِيعِ جِهَاتِ القُبْحِ ، والإيمان كَذَلِكَ ؛ فوجب أن تكُون حَسَنة ؛ لأنَّهم اتَّفَقُوا على أنَّ قوله { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ } [ فصلت : 33 ] أن المُرادَ به : كلمة الشَهَادة ، وقيل في قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] قيل : هو قَوْل لا إلَه إلاَّ اللَّه ؛ فَثَبت أنَّ الإيمان حَسَنَة ، وإنما قُلْنَا : إن كل حَسَنَةَ من اللَّه ؛ لقوله - تعالى - : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وهذا يفيد العُمُوم في جَميع الحَسَنَاتِ ، وإذا ثَبَت أنَّ الإيمان حَسَنة ، وكُلُّ حسنة من اللَّه ، وجب القَطْع بأنَّ الإيمَان من اللَّه .
فإن قيل : لم لا يجُوز أن يكون المُرَادُ من قوله : " من الله " هو أنَّ اللَّه قدَّرَه عَلَيْه ، وهَدَاه إلى مَعْرِفَة حُسْنهِ ، وإلى مَعْرِفة قُبْحِ ضِدّه الذي هو الكُفر .
قُلْنَا : جميع الشَّرائِطِ مُشْتَرَكَةٌ بالنِّسْبَة إلى الإيمَانِ والكفر{[8908]} عندكم{[8909]} ثمَّ إنَّ العَبْد باخْتِيَار نَفْسِه أوْجد الإيمان ، ولا مَدْخل لِقُدْرة اللَّهِ وإعانَتِه في نَفْس الإيمَانِ ، فكان الإيمَانُ مُنْقَطِعاً عن الله - [ تعالى ]{[8910]} - من كل الوُجُوهِ ، فكذا هَذَا مُنَاقِضاً لقوله : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } ؛ فثبت بدَلاَلة هذه الآية أن الإيمان من اللَّه ، والخُصُوم لا يَقُولُون به ، وأمَّا بيان أنَّ الكُفْر أيْضاً من اللَّهِ فَلوُجُوه :
أحدُهَا : أن كُلَّ من قَالَ : الإيمانُ من اللَّهِ قال الكُفْر من اللَّه ؛ فالقَوْل بأحَدِهِما{[8911]} من اللَّه - تعالى - دُون الآخَرِ - مخالِفٌ لإجْمَاع الأمَّةِ .
وثانيها : أن العَبْد لو قَدَر على تَحْصِيل الكُفْرِ ، فالقُدْرَة الصَّالِحة لإيجَادِ الكُفْر : إمَّا أن تكُون صَالِحة لإيجَادِ الإيمان ، أو لا ، فإن كانت صَالِحَةً لإيجَادِ الإيمانِ ، [ فحينئذٍ ]{[8912]} يَعُود القول في أنَّ إيمان العَبْدِ مِنْهُ ، [ وإن لَمْ تَكُنْ صَالِحةٌ لإيجَادِ الإيمَانِ ، فيكُونُ القَادِر على الشَّيْءِ غير قَادِرٍ على ضِدِّه ، وذلك عندهُم مُحَالٌ ؛ فثبت أنَّهُ لَمْ يَكُنْ الإيمَان مِنْهُ ، وجَب ألاّ يكُونَ الكُفْر مِنْهُ ] .
وثالثها : أنَّه لمَّا يكُن العَبْد مُوجداً للإيمَانِ فبأن لا يكون موجداً للكفر أوْلى ؛ وذلك لأنَّ المُسْتَقِلَّ بإيجَادِ الشَّيْءِ هو الَّذِي يُمْكِنُه تَحْصِيلُ مُرَادِهِ ، ولا نَرَى في الدُّنْيَا عَاقِلاً ، إلاَّ يُريدُ أن يكُون الحَاصِل في قَلْبهِ هو [ الإيمان والمَعْرِفَة والحقّ ، وإن أحداً مِنِ العُقَلاء لا يُرِيدُ أن يكُونَ الحَاصِلُ في قلبه هو ]{[8913]} الجَهْل والضَّلال والاعْتِقاد الخَطَأ ، فإذا كان العَبْد مُوجِداً لأفعالِ نَفْسه ، وهو لا يَقْصِد إلا تَحْصِيل العِلْم الحقِّ المُطابق ، وَجَب ألاَّ يتحصَّل في قَلْبه إلاَّ الحَقَّ ، وإذا كَانَ الإيمانُ الَّذي هو مَقْصُوده ومَطْلُوبه ومُرَادُه ، لم يقع بإيجادِه ، فبأن يكُون الجَهْلُ الَّذِي لم يُرده وما قَصَد تَحْصِيله ، وهو في غَايَة النَّفْرَة{[8914]} [ عَنْهُ ]{[8915]} غير وَاقِع بإيجَادِه أوْلَى ، وأما الجَوَابُ عن احْتجاجه بقوله : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فَمِنْ وَجْهَيْن :
الأوَّل : أنَّه - تعالى - قال حكاية عن إبْراهيم - عليه السلام - :
{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] ، أضاف المرَض إلى نَفْسِهِ ، والشِّفَاء إلى اللَّه - تعالى - ، ولم يَقْدَح ذَلِك في كونه - تعالى - خَالِقاً للمَرَضِ والشِّفَاء ، وإنما فصل بَيْنَهُمَا رِعَايةً للأدَبِ ، فكذا ههنا ؛ فإنه يُقَالُ : يا مُدَبِّر السَمَوات والأرْضِ ؛ ولا يُقالُ : " يا مدبِّر القَمْل والصِّبيان والخَنَافِس . . " فكذا ههنا .
الثاني : قال أكثر المُفَسِّرين في قَوْل إبْراهيم - عليه السلام - : " هذا رَبِّي " إنه ذَكَر هذا اسْتِفْهَاماً على سَبِيل الإنْكَارِ ؛ كما قدمناه فكذا هَهُنَا ؛ كأنَّهُ قِيلَ : الإيمَان الَّذِي وقع على وَفْقِ قَصْدِه ، قد بَيَّنَّا أنَّه ليس وَاقِعاً مِنْهُ ، بل من اللَّه - تعالى - فهذا الكُفْر [ ما ]{[8916]} قَصَدَهُ ، وما أرَادَهُ ، وما رَضِي به ألْبَتَّةَ ، فكيف يَدْخُل في العَقْل أن يُقال إنَّه وقع بِهِ .
وأما قِرَاءة : " فمن نفسك " فنَقُول : إن صح أنه قرأ بها أحدٌ من الصَّحَابَة والتَّابِعين ، فلا طعن فيه ، وإن لم يَصِحَّ ذلك ، فالمراد أن من حَمَل الآية على أنَّها وردتْ على سَبِيل الاستفهام على وَجْه الإنْكَارِ ، قال : لأنَّه لما أضاف السيئة إلَيْهم في مَعْرض الاسْتِفَهام على سَبيلِ الإنْكَارِ ، كان المُرادُ أنَّها غير مُضَافةٍ إليهم ، فذكر [ قوله ] : " فمن نفسك " كقولِنا : إنه استِفْهَامٌ على سَبيلِ الإنْكَارِ .
[ فصل ]{[8917]}
قوله : { ما أصابك من حسنة } أي : من خَيْر ونَعْمَةٍ ، { فمن الله وما أصابك من سيئة } أي : بليَّةٍ أو أمر " تكْرَهُهُ " فمن نفسك " أي : بذُنُوبِكَ ، الخِطَاب للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والمُرَاد غيره ، نظيرُه قوله - تعالى - : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] .
قال البَغَوِيُّ{[8918]} : وتعلَّق أهْل القَدَر بِظَاهر هذه الآية ؛ فقالوا{[8919]} : نَفَى اللَّه - عز وجل - السَّيِّئَة عن نَفْسِه ، ونَسَبَهَا إلى العَبْد ؛ فقال : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ولا مُتَعلِّق لهم فيه ؛ لأنَّه ليس المُرادُ من الآيةِ حَسَنات الكَسْبِ ولا سيِّئاتِه ]{[8920]} من الطَّاعَاتِ والمَعَاصِي ، بل المُراد مِنْه : ما يُصيبُهُم من النِّعَم والمِحَنِ ، وذلك ليس من فَعْلِهِم ؛ بدليل أنَّه نَسَبَها{[8921]} إلى غَيْرِهم ولم يَنْسِبْهَا إلَيْهِم ، فقال " ما أصابك " ولا يقال في الطَّاعَة والمَعْصِيَة : أصَابَنِي ، إنَّما يقال : أصَبْتُهَا ، ويُقَال في المِحَن : أصَابَنِي ؛ بدليل أنه لَمْ يَذْكُر عليه ثَوَاباً ولا عِقَاباً ؛ فهو كقوله - تعالى - : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ولما ذكر حَسَنَات الكَسْب وسيِّئَاته نسبها إلَيْه ، ووعد عليها الثَّوَابَ والعِقَاب ؛ فقال
{ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا }
وقيل : مَعْنى الآية : { ما أصابك من حسنة } : من النَّصْر والظَّفَرِ يوم بَدْرٍ ، " فمن الله " أي : من فَضْلِ اللَّه ، و { ما أصابك من سيئة } : من القَتْلِ والهَزِيمَةِ يوم أحُدٌ ، " فمن نفسك " أي : يعني : فبذنوب أصْحَابِك وهو مُخَالفتهم لَكَ .
فإن قيل : كَيْف وَجْه الجَمْع بين قوله : { قل كل من عند الله } [ وبين قوله : " فمن نفسك " .
قيل : قوله : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } ] {[8922]} [ النساء :78 ] أي : الخِصْب والجَدْب ، والنَّصْر والهَزِيمَة كلُّها من عِنْد الله ، وقوله " فمن نفسك " أي : ما أصابك من سيئة فمن الله بذنب نفسك ؛ عقوبة لك كما قال : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }
[ الشورى : 30 ] ؛ يدل عليه مَا روى مُجَاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ ؛ أنه{[8923]} قرأ : " وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك " .
ثم قال [ - تعالى - ]{[8924]} : { وأرسلناك للناس رسولاً } .
والثاني : أنه مصدر مؤكِّدٌ بمعنى إرسال ، ومن مجيء " رسول " مصدراً قوله : [ الطويل ]
1842 أ- لَقَدْ كَذبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ *** بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهمْ بِرَسُولِ{[8925]}
أي بإرسال ، بمعنى رسالة . و " للناس " يتعلق ب " أرسلناك " ، واللام للعلة . وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من " رسولاً " كأنه جعله في الأصل صفةً للنكرةَ فَقُدِّم عليها ، وفيه نظر .
وهذا يدلُّ على أن المُرَاد من هَذِه الآيات إسناد{[8926]} جميع الأمُور إلى اللَّه - تعالى - ؛ لأنَّ المَعْنَى : ليس لك إلاَّ الرِّسَالة والتَّبْلِيغ ، وقد فَعَلْت وما قصَّرت ، { وكفى بالله شهيداً } على جِدِّك وعَدَم تَقْصِيرك في أدَاء الرِّسَالة وتَبْليغ الوَحْي ، فأمَّا حُصُول الهِدَايَة فليس إلَيْك ، بَلْ إلى اللَّه ؛ ونظيره قوله - تعالى - : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، وقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] .
وقيل المَعْنَى : وكفى باللَّه شهيداً على إرْسالِك وصدْقَِك ، وقيل : وكَفَى بالله شهيداً على أنَّ الحسنة والسَّيِّئة كُلَّها من اللَّه .