اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِيٓ أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ لِّنُذِيقَهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَخۡزَىٰۖ وَهُمۡ لَا يُنصَرُونَ} (16)

قوله : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } الصَّرصرُ : الريح الشديدة ، فقيل : هي الباردة من الصَّرِّ وهو البرد{[48665]} ، وقيل : هي الشديدة السُّمُوم{[48666]} ، وقيل : هي المُصوِّتةُ{[48667]} من صرَّ البابُ أي سُمِعَ صريرُهُ . والصَّرَّةٌ : الصَّيحة ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] قال ابن قتيبة «صَرْصَرٌ » يجوز أن يكون الصَّرِّ وهو البرد ، وأن يكون من صرَّ البابُ ، وأن يكون من الصََّرَّة ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ }{[48668]} [ الذاريات : 29 ] .

قوال الراغب : صَرْصرٌ لفظه من الصّر وذلك يرجع إلى الشد لما في البرودة من التعقيد{[48669]} .

قوله : { في أيَّام نحساتٍ } قرأ الكوفيون وابنُ عامر بكسر الحاء والباقون بسكونها{[48670]} .

فأما الكسر فهو صفة على «فَعِلٍ » وفعلُهُ : «فَعِلَ » بكسر العين أيضاً كفِعْلِهِ{[48671]} ؛ يقال : نَحِسَ فهو نَحِسٌ ، كَفَرِحَ ، فهُو فَرِحٌ ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ ، ومعناه نكدات مَشْئُوماتٌ ذاتُ نُحُوسٍ{[48672]} .

وأمال اللَّيثُ{[48673]} من الكسائيِّ ألفه لأجل الكسرة{[48674]} ، ولكنه غير مشهور عنه حتى نسبه الدَّانيُّ للوهم وأما قراءة الإسكان فتحتمل ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أن يكون مخفف من «فَعِل » في القراءة المتقدمة وفيه توافق القراءتين .

الثاني : أنه مصدر وصف به كرجُلٍ عَدْلٍ{[48675]} ، إلا أنَّ هذا يضعفه الجمعُ ، فإن الفصيحَ في المصدر الموصوف ( به ){[48676]} أن يوحَّد وكأنَّ المُسوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعه في الأصل .

الثالث : أنه صفة مستقلة على «فَعْل » بسكون العين ولكن أهل التصريف لم يذكروا في الصفة الجائية من «فَعِل » بكسر العين إلا أوزاناً محصورة ليس فيه «فَعْل » بالسكون فذكروا : فَرِحَ فهو فَرِحٌ وحور فهو أحْوَرُ ، وشَبع فهو شَبْعَانُ ، وسَلِمَ فهو سَالِمٌ ، وبلي فَهُو بالٍ{[48677]} . وفي معنى «نحسات » قولان :

أحدهما : أنها من الشّؤم ، قال السدي أي مشائيم من النحس المعروف .

والثاني : أنها من شدة البرد{[48678]} وأنشدوا على الأول قولَ الشاعر :

4360 يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْماً نَحْسَا{[48679]} *** نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ وَنَجْماً نَحْسَا{[48680]}

وعلى المعنى الثاني :

4361 كَأَنَّ سُلاَفَةً عُرِضَتْ لِنَحْسٍ *** يُحِيلُ شَفِيفُهَا المَاءَ الزًُّلاَلاَ{[48681]}

ومنه :

4362 قَدْ أَغْتَدِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ *** للصَّيْدِ فِي يَوْمِ قَلِيلِ النَّحْسِ{[48682]}

وقيل : يريدُ به في هذا البيت الغبار ، أي قليل الغبار . وقد قيل بذلك في الآية إنها ذات غبار . و«نَحِسَات » نعت لأيَّام ، والجمع بالألف والتاء مُطَّرِدٌ في صفة ما لا يعقل كأيَّام معدوداتٍ{[48683]} كما تقدم تحقيقه في البقرة ( اللَّهُمَّ يَسِّرْ ){[48684]} .

فصل

الصَّرْصَر : العاصفة التي تُصَرْصِرُ في هُبُوبِهَا . روي عن عبد الله بن عَبَّاسٍ{[48685]} رضي الله عنهما أنه قال : الرِّياح ثمانٍ ، أربعٌ منها عذاب وهي العاصف ، والصرصر ، والعقيم ، والعاصفة ، وأربع منها رحمة ، وهي : الناشرات ، والمُبَشِّرات ، والمُرْسَلاَت ، والذَّاريات . وعن ابن عباس{[48686]} رضي الله عنهما : أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خَاتَمِي . وقال الضحاك : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، وتوالت الرياح عليهم من غير مَطَرٍ{[48687]} .

فصل

استدلَّ الأَحكَامِيُّون من المُنَجِّمِينَ بهذه الآية على أن بعض الأيام يكون نحساً وبعضها سعداً وأجاب المتكلمون بأن المراد بهذه النحسات أي ذات غبار وتراب ثائر ، لا يكاد يُبْصَرُ فيه ولا يُتَصَرَّف فيه ، وقالوا أيضاً : معنى كون هذه الأيام نَحِسَاتٍ أن الله أهلكهم فيها . وأجاب الأحكاميون بأن الأحكام{[48688]} في وضع اللغة هي المشئومات لأن النحس مقابلة السعد ، والهواء الكدر يقابله{[48689]} الصافي . وأيضاً فإنه تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات ، فوجب أن{[48690]} كون تلك الأيام نَحِسَةً مغايراً لذلك العذاب الذي وقع فيها .

قوله : { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا } أي عذاب الهوان والذل مقابل لذلك الاستكبار { وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى } أسد إهانة { وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } أي لا يكون لهم ناصر يدفع عنهم ذلك الخزي{[48691]} .


[48665]:نقله القرطبي عن عكرمة وسعيد بن جبير.
[48666]:نقله أيضا عن مجاهد وانظر القرطبي 5/349 والبحر 7/490.
[48667]:هذا قول أبي عبيدة في المجاز 2/197.
[48668]:لم أجد هذا بعينه لابن قتيبة في الغريب أو تأويل المشكل ومما وجدته عنه أنه فسر الصر بالبرد والصرة بالصيحة وهنا الصرصر بالشديدة وانظر غريب القرآن لابن قتيبة 109 و421 و388، وانظر أيضا اللسان صرر، ومعاني القرآن للزجاج 4/382.
[48669]:مفردات القرآن 279.
[48670]:من القراءة المتواترة وذكرها ابن مجاهد في السبعة 576، وابن الجزري في النشر 2/366 وتقريبه 170.
[48671]:كذا في أ وفي ب كفعلة بتاء التأنيث، وكلاهما خطأ والمقصود كاسمه أو وصفه.
[48672]:قاله الإمام البغوي في معالم التنزيل 6/108.
[48673]:هو الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي، ثقة، معروف حاذق ضابط، عرض على الكسائي، وهو من جملة أصحابه، وروى الحروف عن حمزة بن القاسم الأحول، وعن اليزيدي وروى القراءة عنه عرضا وسماعا سلمة بن عاصم صاحب الفراء وغيره، انظر غاية النهاية 2/34.
[48674]:في ب للكسر بالتذكير وانظر إبراز المعاني 674.
[48675]:في الكشاف: قرئ بكسر الحاء وسكونها ونحس نحسا نقيض سعد سعدا، وهو نحس وأما نحس فهو مخفف نحس أو صفة على فعل كضخم وشبهه الكشاف 3/449، الدر المصون 4/726.
[48676]:زيادة لابد منها حتى يتأتى المعنى المؤدي إليه.
[48677]:انظر في هذا الدر المصون لشهاب الدين السمين 4/726 و727 وبالمعنى من كلام البحر المحيط لأبي حيان 7/490 قال: وتتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم، فلم يذكروا فيه "فعلا" بسكون العين قالوا يأتي على أفعل كحور فهو أحور، وعلى فعلان كشبع فهو شبعان، وقد يجيء على فاعل كسلم فهو سالم وبلي فهو بال.
[48678]:انظر البحر المحيط 7/491 والبغوي 6/108، والقرطبي 15/348.
[48679]:الأصح شمسا وهذه الراوية التي نراها أعلى رواية أ.
[48680]:من الرجز ولم أعرف قائله، ويروى عجزه: نجمين بالسعد ونجما نحسا وهو في التفاؤل والتشاؤم بالنجوم على العادة العربية القديمة. والشاهد: استعمال النحس ضد السعد صفة على فعل بإسكان العين. وانظر المذكر والمؤنث لابن الأنباري 301 والدر المصون 4/737 ومعاني الفراء 2/73.
[48681]:من الوافر لابن الأحمر، ويحيل: يصب الماء في الحلق، وهو يصف خمرا بأنها تعرضت لبرد. والشاهد باستعمال نحس بمعنى البرد الشديد، وانظر اللسان "نحس" 4367، والبحر المحيط 7/491، والدر المصون 4/727 والطبري 24/67.
[48682]:شاهده في النحس ، والدر المصون ا/لذي هو بمعنى الغبار، وهو من الرجز مجهول قائله، انظر البحر المحيط 7/491 والنوادر لأبي زيد 345، والدر المصون 4/727 ولسان العرب "نحس" 4367.
[48683]:من البقرة 203 وانظر اللباب ميكروفيلم.
[48684]:زيادة من أ الأصل.
[48685]:روى الرازي أنه حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لابن عباس.
[48686]:الرازي 27/112.
[48687]:معالم التنزيل للبغوي 6/108.
[48688]:الأصح كما في ب والرازي النحسات لا الأحكام.
[48689]:في ب مقابلة.
[48690]:في الرازي فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايرا لذلك العذاب..الخ وانظر الرازي المرجع السابق.
[48691]:قاله الرازي بتغيير طفيف في العبارة في تفسيره 27/113.