اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ فَأَخَذَتۡهُمۡ صَٰعِقَةُ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (17)

قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ } الجمهور على رفعه ، ممنوع الصرف . والأعمش وابن وثَّاب مصروفاً{[48692]} ، وكذلك كل ما في القرآن{[48693]} إلا قوله : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة } [ الإسراء : 59 ] ، قالوا لأن الرسم ثمود بغير ألف . وقرأ ابن عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ ثموداً منصوباً مصروفاً{[48694]} . والحسنُ وابن هرمزٍ وعاصم أيضاً منصوباً غير منصرف{[48695]} .

فأما الصرف وعدمه فقد تقدم توجيههما في «هُودٍ »{[48696]} . وأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر ، وهو متعيّن عند الجمهور{[48697]} لأن «أَمَّا » لا يليها إلا المبتدأ ، فلا يجوز فيما بعدها الاشتغال إلا في قليل كهذه القراءة{[48698]} ، وإذا قدرت الفعل الناصب فقدِّره بعد الاسم المنصوب أي وأما هديناهم فهديناهم . قالو : لأنها لا يليها الأفعال{[48699]} .

فصل

قال الزمخشري : وقرئ : بضم الثَّاء{[48700]} . قال مجاهد : هديناهم : دعوناهم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما بيَّنَّا لهم سبيل الهدى ، وقيل : دللناهم على طريق الخير والشر ، كقوله { هَدَيْنَاهُ السبيل } [ الإنسان : 3 ] { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } أي فاختاروا الكفر على الإيمان .

وذكر الزمخشري في تفسير الهدى قوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] : أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية{[48701]} ، وهذه الآية تبطل قوله لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل{[48702]} . ( انتهى ){[48703]} .

فصل

قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أن الله تعالى ينصب الدلائل ويزيح الأعذار إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد ، لأن قوله تعالى : «فَهَديْنَاهُمْ » يدل على أنه تعالى نصب لهم الدلائل ، وقوله { فاستحبوا العمى على الهدى } يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى ، وهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد .

والجواب من وجهين :

الأول : أنه إنما صدر عنهم ذلك العمى لأنهم أحبوا تحصيله ، فلما وقع في قلوبهم هذه المحبة دون محبة صده ، فِإن حصل هذا الترجيح لا لمرجِّح فهو باطل وإن كان لمرجِّح فإن كان المرجِّح هو العبد عاد الطلب ، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب .

الثاني : أنه تعالى قال : { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه{[48704]} عمًى وجهلاً بل ما يظنُّ{[48705]} في ذلك العمى والجهل بكونه تبصرةً وعلماً مما يرغب فيه فإقدامه على اختياره{[48706]} على ذلك الجهل الثاني إن كان باختياره لزم التسلسل وهو محال ، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب{[48707]} .

قوله : { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وصاعقة العذاب أي المهلكة والعذاب الهون أي ذي الهون ، أي الهوان وهو الذي يهينهم { بما كانوا يكسبون } من شركهم وتكذيبهم صالحاً .


[48692]:من القراءات الأربع فوق العشر المتواترة ذكرها صاحب الإتحاف 380 وانظر أيضا معاني القرآن للفراء 3/14، ومختصر ابن خالويه 133، والبحر المحيط 7/491، والكشاف 3/449 وبدون نسبة الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/383 وهي من الشواذ.
[48693]:من لفظ ثمود.
[48694]:لم تعز في الكشاف 3/449 ونسبها أبو حيان في البحر 7/491 إلى عاصم وما هو أعلى موافق لما في الدر المصون 4/828.
[48695]:ذكرها في الشواذ ابن خالويه في المختصر 133 بالإضافة إلى الكشاف المرجع السابق ولم أجدها في المتواتر عن عاصم.
[48696]:عند الآية 68 منها: {ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود} وكذلك الآيات 61 و95 منها أيضا ومفاد ما ذكر: أن هود لا يجوز صرفه لأنه مطلق على قبيلة فيكون ممنوعا للعلمية والتأنيث، ويجوز أن يصرف لأنه على ثلاثة أحرف علم أعجمي أوسطه ساكن كنوح.
[48697]:قال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/383: والاختيار رفع ثمود على الابتداء والخبر، وهذا مذهب جميع النحويين اختيار الرفع، وكلهم يجيز النصب وقال الزمخشري في الكشاف 3/449: "والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء" بينما قال سيبويه في الكتاب: "لأن أما وإذا من حروف الابتداء، يصرفان الكلام إلى الابتداء" الكتاب 1/95. ففهم من كلام سيبويه تعيين رفع ما بعد "أما" بخلاف قولي الزجاج والزمخشري السابقين.
[48698]:وهو الموافق أيضا لما في الكتاب قال: إلا أن يوقع بعدها فعل، نحو: "أما زيدا فضربت" الكتاب المرجع السابق، وكهذه الآية التي معنا.
[48699]:انظر هذا بتفصيل في المغني 58 قال: ويجب تقدير العامل بعد الفاء وقبل ما دخلت عليه لأن "أما" نائبة عن الفعل، فكأنها فعل، والفعل لا يلي الفعل.
[48700]:الكشاف 3/449.
[48701]:الكشاف 1/116.
[48702]:الرازي 27/113.
[48703]:زيادة من ب.
[48704]:كذا في الرازي وفي النسختين: لكونه باللام.
[48705]:في الرازي ما لم يظن.
[48706]:في الرازي: فإقدامه على اختيار ذلك الجهل.
[48707]:انظر الرازي 27/113 و114.