اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ نَٰدِمِينَ} (52)

قوله تعالى : { فَتَرَى الَّذِينَ } : الجمهورُ على " تَرَى " بتاء الخطاب ، و " الذين " مفعُول ، فإن كانت الرُّؤيَة بَصَرِيَّةً أو عرفانية - فيما نقله أبُو البقاء{[12017]} وفيه نظر - فتكون الجُمْلَة من " يُسَارِعُون " في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصُول ، وإن كانت قَلْبِيَّةً ، فيكون " يُسَارِعُون " مفعولاً ثانياً .

وقرأ{[12018]} النَّخْعِي ، وابن وثَّاب " فَيَرَى " باليَاء وفيها تَأويلان :

أظهرهما : أنَّ الفاعِل ضمير يَعُود على الله تعالى ، وقيل : على الرَّأي من حيث هُو : و " يُسَارِعون " بحالتها .

والثاني : أن الفاعل نفس الموصُول ، والمفعول هو الجملة من قوله : " يسارعون " ، وذلك على تأويل حذْفِ " أنْ " المصدريَّة ، والتقدير : ويرى القوم الذين في قُلُوبهم مَرَضٌ أن يُسَارِعُوا ، فلما حُذِفَتْ : " أنْ " رُفِعَ الفِعْلُ ؛ كقوله : [ الطويل ]

ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى *** . . . {[12019]}

فصل

أجاز ابْنُ عطيَّة{[12020]} حذف " أن " المصدريّة ، إلا أنَّ هذا غير مَقِيسٍ ؛ إذ لا تُحْذَفُ " أن " عند البصريين إلا في مواضع مُحفُوظة .

وقرأ{[12021]} قتادةُ والأعْمش : " يُسْرِعُونَ " من أسْرَعَ . و " يَقُولُون " في محل نَصْب [ على الحالِ من فاعل " يُسَارِعُون " ، و " نَخْشَى " في محل نَصْبٍ بالقَوْل ، و " أنْ تُصِيبنَا " في محلِّ نَصْبٍ ]{[12022]} بالمفعُول أي : " نَخْشَى إصابَتَنَا " ، والدَّائرة صفة غَالِبة لا يذكر موصُوفها ، والأصل : دَاوِرَة ؛ لأنَّها من دار يَدُور .

قال الواحدي{[12023]} : الدَّائرة من دَوَائِر الزَّمن ، كالدَّولة والدَّوَائِل تَدُولُ قال الشاعر : [ الرجز ]

يَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا *** أوْ دَائِرَاتِ الدَّهْرِ أنْ تَدُورَا{[12024]}

يعني بدور الدَّهر : هو الدَّائِرة من قَوْم إلى قَوْم .

فصل

المُرَاد بقوله تعالى { الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم المُنَافِقُون يعني : عبد الله بن أبَيّ وأصحابه - لعنهم الله{[12025]} - " يُسَارِعُون [ فيهم " أي : في ]{[12026]} مودَّة اليَهُود ونَصَارى نَجْران ؛ لأنَّهم كانوا أهل ثرْوَة ، وكانوا يُعِينُونَهُم على مُهِمَّاتِهِم ، ويُقْرِضُونَهُم .

ويقول المَنَافِقُون : إنَّما نُخَالِطُهم لأنّا نَخْشَى أن تُصِيبنَا دَائِرَةٌ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والزَّجَّاج{[12027]} : أي : نَخْشَى ألا يَتِمَّ الأمْرُ - لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، فيدُور الأمْر كما كان قبل ذلك . وقيل : نَخْشَى أن يدُور الدَّهْر علينا بِمَكْرُوه من جَدْب أو قَحْط ، فلا يُعْطُون المِيَرة والقَرْض .

قوله : { فَعَسَى اللَّهُ أن يَأتِيَ بِالفتْحِ } ، " أن يَأتِي " في محلِّ نَصْبٍ إمَّا [ على ]{[12028]} الخبر ل " عسى " ، وهو رأي الأخْفَش ، وإمَّا على أنَّهُ مَفْعُول به ، وهو رأيُ سيبوَيْه لئلاَّ يلزم الإخْبَار عن الجُثَّةِ بالحدَثِ في قولك : " عَسَى زَيْدٌ أن يَقُوم " .

وأجاز أبو البقاء أن يكون " أنْ يأتِي " في محلِّ رفعٍ على البَدَلِ من اسْمِ " عسى " ، وفيه نظر .

فصل

قال المُفَسِّرُون{[12029]} - رحمهم الله - : عسى من اللَّه واجِب ؛ لأنَّ الكَرِيم إذا طَمِعَ في خَيْر فعله ، وهو بِمَنْزِلَةِ الوَعْدِ ؛ لتعلُّق النَّفْسِ به ورَجَائِها له ، قال قتادةُ ومُقَاتِل{[12030]} : فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي بالقَضَاء الفَصْل من نَصْر مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على من خَالَفَهُ .

وقال الكَلْبِي والسُّدِّيُّ : فتح " مَكَّةَ " {[12031]} ، وقال الضَّحَّاك : فتح قُرَى اليَهُود مثل خَيْبَر وفدك{[12032]} .

{ أوْ أمْر مِنْ عِنْدِه } .

قال السُّدِّي : هي الجِزْيَة{[12033]} ، وقال الحَسَن : إظْهَار أمر المُنَافِقِين والأحبار بأسْمَائهم والأمر بِقَتْلِهِم{[12034]} ، وقيل : الخَصْبُ والسَّعَة للمُسْلِمِين ، وقيل : إتْمَام أمْر محمَّد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وقيل : { هذا عذابٌ أليم } .

وقيل : إجْلاء بَنِي النَّضِير ، " فَيُصْبِحُوا " أي : هؤلاء المُنَافِقِين { عَلى مَا أَسَرُّوا في أنْفُسِهِم } مِنْ مُوالاة اليَهُود ودسِّ الأخْبَار إليْهم " نَادِمِين " وذلك لأنهم كانوا يشكُّون في أمْرِ رسُول اللَّه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، ويقولون : الظَّاهِر أنَّهم لا يتمُّ لهم أمْر ، وأن الدولة والغلبَة تصير لأعْدَائه .

قوله تعالى : " فَيُصْبِحُوا " فيه وجهان :

أظهرهما : أنَّه منصوب عَطْفاً على " يأتي " المَنْصُوب ب " أنْ " ، والذي يُسَوِّغُ ذلك وُجُود " الفَاء " السَّبَبِيَّة ، ولولاَهَا لم يَجُزْ ذلك ؛ لأن المعطُوف{[12035]} على الخبر خبر ، و " أنْ يَأتِي " خبر " عَسَى " ، وفيه راجعٌ عائِدٌ على اسْمِهَا .

وقوله : " فَيُصْبِحُوا " ليس فيه ضَمِيرٌ يَعُود على اسْمِهَا ، فكان من حَقِّ المسألة الامْتِنَاع ، لكن " الفَاء " للسببِيَّة ، فجعلت الجُمْلَتَيْن كالجملة الواحِدة ، وذلك جَارٍ في الصِّلة نحو : " الذي يطير فيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبابُ " .

والصِّفة نحو : " مررت بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرو " ، والخبر نحو : " زيدٌ يبكي فيضحَكُ خالد " ، ولو كان العَاطِفُ غير " الفَاء " لم يجُزْ ذلك .

والثاني : أنه منْصُوب بإضْمَار " أنْ " بعد الفَاءِ في جواب التَّمَنِّي قالوا : " لأن " عَسَى " تَمَنٍّ وتَرَجٍّ في حَقّ البَشَر " .

{ على ما أسَرُّوا } متعلِّق ب " نَادِمِين " ، و " نَادِمِين " خَبر " أصْبَح " .


[12017]:ينظر: الإملاء 1/218.
[12018]:ينظر: المحرر الوجيز 2/104، والبحر المحيط 3/520، والدر المصون 2/543، والشواذ (39).
[12019]:تقدم.
[12020]:ينظر: المحرر الوجيز 2/204.
[12021]:ينظر: البحر المحيط 3/520، والدر المصون 2/453.
[12022]:سقط في أ.
[12023]:ينظر: تفسير الرازي 12/15.
[12024]:ينظر: القرطبي 6/141، والمحرر الوجيز 2/205.
[12025]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/618) عن عطية وذكره السيوطي في "الدر"(2/516) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.
[12026]:سقط في أ.
[12027]:ينظر: تفسير البغوي 2/24.
[12028]:سقط في أ.
[12029]:ينظر: تفسير الرازي 12/16.
[12030]:أخرجه الطبري (2/620) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر"(2/517) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن قتادة.
[12031]:أخرجه الطبري (2/620) عن السدي.
[12032]:انظر تفسير الرازي (12/16).
[12033]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/620) وذكره السيوطي في "الدر"(2/516) عن السدي وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وينظر: تفسير القرطبي 6/141.
[12034]:ينظر: القرطبي 6/141.
[12035]:في أ: العطف.