قوله تعالى : { فَتَرَى الَّذِينَ } : الجمهورُ على " تَرَى " بتاء الخطاب ، و " الذين " مفعُول ، فإن كانت الرُّؤيَة بَصَرِيَّةً أو عرفانية - فيما نقله أبُو البقاء{[12017]} وفيه نظر - فتكون الجُمْلَة من " يُسَارِعُون " في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصُول ، وإن كانت قَلْبِيَّةً ، فيكون " يُسَارِعُون " مفعولاً ثانياً .
وقرأ{[12018]} النَّخْعِي ، وابن وثَّاب " فَيَرَى " باليَاء وفيها تَأويلان :
أظهرهما : أنَّ الفاعِل ضمير يَعُود على الله تعالى ، وقيل : على الرَّأي من حيث هُو : و " يُسَارِعون " بحالتها .
والثاني : أن الفاعل نفس الموصُول ، والمفعول هو الجملة من قوله : " يسارعون " ، وذلك على تأويل حذْفِ " أنْ " المصدريَّة ، والتقدير : ويرى القوم الذين في قُلُوبهم مَرَضٌ أن يُسَارِعُوا ، فلما حُذِفَتْ : " أنْ " رُفِعَ الفِعْلُ ؛ كقوله : [ الطويل ]
ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى *** . . . {[12019]}
أجاز ابْنُ عطيَّة{[12020]} حذف " أن " المصدريّة ، إلا أنَّ هذا غير مَقِيسٍ ؛ إذ لا تُحْذَفُ " أن " عند البصريين إلا في مواضع مُحفُوظة .
وقرأ{[12021]} قتادةُ والأعْمش : " يُسْرِعُونَ " من أسْرَعَ . و " يَقُولُون " في محل نَصْب [ على الحالِ من فاعل " يُسَارِعُون " ، و " نَخْشَى " في محل نَصْبٍ بالقَوْل ، و " أنْ تُصِيبنَا " في محلِّ نَصْبٍ ]{[12022]} بالمفعُول أي : " نَخْشَى إصابَتَنَا " ، والدَّائرة صفة غَالِبة لا يذكر موصُوفها ، والأصل : دَاوِرَة ؛ لأنَّها من دار يَدُور .
قال الواحدي{[12023]} : الدَّائرة من دَوَائِر الزَّمن ، كالدَّولة والدَّوَائِل تَدُولُ قال الشاعر : [ الرجز ]
يَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا *** أوْ دَائِرَاتِ الدَّهْرِ أنْ تَدُورَا{[12024]}
يعني بدور الدَّهر : هو الدَّائِرة من قَوْم إلى قَوْم .
المُرَاد بقوله تعالى { الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم المُنَافِقُون يعني : عبد الله بن أبَيّ وأصحابه - لعنهم الله{[12025]} - " يُسَارِعُون [ فيهم " أي : في ]{[12026]} مودَّة اليَهُود ونَصَارى نَجْران ؛ لأنَّهم كانوا أهل ثرْوَة ، وكانوا يُعِينُونَهُم على مُهِمَّاتِهِم ، ويُقْرِضُونَهُم .
ويقول المَنَافِقُون : إنَّما نُخَالِطُهم لأنّا نَخْشَى أن تُصِيبنَا دَائِرَةٌ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والزَّجَّاج{[12027]} : أي : نَخْشَى ألا يَتِمَّ الأمْرُ - لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، فيدُور الأمْر كما كان قبل ذلك . وقيل : نَخْشَى أن يدُور الدَّهْر علينا بِمَكْرُوه من جَدْب أو قَحْط ، فلا يُعْطُون المِيَرة والقَرْض .
قوله : { فَعَسَى اللَّهُ أن يَأتِيَ بِالفتْحِ } ، " أن يَأتِي " في محلِّ نَصْبٍ إمَّا [ على ]{[12028]} الخبر ل " عسى " ، وهو رأي الأخْفَش ، وإمَّا على أنَّهُ مَفْعُول به ، وهو رأيُ سيبوَيْه لئلاَّ يلزم الإخْبَار عن الجُثَّةِ بالحدَثِ في قولك : " عَسَى زَيْدٌ أن يَقُوم " .
وأجاز أبو البقاء أن يكون " أنْ يأتِي " في محلِّ رفعٍ على البَدَلِ من اسْمِ " عسى " ، وفيه نظر .
قال المُفَسِّرُون{[12029]} - رحمهم الله - : عسى من اللَّه واجِب ؛ لأنَّ الكَرِيم إذا طَمِعَ في خَيْر فعله ، وهو بِمَنْزِلَةِ الوَعْدِ ؛ لتعلُّق النَّفْسِ به ورَجَائِها له ، قال قتادةُ ومُقَاتِل{[12030]} : فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي بالقَضَاء الفَصْل من نَصْر مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على من خَالَفَهُ .
وقال الكَلْبِي والسُّدِّيُّ : فتح " مَكَّةَ " {[12031]} ، وقال الضَّحَّاك : فتح قُرَى اليَهُود مثل خَيْبَر وفدك{[12032]} .
قال السُّدِّي : هي الجِزْيَة{[12033]} ، وقال الحَسَن : إظْهَار أمر المُنَافِقِين والأحبار بأسْمَائهم والأمر بِقَتْلِهِم{[12034]} ، وقيل : الخَصْبُ والسَّعَة للمُسْلِمِين ، وقيل : إتْمَام أمْر محمَّد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وقيل : { هذا عذابٌ أليم } .
وقيل : إجْلاء بَنِي النَّضِير ، " فَيُصْبِحُوا " أي : هؤلاء المُنَافِقِين { عَلى مَا أَسَرُّوا في أنْفُسِهِم } مِنْ مُوالاة اليَهُود ودسِّ الأخْبَار إليْهم " نَادِمِين " وذلك لأنهم كانوا يشكُّون في أمْرِ رسُول اللَّه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، ويقولون : الظَّاهِر أنَّهم لا يتمُّ لهم أمْر ، وأن الدولة والغلبَة تصير لأعْدَائه .
قوله تعالى : " فَيُصْبِحُوا " فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه منصوب عَطْفاً على " يأتي " المَنْصُوب ب " أنْ " ، والذي يُسَوِّغُ ذلك وُجُود " الفَاء " السَّبَبِيَّة ، ولولاَهَا لم يَجُزْ ذلك ؛ لأن المعطُوف{[12035]} على الخبر خبر ، و " أنْ يَأتِي " خبر " عَسَى " ، وفيه راجعٌ عائِدٌ على اسْمِهَا .
وقوله : " فَيُصْبِحُوا " ليس فيه ضَمِيرٌ يَعُود على اسْمِهَا ، فكان من حَقِّ المسألة الامْتِنَاع ، لكن " الفَاء " للسببِيَّة ، فجعلت الجُمْلَتَيْن كالجملة الواحِدة ، وذلك جَارٍ في الصِّلة نحو : " الذي يطير فيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبابُ " .
والصِّفة نحو : " مررت بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرو " ، والخبر نحو : " زيدٌ يبكي فيضحَكُ خالد " ، ولو كان العَاطِفُ غير " الفَاء " لم يجُزْ ذلك .
والثاني : أنه منْصُوب بإضْمَار " أنْ " بعد الفَاءِ في جواب التَّمَنِّي قالوا : " لأن " عَسَى " تَمَنٍّ وتَرَجٍّ في حَقّ البَشَر " .
{ على ما أسَرُّوا } متعلِّق ب " نَادِمِين " ، و " نَادِمِين " خَبر " أصْبَح " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.