اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{نِّعۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي مَن شَكَرَ} (35)

ثم قال : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } والحاصب فاعل من حصب إذا رَمَى بالحَصَا وهي الحجارة . وقال النَّضْرُ{[54107]} : الحَاصِبُ الحَصْبَاءُ في الرِّيح . وقال أبو عبيدة : الحاصب الحِجارة{[54108]} . وفي الصِّحاح : الحَاصِبُ الريح الشديدة التي تثير الحَصْبَاء ، وكذلك الحَصْبَةُ ، قال لَبيدٌ :

جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا *** أَذْيَالَها كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ{[54109]}

( يقال ) : عَصَفَتِ الرِّيحُ أي اشتدت فهي ريحٌ عَاصِفٌ وعَصُوفٌ . وقال الفرزدق :

مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنَا *** بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ{[54110]}

قوله : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } فيه وجهان :

أحدهما : أنه متصل ويكون المعنى : أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله ، فإنه لم يرسلْ عليهم .

والثاني : أنه منقطع{[54111]} . قال شهاب الدين : ولا أدري ما وَجْهُهُ ؛ فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه ، وهذا داخلٌ ليس إلاَّ{[54112]} .

وقال أبو البقاء : هو استثناء منقطع . وقيل : متصل ؛ لأن الجميع أرسل عليهم الحاصب فهَلَكُوا إلا آلَ لوط . وعلى الوجه الأول يكون الحاصب لم يرسل على آل لوط{[54113]} . انتهى . وهو كلام مُشْكِلٌ{[54114]} .

فصل

قال ابن الخطيب : الحاصب رامي الحَصْبَاء ، وهي الحجارة ؛ كقوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } [ الحجر : 74 ] وقول الملائكة : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [ الذاريات : 33 ] مع أنَّ المرسلَ عليهم ليس بحاصب فيحتمل أن يكون المعنى : لنرسل عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة{[54115]} . ويجوز تذكير الرِّيح ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي . ويحتمل أن يكون المراد عذاب حاصب لأن ( أَرْسَلْنَا ) يدل على مُرسلِ وهو مرسل الحجارة وحاصبها ، وأفرد للجنس . وقوله : «إنَّا أَرْسَلْنَا » كأنه جواب من قال : كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ ؟ والاستثناء في قوله : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } من الضمير في «عَلَيْهِمْ » وهو يعود على قوم لوط فيقتضي أن آلَهُ كَذَّبُوا ، لكن قد يكون أهله قليلاً فعمهم ظاهر اللفظ فبين بالاستثناء خروجهم لأن المقصودَ بيانُ هلاكهم ومن نجا أو يكون الاستثناء من كلامٍ مدلول عليه أي فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط ، ويكون الإرسال عليهم والإهلاك عامًّا ، فكأن الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً وغيرهم ، كالأطفال والدَّوَابِّ{[54116]} .

والمراد بآل لوط : من تبع على دينه ولم يكن إلا بِنْتَاهُ .

قوله : «نَجَّيْنَاهُمْ » تفسير وجواب لقائل يقول : فَمَا كان من شأن آلِ لوط ؟ كقوله تعالى : { أبى } [ البقرة : 34 ] بعد قوله : «إلاَّ إبْلِيسَ » . وقد تقدم في البقرة{[54117]} .

قوله : «بِسَحَرٍ » الباء حالية أو ظرفية ، وانصرف «سَحَرٌ » لأنه نكرة ، ولو قصد به وقتٌ بعينه لمنع ( مِنَ ) الصَّرف للتعريف والعدل عن أل هذا هو المشهور .

وزعم صَدْرُ الأفَاضِلِ{[54118]} أنه مبني على الفتح كَأَمْسِ مبنياً على الكسر{[54119]} .

و«نِعْمَةً » إما مفعولٌ له ، وإما مصدرٌ{[54120]} بفِعلٍ من لفظهما أو من معنى «نَجَّيْنَاهُمْ » ؛ لأن تنجيتهم إنعامٌ ، فالتأويل إما في العامل وإما في المصدر . و«مِنْ عِنْدِنَا » إما متعلق بنعْمةٍ ، وإما بمحذوفٍ صفةً لها .

والكاف في «كَذَلِكَ » نعت مصدر محذوف أي مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي .

فصل

قال الأخفش : إنّما جُرَّ سَحَر ، لأنه نكرة ، ولو أراد يوماً بعينه لم يَجُرَّه{[54121]} . وكذا قال الزجاج : سحرٌ إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف ، نقول : سَحرُنَا هذا ، وأتيته بسَحَرٍ ، والسَّحَرُ هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر ، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل بِبَيَاضِ النهار ؛ لأن في هذا الوقت تكون مخاييل الليل ومخاييل{[54122]} النهار .

{ نِعْمَةً مِنْ عِندِنَا } إنعاماً على لوط وابْنَتَيْهِ .

{ كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } ، أي كما جازينا لوطاً وأهله بالإنجاء ، فكذلك نجزي من شكر أي آمن بالله وأطاعه .

قال المفسرون : هو وعد لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - بأنه يصونهم عن الهلاك العام .

قال ابن الخطيب : ويمكن أن يقال : هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة ، كما أنجاكم في الدنيا من العذاب ؛ لقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين }{[54123]} [ آل عمران : 145 ] .


[54107]:هو النضر بن شُميل، أخذ عن الخليل بن أحمد، وعن فصحاء العرب كأبي خيرة الأعرابي وأبي الدُّقيش. مات سنة ثلاث أو أربع ومائتين في خلافة المأمون. وانظر نزهة الألباء من 58 إلى 61.
[54108]:قاله في المجاز 2/241 قال: "والحاصب أيضا يكون من الجليد".
[54109]:من الرجز وهو له كما في ديوانه 39 دار صادر. وخوت: أقفرت، والعصُوف: الريح العاصفة والحَصِبةُ التي تجرف الحصباء معها. وروي "عليه" بدل "عليها". و"كل" فاعل مؤخر و"أذيالها" مفعول مقدم. وقد جاء بالبيت ليُبيّن أن الحاصب والحصبة هي الريح الشديدة المثيرة. وانظر اللسان "حصب" 893 والقرطبي 17/143 والصّحاح "حصب" أيضا.
[54110]:من البسيط له. و"نديف القطن" الذي يباع في السوق منذوفا فالندف هو الطرق. وشاهده كسابقه من أن الحاصب هو الريح الشديدة. وانظر البيت في المجاز 2/241 وفتح القدير 5/127 وروح المعاني 27/90 والقرطبي 17/143، ومجمع البيان 9/291 والديوان 1/213.
[54111]:نقل الوجهين العكبري في التبيان 1194 واختار الثاني.
[54112]:الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم 122.
[54113]:التبيان المرجع السابق.
[54114]:حيث إن آل لوط مع من عُذّبوا حينما عارضوا فكيف لم يُرسَل الحاصب على آل لوط؟
[54115]:التفسير الكبير له 15/85 و57.
[54116]:بالمعنى من المرجع السابق.
[54117]:وراجع اللباب الجزء الأول ص 77 نسخة ب.
[54118]:هو أبو الفتح ناصر صدر الأفاضل، ابن أبي المكارم عبد السيد الخوارزمي المُطَرّزي كان يدعو للاعتزال قرأ على أبيه وغيره فنبغ في العربية، وسار ذكره وبعد صيته. من مؤلفاته النحوية: المصباح. توفي بخوارزم سنة 610 هـ، وانظر نشأة النحو 178 و179.
[54119]:وقد خالف المطرزي العامة من النحاة في هذا الرأي كما نقل ذلك السيوطي في الهمع 1/196 وانظر المشكل في إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب 2/339.
[54120]:التبيان 1194 واختار مكي في مرجعه السابق المفعول لأجله فقط.
[54121]:لم أجده في معاني القرآن له وإنما نقله عنه القرطبي في الجامع 17/143.
[54122]:وانظر في معاني القرن وإعرابه له 5/9.
[54123]:وانظر التفسير الكبير للرازي بالمعنى 15/60.