اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ رَٰوَدُوهُ عَن ضَيۡفِهِۦ فَطَمَسۡنَآ أَعۡيُنَهُمۡ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} (37)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } المراودة من الرَّوْدِ ، يقال : رَاوَدْتُهُ عَلَى كَذَا مُرَاوَدَةً ، ورَواداً أيْ أَرَدْتُهُ . وَرادَ الكَلأَ يَرُودُهُ رَوْداً وَرِياداً ، وارْتَادَهُ أيضاً أي طَلَبَهُ . وفي الحديث : «إذَا بَالَ أَحَدكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ » أي يطلب مكاناً ليناً أو منْحَدراً{[54125]} . قال ابن الخطيب : ومنه الإرادة وهي المطالبة{[54126]} غَيْرَ أن المطالبة تستعمل في العين ، يقال : طَالَبَ زَيْدٌ عَمْراً بالدَّرَاهِمِ ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل ، فيقال : رَاوَدَهُ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثانٍ{[54127]} والمطالبة بالباء وذلك لأن الشغل منوطٌ باختيار الفاعل ، والعين قد توجد من غير اختيار منه فلهذا يفترق الحال بين قولك : أَخْبِرْنِي عَنْ أَمْرِ زَيْدٍ وأَخْبِرْنِي بأَمْر زَيْدٍ ، وكذا قوله : «أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ مَجِيءِ فُلاَنٍ » وقوله : «أَخْبَرَنِي بمجيئه » ؛ فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه ، وأخبرني بمجيئه ، لا يكون إلا عن نفس المجيء{[54128]} .

والضيف يقع على الواحد والجماعة ، والمعنى أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة .

قوله : «فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ » قرأ العامّة فَطَمسنَا مخففاً . وابن مِقْسِم مشدَّداً على التكثير ، لأجل المتعلق أو لشدة الفعل في نفسه{[54129]} .

والضمير في : «رَاوَدُوهُ » عائد على قومِ لوط . وأسند إليهم لأن جميعهم راضٍ بذلك ، والمراد الذين دخلوا عليه . روي أن جِبْرِيلَ - عليه الصلاة والسلام - ضربهم بجناحه فَعَمُوا . وقيل : صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شِقّ ، كما تطمس الريح الأثر والأعلام بما تَسْفِي عليها من التراب ، وقال الضحاك : بل أعماهم الله تعالى فلم يَرَوا الرسل . وقالوا : لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا ولم يروهم . وهذا قول ابن عباس{[54130]} .

فإن قيل : قال ههنا : فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ، وقال في يس : { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] فما الفرق ؟

فالجواب : هذا يؤيد قول ابن عباس : بأن المراد من الطمس الحَجْبُ عن الإدراك ، ولم يجعل على بصرهم شيء . وفي «يس » أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة أو أَلْزَقَ{[54131]} أحد الجَفْنَيْن بالآخَرِ فتكون العينُ جلدةً{[54132]} .

وروي أنهم صارت أعينهم مع وجودهم كالصفحة الواحدة .

قوله : { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } الخطاب لهم ، أي قلنا على لسان الملائكة فذوقوا ، وهو خطاب مع كل مكذب ، أي إنْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا .

قال القرطبي : والمراد من هذا الأمر الخبر أي : فَأَذَقْتُهُمْ عَذَابي الذي أنذرَهُمْ به لوطٌ{[54133]} .

فإن قيل : إذا كان المراد بقوله : «عذابي » هو العذاب العاجل ، وبقوله : «ونُذُر » هو العذاب الآجل فهما لم يكونا في زَمَانٍ واحد فكيف قال : ذوقوا ؟

فالجواب : أن العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً }{[54134]} [ نوح : 25 ] .


[54125]:وانظر اللسان ورد 1772 و1771.
[54126]:في الرازي: قريبة من المطالبة.
[54127]:في الرازي: "بعن".
[54128]:وانظر تفسير الرازي 15/61 بالمعنى.
[54129]:وانظر البحر 8/182. وهي قراءة شاذة.
[54130]:وانظر القرطبي 17/144.
[54131]:في الرازي: أي ألزَقَ.
[54132]:وفيه: فيكون على العين جلدة.
[54133]:وانظر القرطبي 17/144.
[54134]:وانظر الرازي 15/62.