قوله : «فتولّ عنهم » أي أعرض عنهم . قال أكثر المفسرين : نسختها آية السيف . قال ابن الخطيب إن قول المفسرين في قوله : «فَتَوَلَّ » منسوخ ليس كذلك ، بل المراد منه لا تُنَاظِرْهُمْ بالكلام{[53884]} .
قوله : { يَوْمَ يَدْعُ الداع } «يوم » منصوب إما ب «اذكر » مضمرةً وهو أقربها . وإليه ذهب الرُّمَّانيُّ{[53885]} ، والزمخشري{[53886]} وإما ب «يَخْرُجُونَ » بعده . وإليه ذهب الزمخشري أيضاً{[53887]} ، وإما بقوله : «فَمَا تُغْنِ » ويكون قوله : «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ » اعتراضاً ، وإما منصوباً بقوله : «يَقُولُ الْكَافِرُونَ » . وفيه بعدٌ لبعده عنه{[53888]} .
وقيل : تم الكلام عند قوله : { فَمَا تُغْنِ النذر } ويبتدأ بقوله : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدّاع } فيكون منصوباً بقوله : «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ » . وهو ضعيف جداً ؛ لأن المعنى ليس أمره بالتولية عنهم في يوم النفخ في الصور ، وإمَّا منصوب بحذف الخافض أي فتول عنهم إلى يوم . قاله الحسين{[53889]} وضعف من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى أما اللفظ ، فلأن إسقاط الخافض غير منقاس ، وأما المعنى فليس تَوَلِّيهِ عنهم مُغَيًّا بذلك الزمان ، وإما بانْتظرْ مضمراً ، فهذه سبعة أوجه في ناصب «يوم »{[53890]} . قال القرطبي : أو منصوب ب «خُشَّعاً » أو على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر تقديره : فتول عنهم فإن لهم يوم يدع الدَّاعِ . وقيل : أي تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة ، وأبصرتهم يوم يدع الداع{[53891]} . وقيل : أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم فإنهم يدعون إلى شيء نكر وينالهم عذاب شديد كقولك : لا تَسَلْ ما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم .
وقيل : أي وكل أمر مستقر يوم يدع الداعي . وحذفت الواو من «يَدْعُ » خَطًّا اتباعاً للفظ كما تقدم في «تغن » و{ وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] وشبهه{[53892]} . والياء{[53893]} من «الدَّاع » مبالغة في التخفيف إجراء «لأل » مُجْرَى ما عاقبها وهو التنوين ، فكما تحذف الياء مع التنوين كذلك مع ما عاقبها{[53894]} .
قوله : «الدَّاعِي » معرف كالمنادي في قوله : { يَوْمَ يُنَادِ المناد } [ ق : 41 ] ؛ لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل : إن منادياً ينادي وداعياً يدعو{[53895]} .
قيل : الداعي : إسرافيل ينفخ قائماً على صخرة بيت المقدس ، قاله مقاتل .
وقيل : ملك يوكَّل بذلك . والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا : جَاءَ رَجُلٌ فَقَال الرَّجُلُ . قاله ابن الخطيب{[53896]} .
قوله : { إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ } العامة على ضم الكاف ، وهو صفة على فُعُلٍ ، وفُعُلٌ{[53897]} في الصِّفات عزيزٌ منه : أمرٌ نُكُرٌ ، ورجل شُلُلٌ{[53898]} وناقة أُجُدٌ{[53899]} ، ورَوضةٌ أُنُفٌ{[53900]} ومِشْيَةٌ سُجُحٌ{[53901]} .
وقرأ ابن كثير بسكون القاف ، فيحتمل أن يكون أصلاً ، وأن يكون مخففاً من قراءة الجماعة{[53902]} . وقد تقدم ذلك محرراً في العُسْر واليُسْر في سورة المائدة .
وسمي الشديد نكراً ، لأن النفوس تنكره ، قال مالك بن عوف :
أَقْدِمْ نَجَاحُ إنَّه يَوْمٌ نُكُرْ *** مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكِرْ{[53903]}
وقرأ زيد بن علي والجحدري وأبو قِلاَبَة : نُكِرَ فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، لأن «نكر » يتعدى ؛ قال تعالى : { نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً }{[53904]} [ هود : 70 ] .
المعنى إلى شيء منكر فظيع ، لم ير مثله فينكرونه استعظاماً ، قال ابن الخطيب : وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن المعنى إلى شيء نكر في يومنا هذا ، لأنهم أنكروه أي يوم يدع الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يَخْرُجُونَ .
الثاني : أن المعنى منكر أي يقول القائل كان ينبغي أن لا يقع ولا يكون لأن المنكر من شأنه أن لا يوجد يقال : فلان ينهى عن المنكر ، وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع ، لأنه يُرْدِيهم في الهاوية .
فإن قيل : ما ذلك الشيء النكر ؟
فأجيب : بأنه الحساب ، أو الجمع له ، أو النشر للجمع .
فإن قيل : النشر لا يكون منكراً ، فإنه إحياء ، لأن الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يجري عليه لينكره .
فالجواب : أنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم : { يا ويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا }{[53905]} [ يس : 52 ] .
قوله : «خُشّعاً أَبْصَارُهُمْ » قرأ أبو عمرو والأخوان{[53906]} خاشعاً ، وباقي السبعة خُشَّعاً ، فالقراءة الأولى جارية على اللغة الفصحى من حيث إنَّ الفعلَ وما جرى مجراه إذا قدم على الفاعل وُحِّدَ تقول : تَخْشَعُ أَبْصَارُهُمْ ، ولا تقول : يَخْشَعْنَ أَبْصَارُهُمْ ، وأنشد ( - رحمةُ الله عليه - ){[53907]} :
وَشَبَابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ *** مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدْ{[53908]}
تَلْقَى الفِجَاجَ بِهَا الرُّكْبَانُ مُعْتَرِضاً *** أَعْنَاقَ بُزَّلِهَا مُرْخًى لَهَا الْجُدُلُ{[53909]}
وأما الثانية فجاءت على لغة طَيِّىءٍ ، يقولون : أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ ، وقد تقدم القول على ذلك في المائدة والأنبياء ومثله قوله :
بِمُطَّرِدٍ لَدْنٍ صِحَاحٍ كُعُوبُهُ *** وَذِي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ الْقَوَانِسَا{[53910]}
قيل : وجمع التكسير في اللغة في مثل هذا أكثر من الإفراد . وقرأ أبيّ وعبد الله : خَاشِعَةً على تَخْشَعُ هِيَ{[53911]} .
وقال الزمخشري : و«خُشَّعاً » على يَخْشَعْنَ أبْصَارُهُمْ{[53912]} . وهي لغة من يقول : أَكَلُوني البراغيثُ وهي طيىء{[53913]} .
قال أبو حيان : ولا يجري جمع التكسير مَجْرى جمع السلامة فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة . وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب فكيف يكون أكثر ويكون على تلك اللغة القليلة{[53914]} ؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفْراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير ، قال : لأن الصِّفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها ذلك ، والجمع موافق للفظها فكان أشْبَه{[53915]} .
قال أبو حيان : وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمعُ جمعَ سلامة{[53916]} نحو : مَرَرْتُ بقَوْمٍ كريمين آباؤهم والزمخشري قاس جمع التكسير على جمع السلامة وهو قياس فاسد يرده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد كما ذكره سيبويه{[53917]} ودل عليه كلام الفراء{[53918]} .
قال شهاب الدين : وقد خرج الناس قول امرئ القيس :
وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَى مَطِيِّهِمْ *** يَقُولُون : لاَ تَهْلَكْ أَسًى وَتَجمَّلِ{[53919]}
على أن صحبي فاعل ب «وُقُوفاً » وهو جمع «واقف » في أحد القولين في «وُقُوفاً » .
وفي انتصاب «خاشعاً وخشعاً وخاشعة » أوجهٌ :
أحدها : أنه مفعول به وناصبه ( يَدْعُ الدَّاعِ ) {[53920]} . وهو في الحقيقة ( صفة ) لموصوف محذوف تقديره فَرِيقاً خَاشِعاً أو فَوْجاً خَاشِعاً .
والثاني : أنه حال من فاعل ( يَخْرُجُونَ ) المتأخر عنه{[53921]} ، ولما كان العامل متصرفاً جاز تقدم الحال عليه ، وهو رد على الجَرْمي ، حيث زعم أنه لا يجوز ، ورد عليه أيضاً بقول العرب : ( شَتَّى تَؤُوبُ الحَلْبةُ ) «فشتى » حال من الحَلْبة ، وقال الشاعر :
سَرِيعاً يَهُونُ الصَّعْبُ عِنْدَ أُولِي النُّهَى *** إذَا بِرَجَاءٍ صَادِقٍ قَابَلُوا الْبَأسَا{[53922]}
الثالث : أنه حال من الضمير في ( عَنْهُمْ ) . ولم يذكر مَكّيّ غيره{[53923]} .
الرابع : أنه حال من مفعول ( يَدْعُو ) المحذوف تقديره : يَوْمَ يَدْعُوهُمُ الدَّاعي خُشَّعاً ؛ فالعامل فيها ( يدعو ) . قاله أبو البقاء . وارتفع أبصارهم على وجهين :
أظهرهما : الفاعلية بالصفة قبله .
الثاني : على البدل من الضمير المستتر في ( خُشَّعاً ) {[53924]} ؛ لأن التقدير خُشَّعاً هُمْ ، وهذا إنما يأتي على قراءة خشعاً فقط .
وقرئ خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ على أن «خشعاً » خبر مقدم ، و«أبصارهم » مبتدأ ، والجملة في محل نصب على الحال{[53925]} وفيه الخلاف المذكور من قبل كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَجَدْتُهُ حَاضِرَاه الجُودُ وَالْكَرَمُ{[53926]}
قال ابن الخطيب ، لما حكى نصب «خاشعاً » ، قال : إنه منصوب على أنه مفعول بقوله : «يَدْعُو » أي يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي خُشَّعاً .
أحدها : أن الشخص لا فائدة فيه ؛ لأن الداعي يدعو كل أحدٍ .
ثانيها : قوله : { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } بعد الدعاء فيكونون خشعاً قبل الخروج وهو باطل .
ثالثهما : قراءة خاشعة{[53927]} تبطل هذا !
نقول : أما الجواب عن الأول فإن قوله : { إلى شَيْءٍ نُكُرٍ } يدفع ذلك ، لأن كل أحد لا يدعى إلى شيء نكر ، وعن الثاني المراد من الشيء النكر الحساب العسير يوم يدع الداعي إلى الحساب العسير{[53928]} خشعاً ولا يكون العامل في ( يوم ) يدعو «يَخْرُجُونَ » بل «اذكروا » و{ فَمَا تُغْنِ النذر } كقوله تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } [ المدثر : 48 ] ويكون : «يَخْرُجُونَ » ابتداء كلام ، وعن الثالث{[53929]} أنه لا منافاة بين القراءتين وخاشعاً نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو كأنه يقول : يدعو الداعي قوماً خاشعاً{[53930]} أبصارهم .
( والخشوع ) {[53931]} السكون كما قال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأصوات } [ طه : 108 ] ، وخشوع الأبصار سكونها على حال لا تتلفّت يمنة ولا يسرة كما قال تعالى : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ }{[53932]} [ إبراهيم : 43 ] . وقيل : خاشعة أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب .
قوله : ( يَخْرُجُونَ ) يجوز أن يكون حالاً من الضمير في : ( أبصارهم ) وأن يكون مستأنفاً . والأجداث القبور وقد تقدم في يس .
وقوله : ( كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من فاعل «يخرجون » أو مستأنفة . ومثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتَّمَوج . وقيل : معنى منتشر أي منبث حَيَارَى{[53933]} .
ونظيره قوله تعالى : { كالفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] . والمعنى : أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم يقصدها كالجراد ولا جهة تكون مختلطةً بعضُها في بعض{[53934]} ، وذكر المنتشر على لفظ الجراد{[53935]} .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : المنتشر مطاوع نَشَرَهُ إذا أحياه ، قال تعالى : { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } [ الروم : 20 ] فكأنهم جراد متحرك من الأرض ( و ) يدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم{[53936]} .
وقال القرطبي : قوله ( تعالى ) {[53937]} : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداعي } وقال في موضع آخر : { يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث } فهما صفتان في وقتين مختلفين أحدهما عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون ( إلى ){[53938]} أين يتجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضهم في بعض لا جهة له يقصدها فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر ، لأن الجراد المنتشر لها جهة يقصدها{[53939]} .
قوله : «مُهْطِعِينَ » حال أيضاً من اسم كان ، أو من فاعل «يَخْرُجُونَ » عند من يرى تَعَدُّدَ الحال . قال أبو البقاء : و«مهطعين » حال من الضمير في «مُنتَشِرٍ » عند قوم ، وهو بعيد ؛ لأن الضمير في منتشر للجراد وإنما هو حال من فاعل «يخرجون » أو من الضمير المحذوف . انتهى{[53940]} .
وهو اعتراض حسن على هذا القول .
بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُم *** بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إلَى السَّمَاعِ{[53941]}
وقيل : الإسراع مع مد العنق . وقيل : النظر . قاله ابن عباس وأنشدوا ( - رحمة الله على{[53942]} من قال - ) :
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ أَرَى *** وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ{[53943]}
وقد تقدم الكلام على هذه المادة في سورة إبراهيم{[53944]} .
قال الضحاك : مضلين . وقال قتادة : عامدين . وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى المصوت{[53945]} .
قوله : «يَقُولُ الْكَافِرُونَ » قال أبو البقاء : حال من الضمير في «مُهْطِعِينَ »{[53946]} .
وفيه نظر من حيث خُلُوُّ الجملة من رابط يربطها بذي الحال ، وقد يجاب بأن الكافرين هم الضمير في المعنى فيكون من باب الربط بالاسم الظاهر عند من يرى ذلك{[53947]} كأنه قيل : يقولون هذا . وإنما أبرزهم تشنيعاً عليهم بهذه الصفة القبيحة .