قوله : " أغَيْرَ اللَّهِ " مفعول أوّل ل " أتَّخِذُ " و " ولياً " مفعولٌ ثانٍ ، وإنما قدَّم المفعول الأوَّل على فعله لمعنى ، وهو إنكار أن يُتَّخَذَ غَيْرَ اللَّهِ وليّاً لا اتّخَاذ الوليّ ، ونحوه قولك لمن يُهِينُ زيداً وهو مستحقٌّ للإكرام : " أزيداً أهَنْتَ " ؟ ! أنْكَرْتَ أن يكون مِثْلَهُ مُهَاناً .
وقد تقدَّم هذا موضحاً في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة :116 ] ، ومثله : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً } [ الأنعام : 164 ] ،
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ } [ الزمر :64 ] { ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } [ يونس :59 ] { ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ } [ الأنعام :143 ] وهو كثيرٌ ، ويجوز أن يكُونَ " أتخذ " متعدّياً لواحدٍ ، فيكون " غير " مَنْصُوباً على الحال من " ولياً " ؛ لأنه في الأصل صِفَةٌ له ، ولا يجوز أن يكُونُ استثناءً ألْبَتَّةَ ، كذا منعه أبو البقاء{[13363]} ، ولم يُبَيَّنْ وجهه .
والذي يظهر أنَّ المَانِعَ تقدُّمه على المستثنى منه في المعنى ، وهو " وَلياً " .
وأمَّا المعنى فلا يَأبى الاستثناء ؛ لأن الاستفهام لا يُرَادُ به حقيقته ، بل يُراد به الإنْكَار ، فكأنه قيل : لا أتَّخذُ وليَّا غير اللَّه ، ولو قيل كذا لكان صحيحاً ، فظهر أنَّ المانع عنده إنما هو التَّقْدِيمُ على المستثنى منه ، لكن ذلك جائز وإن كان قليلاً ، ومنه : [ الطويل ]
ومَا لِي إلاَّ آل أحْمَدَ شِيعَةٌ *** وَمَا لِيَ إلاَّ مَشْعَبَ الحَقِّ مشْعَبُ{[13364]}
وقرأ الجمهور{[13365]} " فَاطرِ " بالجر ، وفيها تخريجان :
أحدهما- وبه قال الزمخشريّ والحوفيّ وابن عطيّة{[13366]} - : صفة للجلالة المجرورة ب " غير " ، ولا يَضُرُّ الفَصْلُ بين الصِّفَةِ ، والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها ؛ لأنها ليست بأجنبيةٍ ، إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف .
الثاني- وإليه نَحَا أبو البقاء{[13367]} - : أنه بَدَلٌ من اسم اللَّهِ ، وكأنه فَرَّ من الفَصْلِ بين الصٍّفةِ وموصوفها .
فإن قيل : هذا لازمٌ له في البدل ، فإنه فَصَل بين التَّابع ومتبوعه أيضاً ، فيقال : إنَّ الفَصْلَ بين البدلِ والمبدل فيه أسهل ؛ لأن البَدَلَ على نِيَّةِ تَكْرَارِ العامل ، فهو أقربُ إلى الفَصْلِ ، وقد يُرجَح تخريجه بوَجْهٍ آخر ، وهو أنَّ " فاطر " اسم فاعل ، والمعنى ليس على المُضِيِّ حتى تكون إضافته غير مَحْضَةٍ ، فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنَّكرة ؛ لأنه في نيَّةِ الانفصال من الإضافة ، ولا يقال : اللَّهُ فَاطِرُ السماوات والأرض فيما مضى ، فلا يُرَادُ حالٌ ولا استقبالٌ ؛ لأن كلام اللِّهِ -تبارك وتعالى- قديمٌ متقدّمٌ على خَلْقِ السماوات ، فيكون المراد به الاسْتِقْبَال قطعاً ، ويَدُلُّ على جواز كونه في نيَّة التَّنْوين ما يأتي ذكره عن أبي البَقَاءِ قريباً .
وقرأ{[13368]} ابن أبي عَبْلَةَ برفعه ، وتخريجه سَهْلٌ ، وهو أنه خبر مبتدأ محذوف .
وخرَّجه ابن عطية{[13369]} على أنه مبتدأ ، فيحتاج إلى تقدير خَبَرٍ ، والدلالَةُ عليه خفيَّةٌ بخلاف تقدير المبتدأ ، فإنه ضمير الأول ، أي : " هو فاطر " . وقرئ شاذاً{[13370]} بنصبه ، وخرَّجه أبو البقاء{[13371]} على وجهين :
أحدهما : أنه بَدَلٌ من " ولياً " قال : " والمعنى على هذا أجْعَلُ فاطر السماوات والأرض غير اللِّهِ " ، كذا قدَّرَهُ ، وفيه نظر ؛ لأنه جعل المفعول الأول ، وهو " غير الله " مفعولاً ثانياً ، وجعل البدل من المفعول الثاني مفعولاً أوَّل ، فالتقدير عَكْسُ التركيب الأصلي .
والثاني : أنه صِفَةٌ ل " ولياً " قال : ويجوز أن يكون صَفَةٌ ل " وَليّاً " والتنوين مُرَادٌ .
قال شهاب الدين{[13372]} : يعني بقوله : " التنوين مُرَاد " أنَّ اسم الفاعل عاملٌ تقديراً ، فهو في نِيَّةِ الانْفِصَالِ ، ولذلك وقع وَصْفاً للنكرة كقوله : { هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] .
وهذا الوجه لا يَكَادُ يَصِحُّ ، إذ يصير المعنى : أأتَّخِدُ غير اللَّهِ وليّاً فاطر السماوات إلى آخره ، فيصف ذلك الوَلِيّ بأنه فاطر السماوات .
وقرأ الزُّهري{[13373]} : " فَطَرَ " على أنه فِعْل ماضٍ ، وهي جملة في مَحَلِّ نصب على الحال من الجلالةِ ، كما كان " فاطر " صفتها في قراءة الجمهور .
ويجوز على رأي أبي البقاءِ أن تكون صِفَةً ل " وليَّاً " ، ولا يجوز أن تكون صَفَةً للجلالة ؛ لأن الجملة نكرةٌ .
والفَطْرُ : الشَّقُّ مُطْلقاً ، وقيَّدَهُ الرَّاغب{[13374]} بالشَّقِّ طولاً ، وقيَّدَهُ الواحدي بشقِّ الشيء عند ابتدائه{[13375]} .
والفطرُ : إبداع وإيجاد شيء على غير مثال ، ومنه { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض } ، أي : أوجدها على غير مثال يُجْتدى .
وعن ابن عبَّاس{[13376]} : ما كنتُ أدْرِي ما معنى فَطَر وفَاطِر ، حتَّى اختصم إليَّ أعْرَابيَّان في بِئرٍ ، فقال أحدهما : " أنا فَطَرتُهَا " ، أي : أنْشَأتُهَا وابتدأتها .
ويقال : فَطَرْتُ كذا فَطْراً وفَطَر هو فُطوراً ، وانْفَطَرَ انْفَطَاراً وفَطَرْتُ الشَّاة : حَلَبْتُهَا بأصْبُعَيْنِ ، وفَطرْتُ العَجينَ : خبزته في وَقْتِهِ .
وقوله تبارك وتعالى : { فِطْرة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }
[ الروم :30 ] إشارة منه إلى ما فَطَرَ ، أي : أبدع وركز الناس من معرفته [ ما ركز ]{[13377]} ، ففطرة اللِّهِ ما رُكِّز من القُوّة المُدْرِكة لمعرفته ، وهو المُشَارُ إليه بقوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزخرف :87 ] .
وعليه : " كُلُّ مولودٍ يُوْلَدُ على الفِطْرَةِ " الحديث .
وهذه الآية الكريمة نزلت حين دعا إلى الله{[13378]} آباءه فقال تعالى : يا محمد { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } رباً معبوداً وناصراً ومعيناً .
قوله : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } القراءة{[13379]} المَشْهُورة ببناء الأوَّل للفاعل ، والثَّاني للمفعول ، والضمير للِّهِ تعالى ، والمعنى : وهو يَرْزق ولا يُرْزَق ، وهو موافق لقوله تعالى : { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات :57 ] .
وقرأ{[13380]} سعيد بن جبير ، ومجاهد بن جبر ، والأعمش ، وأبو حيوة ، وعمرو بن عبيد ، وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه : " وَلاَ يَطْعَمُ " بفتح الياء والعين ، بمعنى : ولا يَأكل ، والضميرُ لله تعالى أيضاً .
وقرأ{[13381]} ابن أبي عَبْلَة ويمان العماني : " وَلاَ يُطْعِم " بضم الياء ، وكسر العين كالأول ، فالضميران - أعني هو والمُسْتَكنُّ في " يطعم " - عائدان على اللهِ تعالى ، والضميرُ في ولا يُطْعِم للولِيّ .
وقرأ{[13382]} يعقوب في رواية أبي المأمون : " وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم " ببناء الأوَّل للمفعول ، والثَّاني للفاعل ، على عَكْسِ القراءة المشهورة ، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترين في الفعلين للولي فقط أي : وذلك الولي يُطعمه غيره ، ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزِه .
وقرأ{[13383]} الأشْهَبُ : " وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم " ببنائهما للفاعل .
وذكر الزمخشري فيهما تخريجين{[13384]} ثانيهما لنفسه ، فإنه قال بعد أن حَكَى القراءة : وفُسِّر بأنَّ معناه وهو يُطْعِم ولا يَسْتطْعمِ .
وحكى الأزهري{[13385]} : أطعمت بمعنى اسْتَطْعَمْتُ ، ونحوه : أفَدْت{[13386]} ، ويجوز أن يكون المعنى : هو يُطْعِمُ تارةً ، ولا يُطْعم أخرى على حسب المَصَالِحِ ، كقولك : هو يعطي ويمنع ، ويَقْدر ويبسط ويغني ويُفْقر .
قال شهابُ الدين{[13387]} : هكذا ذكر أبو حيَّان{[13388]} هذه القراءات .
وقراءةُ الأشهب{[13389]} هي كقراءة ابن أبي عَبْلَةَ والعماني سواء لا تَخَالُفَ بينهما ، فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كُلِّهم ، وإلاَّ يوهم هذا أنهما قِرَاءتانِ مُتغَايرَتَانِ ، وليس كذلك{[13390]} .
وقُرئَ شاذّاً{[13391]} : " يَطْعَمُ " بفتح الياء والعين ، " ولا يُطعم " بضم الياء وكسر العين ، أي : وهو يأكل ، ولا يطعم غيره ، ذكر هذه القراءة أبو البقاء{[13392]} قال : " والضميرُ راجع على الوَليّ الذي هو غَيْرُ اللِّهِ " .
فهذه ست قراءات ، وفي بعضها - وهو تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البَديع تَجنيسُ التشكيل ، وهو أن يكون الشَّكْلُ فارقاً بين الكلمتين ، وسمَّاهُ أسَامةُ بن منقذ تجنيس التَّحْريفِ ، وهو تَسْمِيَةٌ فَظِيعَةٌ ، فتسميتهُ بتجنيس التَّشْكيل أوْلَى .
قوله : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } يعني من هذه الأمَّةِ ، والإسلامُ بمعنى الاسْتِسْلام لأمرِ اللِّهِ تعالى .
وقيل : أسْلمَ أخْلَصَ ، و " مَنْ " يجوز أن تكون نكرة موصوفةً واقعةً موقع اسم جمع أي : أوَّل فريق أسلم ، وأن تكون موصولةً أي : أوَّل الفريق الذي أسْلَم ، وأفرد الضمير في " أسلم " إمَّا باعتبار " فريق " المُقَدَّر وإمَّا باعتبار لَفْظِ " مَنْ " ، وقد تقدَّم الكلام على " أول " وكيف يُضَاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في سورة البقرة{[13393]} .
قوله : " ولا تَكُونَنَّ " فيه تأويلان :
أحدهما : على إضمار القول ، أي : وقيل لي : لا تكونن .
قال أبو البقاء{[13394]} : " ولو كان مَعْطُوفاً على ما قبله لَفظاً لقال : وأنْ لا أكون " وإليه نَحَا الزمخشري{[13395]} فإنه قال : " ولا تَكُونَنَّ : وقيل لي لا تكونَنَّ ، ومعناه : وأُمرت بالإسْلامِ ، ونُهيت عن الشِّرْكِ " .
والثاني : أنه مَعْطُوفٌ على معمول " قُلْ " حَمْلاً على المعنى ، والمعنى : قل إني قيل لي : كُنْ أوَّلَ مَنْ أسلم ، ولا تكوننَّ من المشركين ، فهما جميعاً محمولان على القَوْلِ ، لكن أتى الأوَّل بغير لفظ القول ، وفيه معناه ، فَحُمِلَ الثاني على المعنى .
وقيل : هو عَطْفٌ على " قل " أُمِرَ بأن يقول كذا ، ونهي عن كذا .