اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبۡعَثَ عَلَيۡكُمۡ عَذَابٗا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ يَلۡبِسَكُمۡ شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَفۡقَهُونَ} (65)

وهذا نوع آخر من دلائلِ التوحيد مَمْزُوجٌ بالتخويف فبين كونه -تعالى- قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطُّرُقِ المختلفة تارة من فوقهم ، وتارةً من تحت أرجلهم ، فقيل : هذا حقيقة .

فأما العذابُ من فوقهم كالمطرِ النازل عليهم في قِصَّةِ نوح ، والصَّاعقةِ ، والرِّيحِ ، والصَّيْحةِ ، ورَمْي أصحاب الفيل .

وأما الذي من تحت أرجلهم : كالرَّجْفَةِ والخَسْفِ ، وقيل : حبس المطر والنبات . وقيل : هذا مجاز .

قال مجاهد وابن عباس في رواية عكرمة : " مِنْ فَوْقِكُمْ " أي : من الأمراء ، أو من تحت أرجلكم من العبيد والسَّفلةِ{[14142]} .

قوله : { عَذَاباً مِنْ فَوقكُم } يجوز أن يكون الظَّرْفُ معلِّقاً ب " نبعث " وأن يكون متعلّقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل " عذاباً " أي : عذاباً كائناً من هاتين الجِهَتين . قوله : { أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } عطف على " يبعث " .

والجمهور{[14143]} على فتح الياء من " يَلْبِسَكُمْ " وفيه وجهان :

أحدهما : أنه بمعنى يخلطكم فِرقاً مختلفين على أهْوَاء شَتَّى كل فرقة مُشَايعة لإمام ، ومعنى خَلْطِهِم : إنْشابُ القتالِ بينهم ، فيختلطون في ملاحم القتال كقول الحماسي : [ الكامل ]

وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتيبَةٍ *** حَتَّى إَذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يدِي

فَتَرَكْتُهُمْ تَقِصُ الرِّمَاحُ ظُهُورَهُمْ *** مَا بَيْنَ مُنْعَفِرٍ وَآخَرَ مُسْنَدِ{[14144]}

وهذه عبارة الزمخشري{[14145]} : فجعله من اللَّبْسِ الذي هو الخَلْطُ ، وبهذا التفسير الحسن ظهر تعدِّي " يلبس " إلى المفعول ، و " شِيَعاً " نصب على الحال ، وهي جمع " شِيْعة " ك " سِدْرَة " و " سِدَر " .

وقيل : " شِيعاً " منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول ، أي : إنه مصدر على غير الصدر كقعدت جلوساً .

قال أبو حيَّان{[14146]} : " ويحتاج في جعله مصدراً إلى نقل من اللغة " .

ويجوز على هذا أيضاً أن يكون حالاً ك " أتَيْتُهُ رَكْضاً " أي : راكضاً ، أو ذا ركض .

وقال أبو البقاء{[14147]} : والجمهور على فتح الياء ، أي : يَلْبِسُ عليكم أموركم ، فحذف حرف الجر والمفعول ، والأجود أن يكون التقدير : أو يَلْبِسُ أموركم ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه .

فصل في معنى الآية

قال المُفَسِّرُونَ : معناه : أن يجعلكم فرقاً ، ويثبت فيكم الأهواء المختلفة .

وروى عمرو بن دينار عن جابرٍ ، قال : " لما نزلت هذه الآية { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعُوذُ بِوَجْهِكَ " قال : { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : " أعُوذُ بِوَجْهِكَ " . قال : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا أهْوَنُ أوْ هَذَا أيْسَرُ " {[14148]} وعن عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ ، عن أبيه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني مُعاويةَ ، فدخل وصلَّى ركعتين ، وصلينا معه فناجى ربه طويلاً ، ثم قال : " سَألْتُ ربِّي ثلاثاً : ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي فأعْطَانِيها ، وسَألْتُهُ ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي بالسَّنَةِ فأعْطَانيها ، وسَألْتُهُ ألاَّ يَجْعَلَ بأسَهُمْ بَيْنَهُمْ فمنَعَنِيهَا " {[14149]} وعن ابن عُمَرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد ، فسأله الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين ، ومنعه واحدة ، سأله ألاَّ يُسَلِّطَ على أمته عدواً من غيرهم يظهر عليهم ، فأعطاه ذلك ، وسأله ألا يهلكهم بالسِّنين ، فأعطاه ذلك ، وسأله ألاَّ يجعل بَأسَ بعضهم على بَعْضٍ فمنعه ذلك{[14150]} .

فصل في مزيد بيان عن الآية

ظاهر قوله تعالى : { أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا } أنه يجعلهم على الأهْوَاءِ المختلفة ، والمذاهب المُتنافيةِ ، والحق منها ليس إلا لواحدٍ ، وما سواه فهو باطل ، وهذا يقتضي أنه -تعالى- قد يحمل المُكَلَّف على اعتقاد الباطِلِ .

وقوله : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض } لا شَكَّ أن أكثرها ظُلم ومعصية ، وهذا يدل على كونه -تعالى- خالقاً للخير والشر .

وأجاب الخَصْمُ{[14151]} عنه بأن الآية تَدُلُّ على أنه -تعالى- قادر عليه ، وعندنا أن الله -تعالى- قَادِرُ على القُبْحِ ، إنما النزاع في أنه -تعالى- هل يفعل ذلك أم لا ؟

وأجيب بأن وَجْهَ التَّمَسُّكِ بالآية شيء آخر ، فإنه قال : " هُوَ القادرُ " على ذلك ، وهذا يفيد الحَصْرَ ، فوجب أن يكون غَيْرُ الله غَيْرَ قادر على ذلك ، وقد حصل الاختلافُ بين الناس ، فثبت بِمُقْتَضَى الحَصْرِ المذكور ألاَّ يكون ذلك صَادِراً عن غير الله ، فوجب أن يكون صادراً عن الله ، وهو المطلوب .

فصل في إثبات النظر والاستدلال

قالت المعتزلة والحَشَويَّة{[14152]} : هذه الآية من أدَلِّ الدلائل على المَنْعِ من النظر والاستدلال ؛ لأن فَتْحَ تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف ، والمُنازعة في الأديان ، وتفريق الخلائقِ إلى هذه المذاهبِ والأديان ، وذلك مَذْمُومٌ بهذه الآية ، والمُفْضِي إلى المذموم مَذْمُومٌ ، فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال مَذْمُوماً .

وأجيبوا بالآيات الدالة على وجوب النَّظَرِ والاستدلال كما تقدَّم مِرَاراً .

فصل في قراءة " يلبسكم "

قرأ{[14153]} أبو عبد الله المدني : " يُلْبِسَكُمْ " بضم الياء من " ألْبَسَ " رباعياً ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون المفعول الثَّاني مَحْذُوفاً ، تقديره أو يُلْبِسكم الفِتْنَةَ ، و " شيعاً " على هذا حالٌ ، أي : يلبسكم الفِتْنَةَ في حال تفرُّقِكُمْ وشَتَاتِكُمْ .

الثاني : أن يكون " شيعاً " هو المفعول الثاني ، كأنه جعل النَّاس يلبسون بعضهم مجازاً كقوله : [ المتقارب ]

لَبِسْتُ أنَاساً فَأفْنَيْتُهُمْ *** وأفْنَيْتُ بَعْدَ أنَاسٍ أنَاسَا{[14154]}

والشِّيعَةُ : من يَتَقوَّى بهم الإنسان ، والجمع : " شِيع " كما تقدم ، و " أشْيَاع " ، كذا قاله الراغب{[14155]} ، والظاهر أن " أشْيَاعاً " جمع " شِيعَ " ك " عنب " و " أعْنَاب " ، و " ضِلَع " و " أضْلاع " و " شيع " جمع " شِيْعَة " فهو جمع الجمع .

قوله : " ويُذيْقَ " نَسَقٌ على " يَبْعَث " ، والإذاقَةُ اسْتِعَارةٌ ، وهي فاشية : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَر } [ القمر :48 ] { ذُقْ إِنَّكَ } [ الدخان :49 ] ،

{ فَذُوقُواْ العَذَابَ } [ الأنعام :30 ] .

وقال : [ الوافر ]

أذَقْنَاهُمْ كُئُوسَ المَوْتِ صِرْفاً *** وَذَاقُوا مِنْ أسِنَّتِنَا كُئُوسَا{[14156]}

وقرأ الأعمش{[14157]} : " ونُذِيِقَ " بنون العظمة ، وهو الْتِفَاتٌ ، فائدته تعظيم الأمر ، والتحذير من سطوَتِهِ .

قوله : { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون } .

قال القاضي{[14158]} : هذا يَدُلُّ على أنه -تعالى- أراد بتصريف الآيات ، وتقرير هذه البيِّنات أن يفهم الكل تلك الدلائل ، ويفقه الكل تلك البيِّنات .

وأجيب بأن ظاهِرَ الآية يَدُلُّ على أنه -تعالى- ما صرَّف هذه الآيات إلا لمن فقه وفهم ، فأما من أعْرَضَ وتمرَّدَ فهو تعالى ما صرَّف هذه الآيات لهم .


[14142]:ينظر: الرازي 13/19.
[14143]:ينظر: الدر المصون 3/85، البحر المحيط 4/4/155.
[14144]:البيتان للفرّار السلمي. ينظر: الحماسة 1/191، البحر 4/155 مشاهد الإنصاف 2/26، الدر المصون 3/85.
[14145]:ينظر: الكشاف 2/33.
[14146]:البحر المحيط 4/155.
[14147]:ينظر: الإملاء 1/246.
[14148]:أخرجه البخاري 8/141 ـ كتاب التفسير: باب قوله تعالى: {قل هو القادر} (4628) وطرفه في (7313 ـ 7406) والترمذي 5/244 كتاب تفسير القرآن: باب ما جاء في الأنعام (3065). والطبري في "تفسيره" (5/220) والبغوي في شرح السنة (7/272) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/32) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد ونعيم بن حماد في الفتن وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في "الأسماء والصفات".
[14149]:أخرجه مسلم في الصحيح 4/2216، كتاب الفتن باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض الحديث (2/2890) والسّنة: القحط العام.
[14150]:تقدم.
[14151]:ينظر: الرازي 13/20.
[14152]:ينظر: المصدر السابق.
[14153]:ينظر: الدر المصون 3/85، البحر المحيط 4/155.
[14154]:تقدم.
[14155]:ينظر: المفردات 271.
[14156]:البيت في البحر 4/156، الدر المصون 3/86.
[14157]:ينظر: الدر المصون 3/86، البحر المحيط 4/156.
[14158]:ينظر: الرازي 13/20.