قال ابْنُ عباس ، وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق :
لما قال قوم موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } [ الأعراف : 132 ] فهو سِحْرٌ ، ونحن لا نُؤمن بها وكان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - رجلاً جديداً ، فعند ذلك دَعَا عليهم فقال : يا ربِّ إنَّ عبدك فرعون علا في الأرض وبَغَى وَعَتَا ، وإنَّ قومه نَقَضُوا عهدك ؛ فَخُذْهُمْ بعقوبةٍ تجعلها لهم نقمةً ولقومي عظة ، ولمن بعدهم آية وعبرة ، فأرسل اللَّهُ عليهم الطُّوفان وهو الماء ، وبيوت بني إسرائيل ، وبيوت القبط مشتبكة ، فامتلأت بيوت القبط حَتَّى قامُوا في المَاءَ إلى تراقيهم ، ومن جَلَسَ منهم غرق ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة ، ودام ذلك عليهم من السَّبت إلى السبت .
فقالوا لموسى : ادْعَ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِف عنَّا المطر ؛ فنُؤمِنُ بك ، ونرسل معك بني إسرائيل .
فدعا رَبَّهُ فرفع عنهم الطوفان ، وأرسل الرِّيَاحَ فَجَفَّفَت الأرْضُ ، وخرج من النَّبَاتِ مَا لَم يَرَوْا مثله قط ، وأخصبت بلادهم .
فقالوا : ما كان هَذَا الماء إلاَّ نعمة عَلَيْنَا لكنَّا لم نشعر ؛ فمكثوا شهراً في عافيةٍ فنكثُوا العهد .
وقالوا : لا نُؤمِنُ بك ، ولا نرسل معك بني إسرائيل ؛ فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الجَرادَ ، فأكل عامَّة زرعهم ، وثمارهم ، وأوراق الشَّجَرِ ؛ حتَّى أكلت الخَشَبَ وسقوفَ البيُوتِ ومسامير الأبْوابِ من الحديد حتَّى وقع دورهم ، وابتلي الجراد بالجُوعِ فكان لا يشبع ، ولم يصب بني إسرائيل شَيءٌ من ذلك فَضجُّوا إلى موسى .
وقالوا : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لئن كَشَفْتَ عَنَّا لرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بَنِي إسرائيل ، وأعطوه عَهْدَ اللَّهِ وميثاقة .
فَدَعَا موسى رَبَّه فَكَشَفَ عنهم الْجرادَ بعد سبعة أيام ، وفي الخَبَرِ " مَكْتوبٌ على صدر كلّ جرادة جند اللَّهِ الأعظم " فأرسل اللَّهُ ريحاً فحمل الجراد ؛ فألقاه في البحر .
وقيل : إنَّ مُوسَى برز إلى الفضاءِ ، وأشارَ بعصاه إلى المشرق والمغرب ؛ فرجعت الجراد من حيثُ جاءت .
وكانت قد بقيت من زروعهم ، وغلاتهم بقيّة .
فقالُوا : قد بَقِيَ لَنَا ما يكفينَا ، فَنَقَضُوا العَهْدَ ولم يُؤمنوا ، فأقَامُوا شَهْراً في عافية .
فأرسل اللَّه القملَ سبتاً إلى سبت ، فلم يبق بأرضهم عود أخضر إلاَّ أكلته .
فَصَاحوا بمُوسَى فسأل ربَّهُ ، فأرسل اللَّه عليها ريحاً حارّة فأحرقتها ، وألقتها في البحر فلم يُؤمِنُوا .
فأرسل اللَّهُ عليهم الضَّفادع سبعة أيَّام ؛ فخرج من البَحْرِ مثل اللَّيْلِ الدَّامس ووقع في النَّبَاتِ والأطْعِمَةِ ، فكان الرَّجُلُ يجلسُ في الضَّفادع إلى رقبته ، ويهم أن يتكلَّم ، فيثب الضِّفْدَعُ في فِيهِ .
فَصَرَخوا إلى موسى وَحَلَفُوا لَهُ لئن رفعت عنَّا هذا العذاب لنُؤمننَّ بكَ ، فَدَعَا اللَّهُ تعالى فأمات الضَّفادع ، فأرسل عليها المطر ؛ فأحملتها ، ثمَّ أقَامُوا شَهْراً ثم نَقَضُوا العهد وعادُوا لكفرهم .
فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الدَّمَ فجرت أنهارهم دماً ، فما يستقون من الآبار والأنهار إلاَّ وَجَدوهُ دماً عَبِيطاً أحمر ، فَشَكَوْا إلى فرعون .
فقال : إنَّه سحركم وكان فرعون يجمع القبطيَّ والإسرائيلي على الإناءِ الواحد ؛ فيكون ما يَلِي الإسرائيليّ ماءً ، وما يَلِي القبطي دماً ، ويقومان إلى البُحَيْرَة فيها الماء ، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دماً ، حتى كانت المرأةُ من الفرعون تأتي المَرْأةَ من بني إسرائيل حينَ جَهَدَهُمُ العَطَشُ فتقولُ : اسقِني من مائك فتصب لها من قربتها ؛ فيعود دماً في الإناء ، حَتَّى كانت تَقُولُ اجعليه في فِيكِ ثم مُجِّيهِ فِي فِيَّ فتأخذ في فِيهَا ماءً ، فإذا مَجّته في فِيهَا ؛ صَارَ دَماً ، وإنَّ فرعون اضطره العطشُ حتَّى مضغ الأشجار الرَّطْبَةَ فَصَارَ ماؤُها في فِيهِ مِلْحاً أجَاجاً ، فمكثُوا في ذلك سبعة أيام{[16740]} ،
فقالوا : يا مُوسى { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز } [ 134 ] . إلى آخر الآية .
أحدهما : أنَّهُ جمع : طُوفَانة ، أي : هو اسمُ جنس ك : قمح وقمحة ، وشعير وشعيرة .
وقيل : هو مصدرٌ كالنُّقْصَان والرُّجْحان ، وهذا قول المُبَرِّدِ في آخرين والأوّلُ قول الأخْفَشِ .
وقال : هو " فُعْلان " من الطَّواف ، لأنَّه يطوفُ حتَّى يَعُمَّ الأرضَ ، وواحدته في القياس " طُوفَانَة " ؛ وأنشد : [ الرمل ]
غَيَّرَ الجِدَّةَ مِنْ آيَاتِهَا *** خُرُقُ الرِّيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ{[16741]}
والطُّوفان : المَاءُ الكثير ، قاله اللَّيْثُ ؛ وأنشد للعجّاج : [ الرجز ]
وعَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأثْأبَا{[16742]} *** . . .
شَبَّهَ ظلامَ اللَّيلِ بالماءِ الذي يَغْشَى الأمكِنة .
وقال أبُو النَّجْمِ : [ الرجز ]
وَمَدَّ طُوفانٌ مُبيدٌ مَدَدَا *** شَهْراً شَآبيبَ وشَهْراً بَرَدَا{[16743]}
وقيل : الطُّوفان من كُلِّ شيءٍ : ما كان كثيراً مُحيطاً مُطْبقاً بالجماعة من كُلِّ جهة كالمَاءِ الكثيرِ ، والقَتْلِ الذَّريع ، والمَوْتِ الجارفِ ، قاله الزَّجَّاجُ .
وقد فَسَّرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالموتِ تارةً ، وبأمرٍ من اللَّهِ أخرى ، وتلا قوله : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] وهذه المادَّةُ وإن كانت قد تَقدَّمَتْ في " طَائِفَة " إلاَّ أنَّ لهذه البنية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة .
والجَرَادُ معروف ، وهو جَمْعُ : جَرَادةٍ ، الذَّكَرُ والأنْثَى فيه سواء .
يقال : جَرَادَةٌ ذَكَرٌ وجَرَادة أنْثى ، ك : نَمْلَة ، وحمامة .
قال أهلُ اللُّغَةِ : وهو مشتقٌّ من " الجَرْدِ " .
قالوا : والاشتقاقُ في أسماءِ الأجْنَاس قليلٌ جِداً .
يقال : أرْضٌ جَرْدَاء ، أي : مَلْسَاء وثَوْبٌ جَرْدٌ ، إذا ذَهَبَ زئبره .
قال القرطبيُّ : اختلف الفُقهَاءُ في جواز قتل الجَرَادِ .
فقيل : يُقتل ، لأنَّ في تركها فساد الأموال ، وقد رخَّصَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أخذَ ماله ، فالجرادُ إذا أراد فسادَ الأموال كانت أوْلَى بجوازِ قتلها ، كما أنَّهم اتفقوا على جواز قتل الحيّة ، والعقرب ؛ لأنَّهُمَا يُؤذِيَان النَّاس فكذلك الجَرَادُ .
وروى ابْنُ ماجَةَ عن أنس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا دَعَا على الجراد قال : " اللَّهُمَّ أهْلِك كِبارَهُ واقْتُل صغَارَهُ ، وأفْسِد بيضَه ، واقطع دابرهُ ، وخُذْ بأفْواهِه عن مَعَايِشِنَا وأرْزَاقنَا إنَّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ " {[16744]} .
فقال رجل : يَا رسُول اللَّهِ ، كيف تَدْعُو إلى جُنْد من أجْنَادِ اللَّهِ بقطع دَابره ؟
قال : " إنَّ الجراد نثرة حوت في البَحْرِ " وهذا قول جمهور الفقهاءِ .
وقيل : لا يُقْتَلُ ، لأنَّه خلق عظيم من خَلْقِ اللَّهِ يأكل من رزق اللَّهِ .
وقد رُوِي " لا تَقْتُلُوا الجَرَادَ فإنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الأعْظَمُ "
والقُمَّلُ : قيل : هي القِرْدَان ، وقيل : دوابُّ تشبهها أصْغَرَ مِنْهَا .
وقال سعيدُ بن جبير : هو السُّوسُ الذي يخرج من الحِنْطة{[16745]} .
وقال ابْنُ السِّكِّيت ، إنَّه شيء يقع في الزَّرع ليس بجرادٍ ؛ فيأكل السُّنبلة ، وهي غضة قبل أن تقوى ، وحينئذٍ يطولُ الزَّرعُ ولا سنبل له .
وقيل : إنَّهَا الحمنان الواحدة : حَمْنَانَة ، نوع من القِرْدَان .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قُرَى مصر تدعى " بعين شمس " فذهب موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاهُ فانْهَالَ عليهم القُمَّل{[16746]} ، وعلى هذا هو القَمْل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه ، ويؤيد هذا قراءة الحسن{[16747]} " والقَمْل " بفتح القاف وسكون الميم ، فيكونُ فيه لغتان : القُمَّل " كقراءة العامةِ و " القَمْل " كقراءة الحسن البصري .
وقيل : القملُ البراغيث ، وقيل : الجعلان .
والضفَادعُ : جمع ضِفْدَع ، بزنة دِرْهَم ، ويجوز كسر دَالِهِ فتصير بزنة " زِبْرِج " وقدْ تُبْدَلُ عَينُ جمعه ياء ، كقوله : [ الرجز ]
وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ *** ولِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ{[16748]}
وشَذَّ جمعُهُ على : ضِفْدَعَات ، والضِّفْدَعُ : مؤنَّث ، وليس بمذكر ، فعلى هذا يُفَرَّقْ بين مذكّره ومؤنثه بالوصفِ .
فيقال : ضِفْدَع ذكر وضفدع أنثى ، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاء التأنيث ، نحو حمامة ، وجرادة ، ونملة .
روى أبُو داوود وابنُ ماجةَ عن أبي هريرة قال : نَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم{[16749]} عن قتل : الصُّرَدِ والضِّفْدَع ، والنَّمْلَةِ ، والهُدْهُدِ . ولمَّا خرج إبراهيمُ - عليه السلام - من الشَّام إلى الحَرَم في بناء البيتِ كانت السِّكينَة معه والصُّرَدُ ، فكان الصرد دليله إلى الموضع ، والسكينةَ مقداره ، فلمَّا صار إلى البقعَةِ ؛ وقعت السَّكينة على موضع البيتِ ونادت : ابْنِ يَا إبراهيمُ على مقدار ظِلِّي .
فنهى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الصُّرَدِ ؛ لأنه كان دليل إبراهيم ، وعن قتل الضّفدع ؛ لأنها كانت تصب الماء على نَارِ إبراهيم ، ولما تسلَّطت على فرعون جاءت ، وأخذت الأمكنة كلها ، فلما صارت إلى التَّنُّور وثَبَتْ فيها وهي نار تسعر طاعة لله ، ولكن نار يسعرها الله بها ؛ فَجَعَلَ " نقيقها " تسبيحاً .
قال زيد بنُ أسلم : الدَّم الذي سلطة اللَّهُ عليهم كان الرُّعَاف ، ونقله الزمخشريُّ .
قوله : " آيَاتٍ مفصّلات " . آياتٍ منصوبة على الحال من تلك الأشياءِ المتقدّمة أي : أرْسَلْنَا عليهم هذه الأشياءَ حال كونها علاماتٍ مميزاً بعضها من بعض ، ومُفَصَّلاتٍ فيها وجهان :
أحدهما : مُفَصَّلات أي : مُبينات لا يشكلُ على عاقل أنَّهَا من آيات اللَّهِ التي لا يقدر عليها غيره .
وقي : مُفَصّلات أي : فَصَّلَ بعضها من بعض بزمانٍ يمتحن فيه أحوالهم هل يقبلون الحُجَّة ، أو يستمرون على المُخالفةِ ؟ فاسْتَكْبَرُوا عن عبادة اللَّهِ { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } .
فإن قيلَ : لمَّا علم اللَّهُ تعالى من حالهم أنَّهُم لا يؤمنون بتلك المُعجزاتِ ، فما الفائدة في تواليها ؟ وقوم مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم طلبُوا المعجزات فما أجِيبُوا فما الفرق ؟
فالجوابُ : قال بعضُ أهل السُّنَّةِ : يفعلُ اللَّهُ ما يشاءُ ، ويحكم ما يريد .
وقال آخرون : إنَّمَا فعلَ ذلك زَجْراً لنا ، وموعظةً وإعلاماً بأنَّ المُصرَّ على الكُفْرِ يستوجبُ العذابَ المؤبّد . وأجاب المُعتزلَةُ : برعاية الصالح ، فلعلَّهُ علم من قوم مُوسَى أنَّ بعضهم كان يؤمن عند ظهور المعجزة الزَّائدة كمؤمن آل فرعونَ وكالسَّحرةِ ، وعَلِمَ من قوم محمَّد صلى الله عليه وسلم أنَّ أحداً منهم لا يَزْداد بِظُهُورِ المُعْجِزَةِ الزَّائِدِة إلاَّ كُفْراً . فظهر الفرقُ .