قوله : " إنْ عُدْنَا " شرط جوابه محذوف عند الجمهور أي : فقد افترينا ، حذف لدلالة ما تقدم عليه ، وعند أب زيد والمبرد{[16514]} والكوفيين هو قوله : " فقد افتَرْينا " وهو مردود بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء .
وقال أبو البقاء{[16515]} : " قد افترينا بمعنى المستقبل ؛ لأنه لم يقع ، وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب " إنْ عُدْنا " وساغ دخولُ " قد " هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع فقرنوه ب " قد " ، وكأنَّ المعنى : قد افترَيْنا الآن إن هَمَمْنا بالعود " .
أحدهما : أنها استئناف إخبار فيه معنى التعجب ، قاله الزمخشري{[16516]} ، كأنه قيل : ما أكذبنا على الله إن عُدْنا في الكفر .
والثاني : أنها جواب قسم محذوف حذفت اللام منه ، والتقدير : والله لقد افترينا ، ذكره الزمخشري أيضاً ، وجعله ابن عطية احتمالاً{[16517]} وأنشد : [ الكامل ]
بَقَّيْتُ مَالِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلَى *** وَلَقِيتُ أضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ{[16518]}
قال : " كما تقول : افتريتُ على الله إن كلَّمت فلاناً " ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيت الذي بعد هذا ، وهو محلُّ الفائدة ؛ لأنه مشتمل على الشرط وهو : [ الكامل ]
إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدِ غَارَةً *** لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نهابِ نُفُوسِ{[16519]}
قوله : { بَعْدَ إذْ نَجَّانَا } منصوب ب " نعود " أي : ما يكون ولا يستقيم لنا عود بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها .
وفي معنى { نَجَّانَا الله مِنْهَا } وجوه :
الأول : علمنا قبحه وفساده وبطلانه .
الثاني : أن الله نجّى قومه من تلك الملة ، وإنما نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منهم تغليباً للأكثر .
الثالث : أن القوم أوهموا المستضعفين أنه كان على ملتهم ، فقوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } أي على حسب معتقدكم .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله } في هذا الاستثناء وجهان :
والثاني : أنه منقطع . ثم القائلون بالاتصال مختلفون : فمنهم من قال : هو مستنثى من الأوقات [ العامة ] والتقدير : وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك ، وهذا متصور في حقِّ مَنْ عدا شعيباً ، فإن الأنبياء لا يشاء الله ذلك لهم ؛ لأنه عَصَمهم .
ومنهم من قال : " هو مستثنى من الأحوال العامة والتقدير : ما يكون لنا أن نعود فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى " .
وقال ابن عطية : " ويُحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعَبَّد الله [ به ] المؤمنين ممَّا تفعلهُ الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم : إنا لا نعودُ في مِلَّتكم ، ثم خشي أن يتعَبَّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملَّتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبَّدَ به{[16520]} " .
قال أبو حيان{[16521]} : " وهذا الاحتمال لا يَصِحُّ لأن قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر " .
قال شهاب الدين{[16522]} : " قد حكى ابن الأنباري هذا القول عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإرادة ثم قال : وهذا القول مُتَنَاولهُ بعيد ، لأن فيه تبعيض الملّة " .
وقيل : هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب .
قال ابن عطية{[16523]} : " ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبال الاستثناء ، ولو كان الكلام : { إِلاَّ إن شَاءَ } قوي هذا التأويل " .
وهذا الذي قاله سهوٌ ؛ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد " إنْ " الشرطية ، كما يتخلَّص المضارع له ب " أنْ " المصدرية .
وقيل : إن الضمير في قوله : " فيها " ليس عائداً على المِلَّة ، بل عائد على الفِرْية ، والتقدير : وما يكون لنا أن نعود في الفِرْية إلا أن يشاء ربنا ، وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه .
استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر{[16524]} ، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير .
فأمّا وجه استدلال أهل السنة فمن وجهين :
الأول : قوله : { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } [ يدل على أن المنجي من الكفر هو الله - تعالى - ، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد ، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله { إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } ] {[16525]} .
الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ، وتلك الملة كفر ، فكان هذا تجويزاً من شعيب - عليه السلام - أن يعيدهم إلى الكفر{[16526]} .
قال الواحدي{[16527]} : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ؛ ألا ترى إلى قوله الخليل - عليه الصلاة والسلام - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] وكان محمد صلى الله عليه وسلم يقول : " يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلى دِيْنِكَ وطاعَتِكَ " {[16528]} . وقال يوسف - عليه السلام : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } [ يوسف : 101 ] .
وأجاب المعتزلة بوجوه{[16529]} :
أحدها : أن قوله : " ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [ الله ] أن يعيدنا إليها قضية [ شرطية ، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء .
وثانيها : أن هذا مذكور على طريق التبعيد ]{[16530]} كما يقال : لا أفعل ذلك إلاَّ إذا ابيضّ القَارُ وشاب الغراب ، فعلّق شعيب - عليه السلام - عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلاً على طريق التبعيد لا على وجه الشرط .
وثالثها : قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله } ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو ؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره ، وما كان جائزاً كان مراداً لله - تعالى - ، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مراداً لله - تعالى - كما أن المسح على الخفين مرادٌ لله تعالى ، وإن كان غسل الرجلين أفضل{[16531]} .
ورابعها : أن المراد بقوله : { لنخرجنك يا شعيب } أي من القرية ، فيكون المراد بقوله : { أن نعود فيها } أي القرية .
وخامسها : أن نقول : يجب حمل المشيئة هاهنا على الأمر ؛ لأن { وما كان لنا أن فيها إلاَّ أن يشاء الله } معناه : فإنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها ، فقوله : { لنا أن نعود فيها } أي يكون ذلك العود جائزاً ، والمشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل ، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عنده ولا يجوز له فعله ، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر ، فثبت أن المراد من المشيئة هاهنا الأمر ، فكان التقدير إلاَّ أن يأمر الله [ بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها ، والشريعة المنسوخة لا يبعد أن يأمر الله ]{[16532]} بالعمل بها مرة أخرى ، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم{[16533]} .
وسادسها : قال الجبائي{[16534]} : المراد من الملّة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما ، فقال شعيب : { وما كان لنا أن نعود في ملتكم } فلما دخل في ذلك كل ما هم عليه ، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير مسنوخ ، لا جرم قال : { إلا أن يشاء الله } والمعنى : إلا أن يشاء الله بقاء بعضها ، فيدلّنا عليه ، فحينئذ نعود إليها ، فهذا الاستثناء يعود إلى الأحكام التي يجوز النسخ والتغيير فيها ، ولا يعود إلى ما لا يقبل التغيير ألبتة ، فهذه أسئلة القوم{[16535]} .
وتمسك المعتزلة بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين{[16536]} :
الأول : أن ظاهر قوله { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله } يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها ، وذلك يقتضي أن كلَّ ما شاء الله جوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيه ، ولم يكن حراماً ، قالوا : وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد حصوله كان حسناً مأذوناً فيه ، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى .
الثاني : أن قولهم : { لنخرجنّك أو لتعودُنَّ } لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم ، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك القرية أيضاً بخلقه ، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله ، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة .
واعلم أنه لمّا تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى بقية الآيات في هذا الباب .
قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } نصب " عِلْماً " على التمييز وهو منقول من الفاعلية ، تقديره : وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 24 ] والمعنى : أحاط علمه بكل شيء .
ثم قال : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } فيما توعدوننا به ، ثم دعا شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } .
قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : " احكم واقض " {[16537]} .
وقال الفراء : " وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح ؛ لأنه يفتح مواضع الحقِّ " .
وعن ابن عباس قال : " ما كنت أدري قوله { ربنا افتح بيننا وبين قومنا } حتَّى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : أفاتحك أي : أحاكمك{[16538]} " ، وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حمير .
وقيل : بلغة مُرَاد وأنشد : [ الوافر ]
ألاَ أبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولاً *** بِأنِّي عَنْ فَتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ{[16539]}
قال الزجاج : وجائز أن يكون قوله : { افتح بيننا وبين قومنا بالحق } أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبني قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدلُّ على كونهم مبطلين ، وعلى كون شعيب وقومه محقين ، وعلى هذا المراد بالفتح الكشف والتبيين ، وكرر { بيننا وبين قومنا } بخلاف قوله : { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } [ الأعراف : 87 ] زيادة في تأكيد تمييزه ، ومَنْ تبعه من قومه ثم قال : { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ أي : خير الحاكمين أو خير المظهرين ، وذا معنى قول من على المعنيين ]{[16540]} ، والمراد به الثناء على الله تعالى .