اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

قوله : " إنْ عُدْنَا " شرط جوابه محذوف عند الجمهور أي : فقد افترينا ، حذف لدلالة ما تقدم عليه ، وعند أب زيد والمبرد{[16514]} والكوفيين هو قوله : " فقد افتَرْينا " وهو مردود بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء .

وقال أبو البقاء{[16515]} : " قد افترينا بمعنى المستقبل ؛ لأنه لم يقع ، وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب " إنْ عُدْنا " وساغ دخولُ " قد " هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع فقرنوه ب " قد " ، وكأنَّ المعنى : قد افترَيْنا الآن إن هَمَمْنا بالعود " .

وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها استئناف إخبار فيه معنى التعجب ، قاله الزمخشري{[16516]} ، كأنه قيل : ما أكذبنا على الله إن عُدْنا في الكفر .

والثاني : أنها جواب قسم محذوف حذفت اللام منه ، والتقدير : والله لقد افترينا ، ذكره الزمخشري أيضاً ، وجعله ابن عطية احتمالاً{[16517]} وأنشد : [ الكامل ]

بَقَّيْتُ مَالِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلَى *** وَلَقِيتُ أضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ{[16518]}

قال : " كما تقول : افتريتُ على الله إن كلَّمت فلاناً " ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيت الذي بعد هذا ، وهو محلُّ الفائدة ؛ لأنه مشتمل على الشرط وهو : [ الكامل ]

إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدِ غَارَةً *** لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نهابِ نُفُوسِ{[16519]}

قوله : { بَعْدَ إذْ نَجَّانَا } منصوب ب " نعود " أي : ما يكون ولا يستقيم لنا عود بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها .

فصل في معنى التنجية

وفي معنى { نَجَّانَا الله مِنْهَا } وجوه :

الأول : علمنا قبحه وفساده وبطلانه .

الثاني : أن الله نجّى قومه من تلك الملة ، وإنما نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منهم تغليباً للأكثر .

الثالث : أن القوم أوهموا المستضعفين أنه كان على ملتهم ، فقوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } أي على حسب معتقدكم .

قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله } في هذا الاستثناء وجهان :

أحدهما : أنه متصل .

والثاني : أنه منقطع . ثم القائلون بالاتصال مختلفون : فمنهم من قال : هو مستنثى من الأوقات [ العامة ] والتقدير : وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك ، وهذا متصور في حقِّ مَنْ عدا شعيباً ، فإن الأنبياء لا يشاء الله ذلك لهم ؛ لأنه عَصَمهم .

ومنهم من قال : " هو مستثنى من الأحوال العامة والتقدير : ما يكون لنا أن نعود فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى " .

وقال ابن عطية : " ويُحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعَبَّد الله [ به ] المؤمنين ممَّا تفعلهُ الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم : إنا لا نعودُ في مِلَّتكم ، ثم خشي أن يتعَبَّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملَّتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبَّدَ به{[16520]} " .

قال أبو حيان{[16521]} : " وهذا الاحتمال لا يَصِحُّ لأن قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر " .

قال شهاب الدين{[16522]} : " قد حكى ابن الأنباري هذا القول عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإرادة ثم قال : وهذا القول مُتَنَاولهُ بعيد ، لأن فيه تبعيض الملّة " .

وقيل : هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب .

قال ابن عطية{[16523]} : " ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبال الاستثناء ، ولو كان الكلام : { إِلاَّ إن شَاءَ } قوي هذا التأويل " .

وهذا الذي قاله سهوٌ ؛ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد " إنْ " الشرطية ، كما يتخلَّص المضارع له ب " أنْ " المصدرية .

وقيل : إن الضمير في قوله : " فيها " ليس عائداً على المِلَّة ، بل عائد على الفِرْية ، والتقدير : وما يكون لنا أن نعود في الفِرْية إلا أن يشاء ربنا ، وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه .

فصل في بين المشيئة

استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر{[16524]} ، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير .

فأمّا وجه استدلال أهل السنة فمن وجهين :

الأول : قوله : { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } [ يدل على أن المنجي من الكفر هو الله - تعالى - ، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد ، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله { إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } ] {[16525]} .

الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ، وتلك الملة كفر ، فكان هذا تجويزاً من شعيب - عليه السلام - أن يعيدهم إلى الكفر{[16526]} .

قال الواحدي{[16527]} : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ؛ ألا ترى إلى قوله الخليل - عليه الصلاة والسلام - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] وكان محمد صلى الله عليه وسلم يقول : " يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلى دِيْنِكَ وطاعَتِكَ " {[16528]} . وقال يوسف - عليه السلام : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } [ يوسف : 101 ] .

وأجاب المعتزلة بوجوه{[16529]} :

أحدها : أن قوله : " ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [ الله ] أن يعيدنا إليها قضية [ شرطية ، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء .

وثانيها : أن هذا مذكور على طريق التبعيد ]{[16530]} كما يقال : لا أفعل ذلك إلاَّ إذا ابيضّ القَارُ وشاب الغراب ، فعلّق شعيب - عليه السلام - عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلاً على طريق التبعيد لا على وجه الشرط .

وثالثها : قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله } ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو ؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره ، وما كان جائزاً كان مراداً لله - تعالى - ، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مراداً لله - تعالى - كما أن المسح على الخفين مرادٌ لله تعالى ، وإن كان غسل الرجلين أفضل{[16531]} .

ورابعها : أن المراد بقوله : { لنخرجنك يا شعيب } أي من القرية ، فيكون المراد بقوله : { أن نعود فيها } أي القرية .

وخامسها : أن نقول : يجب حمل المشيئة هاهنا على الأمر ؛ لأن { وما كان لنا أن فيها إلاَّ أن يشاء الله } معناه : فإنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها ، فقوله : { لنا أن نعود فيها } أي يكون ذلك العود جائزاً ، والمشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل ، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عنده ولا يجوز له فعله ، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر ، فثبت أن المراد من المشيئة هاهنا الأمر ، فكان التقدير إلاَّ أن يأمر الله [ بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها ، والشريعة المنسوخة لا يبعد أن يأمر الله ]{[16532]} بالعمل بها مرة أخرى ، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم{[16533]} .

وسادسها : قال الجبائي{[16534]} : المراد من الملّة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما ، فقال شعيب : { وما كان لنا أن نعود في ملتكم } فلما دخل في ذلك كل ما هم عليه ، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير مسنوخ ، لا جرم قال : { إلا أن يشاء الله } والمعنى : إلا أن يشاء الله بقاء بعضها ، فيدلّنا عليه ، فحينئذ نعود إليها ، فهذا الاستثناء يعود إلى الأحكام التي يجوز النسخ والتغيير فيها ، ولا يعود إلى ما لا يقبل التغيير ألبتة ، فهذه أسئلة القوم{[16535]} .

وتمسك المعتزلة بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين{[16536]} :

الأول : أن ظاهر قوله { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله } يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها ، وذلك يقتضي أن كلَّ ما شاء الله جوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيه ، ولم يكن حراماً ، قالوا : وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد حصوله كان حسناً مأذوناً فيه ، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى .

الثاني : أن قولهم : { لنخرجنّك أو لتعودُنَّ } لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم ، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك القرية أيضاً بخلقه ، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله ، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة .

واعلم أنه لمّا تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى بقية الآيات في هذا الباب .

قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } نصب " عِلْماً " على التمييز وهو منقول من الفاعلية ، تقديره : وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 24 ] والمعنى : أحاط علمه بكل شيء .

ثم قال : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } فيما توعدوننا به ، ثم دعا شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } .

قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : " احكم واقض " {[16537]} .

وقال الفراء : " وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح ؛ لأنه يفتح مواضع الحقِّ " .

وعن ابن عباس قال : " ما كنت أدري قوله { ربنا افتح بيننا وبين قومنا } حتَّى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : أفاتحك أي : أحاكمك{[16538]} " ، وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حمير .

وقيل : بلغة مُرَاد وأنشد : [ الوافر ]

ألاَ أبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولاً *** بِأنِّي عَنْ فَتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ{[16539]}

قال الزجاج : وجائز أن يكون قوله : { افتح بيننا وبين قومنا بالحق } أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبني قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدلُّ على كونهم مبطلين ، وعلى كون شعيب وقومه محقين ، وعلى هذا المراد بالفتح الكشف والتبيين ، وكرر { بيننا وبين قومنا } بخلاف قوله : { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } [ الأعراف : 87 ] زيادة في تأكيد تمييزه ، ومَنْ تبعه من قومه ثم قال : { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ أي : خير الحاكمين أو خير المظهرين ، وذا معنى قول من على المعنيين ]{[16540]} ، والمراد به الثناء على الله تعالى .


[16514]:ينظر: المقتضب 2/66.
[16515]:ينظر: الإملاء 1/280.
[16516]:ينظر: الكشاف 2/130.
[16517]:ينظر: المحرر الوجيز 2/428.
[16518]:تقدم.
[16519]:تقدم.
[16520]:في أ: يتعبده.
[16521]:ينظر : البحر المحيط 4/346.
[16522]:ينظر: الدر المصون 3/304.
[16523]:ينظر: المحرر الوجيز 2/429.
[16524]:ينظر: تفسير الرازي 14/145.
[16525]:سقط من ب.
[16526]:ينظر تفسير الرازي 14/145.
[16527]:ينظر تفسير الرازي 14/145.
[16528]:أخرجه مسلم 4/2045 كتاب القدر: باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء (17/2654) وأخرجه الترمذي 4/390-391 كتاب القدر: باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن (2140) وقال: وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمر وعائشة، وهذا حديث حسن، وهكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس، وروى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.
[16529]:ينظر: الفخر الرازي 14/145.
[16530]:سقط من أ.
[16531]:قد أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين، ولم يخالف في ذلك من يعتد به في الإجماع كما صرح بذلك الشيخ أبو حامد وغيره – وعليه الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء. وتنحصر أقوال المخالفين في ثلاثة أقوال: الأول: أن الواجب مسحهما، وبه قالت الإمامية من الشيعة. الثاني: أن المتوضىء مخير بين غسلهما ومسحهما، وعليه الحسن البصري، وهو محكي عن ابن جرير الطبري، وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي. الثالث: أن الواجب غسلهما ومسحهما جميعا، وعليه بعض أهل الظاهر كـ "داود" والصواب هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور، لأمور: أولا: الأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه –صلى الله عليه وسلم- وفيها أنه غسل رجليه. منها أولا: ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جماعة توضئوا وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال: "ويل للأعقاب من النار" وفيه دلالة على أن استيعاب الرجلين بالغسل واجب. وثانيا – ما روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدميه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فأحسن وضوءك". وثالثا: ما روى أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يال رسول الله، كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا" وذكر الحديث: إلى أن قال "ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا. ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم". وهو من أحسن الأدلة في المسألة. ورابعا : ما قال البيهقي: روينا في الحديث الصحيح عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم – في الوضوء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، كما أمره الله تعالى. قال البيهقي: وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أمر بغسلهما. وخامسا: حديث لقيط بن صبرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وخلل بين الأصابع" وهو حديث صحيح، رواه الترمذي وغيره، وصححوه. وفيه دلالة للغسل –وسادسا: بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه". وثانيا: الإجماع قال الحافظ في الفتح: "ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك "يعني غسل الرجلين" إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك "اهـ". رواه سعيد بن منصور اهـ شوكاني. ثالثا: أنهما عضوان محدودان في كتاب الله تعالى كاليدين، فإنه قال: (إلى الكعبين) كما قال: "إلى المرافق" فكان واجبهما الغسل كاليدين واحتج من لم يوجب غسل الرجلين أولا بقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} بالجر على إحدى القراءتين في السبع، بعطف الأرجل على الرءوس، كما عطف الأيدي على الوجوه، فعطف الممسوح على الممسوح. وثانيا: بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "عضوان مغسولان وعضوان ممسوحان" وثالثا: بما روي عن أنس أنه بلغه أن الحجاج خطب فقال: " أمر الله تعالى بغسل الوجه واليدين وغسل الرجلين" فقال أنس: صدق الله و كذب الحجاج. "فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم". قرأها جرا. ورابعا: بما روي عن ابن عباس أنه قال: "إنما هما غسلتان ومسحتان" وعنه أيضا: "أمر الله بالمسح" وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين ويأبى الناس إلا الغسل. وخامسا: بما روي عن رفاعة من حديث المسيء صلاته. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمره الله تعالى، فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه". وسادسا: بما روي عن علي رضي الله عنه أنه توضأ فأخذ حفنة من ماء، فرش على رجله اليمنى، وفيها نعله ثم فتلها، ثم صنع بالأخرى كذلك. وسابعا: بقياس حاصله: أنه عضو لا مذخل له في التيمم، فجاز مسحه كالرأس. والجواب عن احتجاجهم بالآية: أنها قرئت بالنصب والجر والرفع، وقراءة النصب والجر سبعيتان. قرأ بالنصب نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه. وقرأ بالجر ابن كثير وحمزة وأبو عمر وعاصم في رواية أبي بكر عنه. وأما الرفع فقراءة الحسن. أما قراءة النصب فيكون أرجلكم فيها معطوفا على الوجه والأيدي. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ بالنصب، وقال: هو من المقدم والمؤخر يعني أن "وامسحوا برؤوسكم" مقدم على "وأرجلكم" وهو مؤخر عنه – ونظم الآية على الترتيب هكذا: "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم" وقرأ ابن عباس بالنصب، وقال: يرجع إلى الغسل، وكذلك مجاهد وعروة. والنصب صريح في الغسل فعلى هذه القراءة لا دلالة فيها على المسح. وأما قراءة الرفع فأرجلكم مبتدأ والخبر يحتمل أن يكون مغسولة أو ممسوحة على السواء. ولعل هذه شبهة القائلين بالتمييز بين الغسل والمسح. لكن أدلة الجمهور المتقدمة تعين أن الخبر مغسولة. وأما قراءة الجر فالجواب عنها من وجوه: -أولا: قال سيبويه والأخفش وغيرهما: إن جرها بالجوار للرؤوس "لا بحكم العطف عليها". مع أن الأرجل منصوبة. كما تقول العرب: "جحر ضب خرب" بجر خرب على جوار ضب، وهو مرفوع صفة لجحر، ومنه في القرآن {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم}، فجر أليما على جوار يوم، وهو منصوب صفة لعذاب، ولا يعكر على الجر بالمجاورة وجود الواو، فإن الجر بالمجاورة مع الواو مشهور في أشعارهم. من ذلك قول الشاعر: لم يبق إلا أسير غير منفلت *** وموثق في عقال الأسر مكبول فجر موثقا لمجاورته منفلت، وهو مرفوع معطوف على أسير. فإن قيل: الجر بالمجاورة إنما يكون فيما لا لبس فيه، وهذا فيه لبس. قلنا: لا لبس هنا لأنه حدد بالكعبين والمسح لا يكون إليهما اتفاقا ويدل على أن الجر بالمجاورة لا بالعطف أن المسح لو كان في كتاب الله تعالى لكان الاتفاق فيه، والاختلاف في الغسل. وقد اتفقنا على جواز الغسل. على أن السنة والإجماع قد بينا أن المراد من فرض الرجلين الغسل. ومع هذا فلا لبس مطلقا. وثانيا: قال أبو علي الفارسي قراءة الجر وإن كانت عطفا على الرؤوس، فالمراد بها الغسل، لأن العرب تسمي خفيف الغسل مسحا، ولهذا إنهم يقولون: مسحت للصلاة. يريدون به الغسل. وإنما عبر عن غسل الرجلين بالمسح طلبا للاقتصاد فيه، لأنهما مظنة الإسراف، لغسلهما بالصب عليهما. وبجعل الباء المقدرة على هذا
[16532]:سقط من أ.
[16533]:ينظر: تفسير الرازي 14/146.
[16534]:ينظر: المصدر السابق.
[16535]:ينظر: تفسير الرازي 14/146.
[16536]:ينظر: تفسير الرازي 14/146.
[16537]:أخرجه الطبري في تفسيره 6/4-5 عن ابن عباس والحسن وقتادة. وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/191 وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
[16538]:أخرجه الطبري في تفسيره 6/5 وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/191) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن الأنباري في "الوقف والابتداء" والبيهقي في "الأسماء والصفات".
[16539]:البيت ينظر: أمالي القالي 2/281 ومجاز القرآن 1/220، والبحر 4/344 والصحاح (رسل)، واللسان (رسل)، و "فتح" والتاج (فتح)، إصلاح المنطق 112. الدر المصون 3/304، والطبري 9/3 والقرطبي 13/94، والسمط 927، وفي عزو البيت اختلاف، قال الميمني في السمك ما حرفه: "البيت رواه يعقوب في الإصلاح 1/188 غير معزوّ، وروايته : "بني عمرو" وكذا في اللسان (فتح) منسوبا للأسعر الجعفي، وفي زيادات الجمهرة 2/4 برواية "بني بكر بن عبد" منسوبا لأعشى قيس (ولم يرو له)... ولكن ليس ثمة أحد من العشو في كندة، فـ "الأعشى" فيه مصحف "الأسعر" وهو من جعفي بطن من كندة، وقال أبو محمد بن السيرافي (وعنه اللسان اللسان مادة قتا): وجدت هذا البيت للشويعر الجعفي، على خلاف ما رواه يعقوب، ثم وجدت لمحمد بن حمران أبي حمران في الحماسة الصغرى لأبي تمام ص 46: أبلغ بني حمران أنـ *** ـني عن عداوتكم غني بتقييد القافية في تسعة أبيات (السمط 928)، والجعفي هو مرثد بن حمران الجعفي، يكنى أبا حمران (ولعل محمد بن حمران مصحف مرثد..) وهو جاهلي، راجع ترجمته في المؤتلف 47، والسمط 94".
[16540]:سقط من أ.