اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ} (12)

قوله تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة } في " إذْ " أوجهٌ :

أحدها : أنَّهُ بدلُّ ثالث من قوله { وَإِذْ يَعِدُكُمُ } .

الثاني : أن ينتصب بقوله " يُثَبِّتَ " .

قالهما الزمخشريُّ ولم يبن ذلك على عودِ الضمير .

وأمَّا ابنُ عطية{[17202]} : فبناه على عَوْدِ الضَّمير في قوله " بِهِ " فقال : العاملُ في " إذْ " العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها ، ولو قدَّرناهُ قريباً لكان قوله : " ويُثَبِّتَ " على تأويل عوده على الرَّبْطِ .

وأمَّا على تأويل عوده على : " المَاءِ " فيقلق أن يعمل " ويُثَبِّتَ " في " إذ " وإنَّما قلق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي ، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به من تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النُّعاس ، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النُّعاس والإيحاءُ كانا وقت القتال .

قوله : " أنِّي معَكُمْ " مفعولٌ ب " يُوحِي " أي : يوحي كوني معكم بالغلبةِ والنصر .

وقرأ عيسى{[17203]} بن عمر - بخلافٍ عنه - " إنِّي مَعَكُمْ " بكسرِ الهمزةِ وفيه وجهان :

أحدهما : أنَّ ذلك على إضمار القول ، وهو مذهب البصريين .

والثاني : إجراء " يُوحِي " مُجْرَى القول ؛ لأنَّهُ بمعناه ، وهو مذهب الكوفيين .

فصل

في المعنى وجهان : أحدهما : أنَّه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنَّهُ تعالى معهم أي مع الملائكة حال إرسالهم رِدْءاً للمسلمين .

والثاني : أنَّهُ تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم ، وثبتوهم ، وهذا أولى ؛ لأن المقصود إزالة التَّخويف ، والملائكةُ لم يخافوا الكُفَّار ، وإنَّما الخائف هم المسلمون .

ثم قال : { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } في كيفيَّةِ هذا التَّثْبيت وجوهٌ : فقيل : إنَّهم عرَّفُوا الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله ناصر المؤمنين والرَّسول عرَّف المؤمنين ذلك ، فهذا هو التثبيتُ .

وقيل : إنَّ الشيطان كما يُمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان ، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهامِ إليه ، فالتثبيت من هذا الباب .

وقيل : إنَّ الملائكة كانوا يتشبَّهُون بصورِ رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنَّصر والفتح ، والظَّفَرِ .

قول : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } وهذا من النعم الجليلة ، لأنَّ أمير النفس هو القلب فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّهُ ربط قلوب المؤمنين أي : قوَّاها ، وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرُّعْبَ في قلوب الكافرينَ ، فكان ذلك من أعظمِ نعم الله تعالى على المؤمنين .

قوله : " فاضْرِبُوا " قيل : هذا أمر للملائكة متصلٌ بقوله تعالى : " فَثَبِّتُوا " .

وقيل : أمر للمؤمنين وهو الصَّحيح لما تقدَّم من أنَّ الملائكة لم ينزلوا للمقاتلة ، بل لتقوية قُلُوبِ المؤمنين وتثبيتهم .

قوله : " فوْقَ الأعناقِ " فيه أوجه :

أحدها : أنَّ " فوْقَ " باقيةٌ على ظرفيتها والمفعولُ محذوفٌ ، أي : فاضربوهم فوق الأعناقِ . علَّمَهُم كيف يضربونهم .

والثاني : أنَّ " فوْقَ " مفعولٌ به على الاتَّساع ؛ لأنه عبارةٌ عن الرَّأسِ ، كأنَّه قيل : فاضربوا رُءوسهم ، وهذا ليس بجيد ؛ لأنَّهُ لا يتصرَّف .

وزعم بعضهم أنه يتصرَّف ، وأنك تقول : فوقُك رَأسُك برفع فوقك ، وهو ظاهرُ قول الزمخشريِّ ، فإنه قال : " فَوْقَ الأعْنَاقِ " أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنَّها مفاصلٌ .

الثالث : - وهو قول أبي عبيدة - : أنَّها بمعنى " على " أي : على الأعناقِ ويكون المفعولُ محذوفاً تقديره : فاضربوهم على الأعناق ، وهو قريبٌ من الأول .

الرابع : قال ابنُ قتيبة : هي بمعنى : " دون " .

قال ابن عطيَّة : " وهذا خطأ بيِّنٌ وغلطٌ فاحشٌ ، وإنَّما دخل عليه اللَّبْس من قوله : { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] أي : فما دونها وليست " فوق " هنا بمعنى " دون " وإنَّما المرادُ : فَمَا فوقها في القلَّة والصِّغَرِ " .

الخامس : أنها زائدةٌ أي : اضْرِبُوا الأعناقَ ، وهو قول أبي الحسنِ . وهذا عند الجمهور خطأ ؛ لأنَّ زيادة الأسماءِ لا يجوزُ .

قوله : { . . . مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يجوزُ أن يتعلَّق : " مِنْهُمْ " بالأمر قبله ، أي : ابتدئوا الضَّرب من هذه الأماكن ، وهذا الكلامُ مع ما قبله معناه : اضربوهم في جميع الأماكن والأعضاءِ من أعاليهم إلى أسافلهم ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من : " كُلَّ بنانٍ " لأنَّهُ في الأصل يجوزُ أن يكون صفةً لو تأخَّر ، قال أبُو البقاءِ : " ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من " بَنَانٍ " إذْ فيه تقديمُ حالِ المضافِ إليه على المضاف " . فكأنَّ المعنى : اضربوهم كيف ما كان .

قال الزمخشريُّ : يعني ضرب الهام .

قال : [ الوافر ]

. . . *** وأضْرِبُ هَامَة البْطَلِ المُشِيحِ{[17204]}

وقال : [ البسيط ]

غَشَّيْتُهُ وهْوَ في جَأواء بَاسِلَةٍ *** عَضْباً أصَابَ سَواءَ الرَّأسِ فانْفلقَا{[17205]}

وقال ابن عطية{[17206]} : ويُحتمل أن يريد بقوله : " فوق الأعْنَاقِ " وصْف أبلغِ ضرباتِ العنقِ ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس .

ثم قال : ومنه قوله : [ الوافر ]

جَعَلْتُ السَّيْفَ بَيْنَ الجِيدِ مِنْهُ *** وبَيْنَ أسِيلِ خَدَّيْهِ عِذَارَا{[17207]}

وقيل : هذا مِنْ ذكرِ الجزء وإرادة الكل ؛ كقول عنترة : [ الكامل ]

عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهار كأنَّمَا *** خُضِبَ البنَانُ ورأسُهُ بالعِظْلِمِ{[17208]}

والبَنَان : قيل : الأصابعُ ، وهو اسمُ جنسٍ ، الواحد : بنانةٌ ؛ قال عنترةُ : [ الوافر ]

وأنَّ الموتَ طوْعُ يَدِي إذا مَا *** وصَلْتُ بنانَهَا بالهِنْدُوَانِي{[17209]}

وقال أبو الهيثم : " البنانُ : المفاصِلُ ، وكل مفصل بنانة " .

وقيل : البنانُ الأصابع من اليدين والرِّجلين ، وجميع المفاصل من جميع الأعضاء ، وأنشد لعنترة : [ الطويل ]

وقَدْ كانَ فِي الهَيْجَاءِ يَحْمِي دِمَاءَهَا *** ويَضْرِبُ عِنْدَ الكَرْبِ كُلَّ بنانِ{[17210]}

وقد تُبْدلُ نونُه الأخيرة ميماً ؛ قال رؤبةُ : [ الرجز ]

يَا هَالَ ذاتَ المَنْطِقِ التَّمْتَامِ *** وكَفِّكِ المُخَضَّبِ البَنَامِ{[17211]}


[17202]:ينظر: المحرر الوجيز 2/507.
[17203]:ينظر: المحرر الوجيز 2/507، البحر المحيط 4/463، الدر المصون 3/403.
[17204]:عجز بيت لعمرو بن الإطنابة وصدره: "وإقحامي على المكروه نفسي" ينظر الشذور (345) ومعجم الشعراء 8 والعمدة لابن رشيق /29 واللسان (شيح) والكشاف 4/359 والدر المصون 3/404.
[17205]:البيت لـ "بلعاء بن قيس" . ينظر: الخزانة 6/556 والبحر المحيط 4/464، وابن يعيش 1/8 والكشاف 4/464 وشرح الحماسة 1/60 والدر المصون 3/404.
[17206]:ينظر: المحرر الوجيز 2/508.
[17207]:ينظر: البيت في البحر المحيط 4/465 والمحرر الوجيز 8/28 والدر المصون 3/404.
[17208]:تقدم.
[17209]:ينظر البيت في ديوانه 72 والقرطبي 7/379 والبحر المحيط 4/465، والدر المصون 3/405.
[17210]:ينظر البيت في ديوانه 70 ورواية الديوان هكذا: وكان لدى................ *** ويطعن عند الكسر كل طعان وينظر: البحر المحيط 4/465، والقرطبي 7/379 والدر المصون 3/405.
[17211]:ينظر: ملحق ديوانه ص 183، وجواهر الأدب ص 98، وسر صناعة الإعراب 422، وشرح التصريح 2/392، وشرح شافية ابن الحاجب 3/216، وشرح شواهد الشافية ص 455، وشرح المفصل 10/33، والمقاصد النحوية 4/580، وأوضح المسالك 4/401، وشرح الأشموني 3/860، والمقرب 2/176، والبحر المحيط 4/452، والدر المصون 3/405.