مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

قوله تعالى { وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا } .

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه ، ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين وبيان المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه :

الوجه الأول : أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده ، والسبب الظاهري هو الأبوان ، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري .

الوجه الثاني : أن الموجود إما قديم وإما محدث ، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ، ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله عليه السلام : « التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله » وأحق الخلق بصرف الشفقة إليه هما الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان فقوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله : { وبالوالدين إحسانا } إشارة إلى الشفقة على خلق الله .

الوجه الثالث : أن الاشتغال بشكر المنعم واجب ، ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى . وقد يكون أحد من المخلوقين منعما عليك ، وشكره أيضا واجب لقوله عليه السلام : « من لم يشكر الناس لم يشكر الله » وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين وتقريره من وجوه : أحدها : أن الولد قطعة من الوالدين ، قال عليه السلام : « فاطمة بضعة مني » وثانيها : أن شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما في إيصال الخير إلى الولد كالأمر الطبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه كالأمر الطبيعي ، ومتى كانت الدواعي إلى إيصال الخير متوفرة ، والصوارف عنه زائلة لا جرم كثر إيصال الخير ، فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة أكثر من كل نعمة تصل من إنسان إلى إنسان . وثالثها : أن الإنسان حال ما يكون في غاية الضعف ونهاية العجز ، يكون في إنعام الأبوين فأصناف نعمهما في ذلك الوقت واصلة إليه ، وأصناف رحمة ذلك الولد واصلة إلى الوالدين في ذلك الوقت ، ومن المعلوم أن الإنعام إذا كان واقعا على هذا الوجه كان موقعه عظيما . ورابعها : أن إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه وقد يمتزج بهذا الغرض سائر الأغراض ، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فقط . فكان الإنعام فيه أتم وأكمل ، فثبت أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد ، فبدأ الله تعالى بشكر نعمة الخالق وهو قوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله : { وبالوالدين إحسانا } والسبب فيه ما بينا أن أعظم النعم بعد إنعام الإله الخالق نعمة الوالدين .

فإن قيل : الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسيهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والمخافات ، فأي إنعام للأبوين على الولد ؟ حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد . وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة ، وقيل لأبي العلاء المعري : ماذا نكتب على قبرك ؟ قال اكتبوا عليه :

هذا ما جناه أبي علي *** وما جنيت على أحد

وقال في ترك التزوج والولد :

وتركت أولادي وهم في نعمة *** العدم التي سبقت نعيم العاجل

ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة *** ترمي بهم في موبقات الآجل

وقيل للأسكندر : أستاذك أعظم منة عليك أم والدك ؟ فقال : الأستاذ أعظم منة ، لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي أرتعني في نور العلم ، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه ، وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد ، ومن الكلمات المشهورة المأثورة ، خير الآباء من علمك .

والجواب : هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ، وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات ، فسقطت هذه الشبهات ، والله أعلم .

المسألة الثانية : قوله : { وبالوالدين إحسانا } قال أهل اللغة : تقدير الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وأن تحسنوا ، أو يقال : وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحسانا . قال صاحب «الكشاف » : ولا يجوز أن تتعلق الباء في { وبالوالدين } بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلا على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته . وقال الواحدي في «البسيط » : الباء في { وبالوالدين } من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرو ، وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق ، لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه ، والمثال المذكور ليس كذلك .

المسألة الثالثة : قال القفال : لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة ، وبحرف إلى أخرى ، وكذلك الإساءة ، يقال : أحسنت به وإليه . وأسأت به وإليه . قال الله تعالى : { وقد أحسن بي } وقال القائل :

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلت

وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين : أحدها : أنه تعالى قال في الآية المتقدمة : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين ، وذلك يدل على أن هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة . وثانيها : أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى ، وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة . وثالثها : أنه تعالى لم يقل : وإحسانا بالوالدين ، بل قال : { وبالوالدين إحسانا } فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام . ورابعها : أنه قال : { إحسانا } بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم ، والمعنى : وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا عظيما كاملا ، وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ، ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة ، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء ، وفي الأمثال المشهورة أن البادئ بالبر لا يكافأ .

ثم قال تعالى : { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لفظ «إما » لفظة مركبة من لفظتين : إن ، وما . أما كلمة إما فهي للشرط ، وأما كلمة ( ما ) فهي أيضا للشرط كقوله تعالى :

{ ما ننسخ من آية } فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط ، إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد ، لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد وأقول لقائل أن يقول : إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه ، إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع ، لأن قول القائل : الشيء إما كذا وإما كذا ، فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين ، وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة إما وبين نون التأكيد ؟

وجوابه : أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما أن لا يقع ، والله أعلم .

المسألة الثانية : قرأ الأكثرون : { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } وعلى هذا التقدير فقوله : { يبلغن } فعل وفاعله هو قوله : { أحدهما } وقوله : { أو كلاهما } عطف عليه كقولك : ضرب زيد أو عمرو : ولو أسند قوله : { يبلغن } إلى قوله : { كلاهما } جاز لتقدم الفعل ، تقول قال رجل ، وقال رجلان ، وقالت الرجال ، وقرأ حمزة والكسائي : { يبلغان } وعلى هذه القراءة فقوله : { أحدهما } بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين وكلام العطف على أحدهما فاعلا أو بدلا .

فإن قيل : لو قيل إما يبلغان كلاما كان كلاهما توكيدا لا بدلا ، فلم زعمتم أنه بدل ؟

قلنا : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين فانتظم في حكمه ، فوجب أن يكون مثله في كونه بدلا .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال قوله : { أحدهما } بدل ، وقوله : { أو كلاهما } توكيد ، ويكون ذلك قلنا : العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلا والآخر توكيدا خلاف الأصل ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : قال أبو الهيثم الرازي ، وأبو الفتح الموصلي ، وأبو علي الجرجاني : إن كلا اسم مفرد يفيد معنى التثنية ووزنه فعل ولامه فعل بمنزلة لام حجي ورضي وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ولا تكون إلا مضافة . والدليل عليه أنها لو كانت تثنية لوجب أن يقال في النصب والخفض مررت بكلي الرجلين بكسر الياء كما تقول : بين يدي الرجل ومن ثلثي الليل ، ويا صاحبي السجن وطرفي النهار . ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أنها ليست تثنية بل هي لفظة مفردة وضعت للدلالة على التثنية كما أن لفظة كل اسم واحد موضوع للجماعة ، فإذن أخبرت عن لفظة كما تخبر عن الواحد كقوله تعالى : { وكلهم آتية يوم القيامة فردا } وكذلك إذا أخبرت عن كلا أخبرت عن واحد فقلت كلا إخوتك كان قائما قال الله تعالى :{ كلتا الجنتين آتت أكلها } ولم يقل آتتا ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : قوله : { يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } معناه : أنهما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر .

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء :

النوع الأول : قوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الزجاج : فيه سبع لغات : كسر الفاء وضمها وفتحها ، وكل هذه الثلاثة بتنوين وبغير تنوين فهذه ستة واللغة السابعة أفي بالياء قال الأخفش : كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه فقال قولي هذا وذكر ابن الأنباري : من لغات هذه اللفظة ثلاثة زائدة على ما ذكره الزجاج : { أف } بكسر الألف وفتح الفاء وافة بضم الألف وإدخال الهاء و { أف } بضم الألف وتسكين الفاء .

المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وابن عامر : بفتح الفاء من غير تنوين ، ونافع وحفص : بكسر الفاء والتنوين ، والباقون : بكسر الفاء من غير تنوين وكلها لغات ، وعلى هذا الخلاف في سورة الأنبياء { أف لكم } وفي الأحقاف : { أف لكما } وأقول : البحث المشكل ههنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة ، فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة ، واقتصروا على وجوه قليلة منها ؟

المسألة الثالثة : ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوها : الأول : قال الفراء : تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها ، معناه يقول : أف أف . الثاني : قال الأصمعي : الأف وسخ الأذن . والتف وسخ الظفر . يقال ذلك عند استقذار الشيء ، ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به . الثالث : قال بعضهم أف معناه قلة ، وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له ، كقولهم : شيطان ليطان خبيث نبيث . الرابع : روى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأف الضجر . الخامس : قال القتبي : أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف ، ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم . السادس : قال الزجاج : أف معناه النتن وهذا قول مجاهد ، لأنه قال معنى قوله : { ولا تقل لهما أف } أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول ، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف .

المسألة الرابعة : قول القائل : لا تقل لفلان أف ، مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف وقل . واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا اللفظ على المنع . من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية أو دلالة مفهومة بمقتضى القياس . قال بعضهم : إنها دلالة لفظية ، لأن أهل العرف إذا قالوا : لا تقل لفلان أف عنوا به أنه لا يتعرض له بنوع من أنواع الإيذاء والايحاش ، وجرى هذا مجرى قولهم فلان لا يملك نقيرا ولا قطميرا في أنه بحسب العرف يدل على أنه لا يملك شيئا .

والقول الثاني : أن هذا اللفظ إنما يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء بحسب القياس الجلي ، وتقريره أن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى ، فإذا أردنا إلحاق الصورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها فهذا على ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أولى من ثبوته في محل الذكر مثل هذه الصورة ، فإن اللفظ إنما دل على المنع من التأفيف ، والضرب أولى بالمنع من التأفيف . وثانيها : أن يكون الحكم في محل السكوت مساويا للحكم في محل الذكر ، وهذا هو الذي يسميه الأصوليون القياس في معنى الأصل ، وضربوا لهذا مثلا وهو قوله عليه السلام : « من أعتق نصيبا له من عبد قوم عليه الباقي » فإن الحكم في الأمة والعبد متساويان . وثالثها : أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكبر القياسات .

إذا عرفت هذا فنقول : المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى . والدليل عليه : أن التأفيف غير الضرب ، فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب ، وأيضا المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلا ، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكا عظيما كان عدوا له ، فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته ، وإذا كان هذا معقولا في الجملة علمنا أن المنع من التأفيف مغاير للمنع من الضرب وغير مستلزم للمنع من الضرب عقلا في الجملة ، إلا أنا علمنا في هذه الصورة أن المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين بدليل قوله : { وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب من باب القياس بالأدنى على الأعلى ، والله أعلم .

النوع الثاني : من الأشياء التي كلف الله تعالى العباد بها في حق الأبوين قوله : { ولا تنهرهما } يقال : نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره . قال تعالى : { وأما السائل فلا تنهر } .

فإن قيل : المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بطريق الأولى ، فلما قدم المنع من التأفيف كان ذكر المنع من الانتهار بعده عبثا . أما لو فرضنا أنه قدم المنع من الانتهار ثم أتبعه بالمنع من التأفيف كان مفيدا حسنا ، لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف ، فما السبب في رعاية هذا الترتيب .

قلنا : المراد من قوله : { فلا تقل لهما أف } المنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير ، والمراد من قوله : { ولا تنهرهما } المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له .

النوع الثالث : قوله تعالى : { وقل لهما قولا كريما } واعلم أنه تعالى لما منع الإنسان بالآية المتقدمة عن ذكر القول المؤذي الموحش . والنهي عن القول المؤذي لا يكون أمرا بالقول الطيب ، لا جرم أردفه بأن أمره بالقول الحسن والكلام الطيب فقال : { وقل لهما قولا كريما } والمراد منه أن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم والاحترام . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو أن يقول له : يا أبتاه يا أماه ، وسئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال : هو قول العبد المذنب للسيد الفظ ، وعن عطاء أن يقال : هو أن تتكلم معه بشرط أن لا ترفع عليهما صوتك ولا تشد إليهما نظرك ، وذلك لأن هذين الفعلين ينافيان القول الكريم .

فإن قيل : إن إبراهيم عليه السلام كان أعظم الناس حلما وكرما وأدبا ، فكيف قال لأبيه يا آزر على قراءة من قرأ : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } بالضم : { إني أراك وقومك في ضلال مبين } فخاطبه بالاسم وهو إيذاء ، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال وهو أعظم أنواع الإيذاء ؟

قلنا : إن قوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } يدل على أن حق الله تعالى مقدم على حق الأبوين ، فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديما لحق الله تعالى على حق الأبوين .

النوع الرابع : قوله : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } والمقصود منه المبالغة في التواضع ، وذكر القفال رحمه الله في تقريره وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية ، فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك . والثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحيه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه . فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه .

فإن قيل : كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له ؟

قلنا : فيه وجهان : الأول : أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال : حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد ، واخفض لهما جناحك الذليل ، أي المذلول . والثاني : أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحا وأثبت لذلك الجناح ضعفا تكميلا لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد :

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها *** . . .

فأثبت للشمال يدا ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله : { من الرحمة } معناه : ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما .

والنوع الخامس : قوله : { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } وفيه مباحث :

البحث الأول : قال القفال رحمه الله تعالى : إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول : { رب ارحمهما } ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا . ثم يقول : { كما ربياني صغيرا } يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي ، والتربية هي التنمية ، وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفخ ، ومنه قوله تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } .

البحث الثاني : اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال :

القول الأول : أنها منسوخة بقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ، ولا يقول : رب ارحمهما .

والقول الثاني : أن هذه الآية غير منسوخة ، ولكنها مخصوصة في حق المشركين ، وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ .

والقول الثالث : أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد ، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان .

البحث الثالث : ظاهر الأمر للوجوب فقوله : { وقل رب ارحمهما } أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة ، سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه ؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة ؟ فقال : نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما أن الله تعالى قال : { واذكروا الله في أيام معدودات } فهم يكررون في أدبار الصلوات .