مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا} (47)

قوله تعالى :{ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا . وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا . ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا }

اعلم أنه تعالى لما بين خساسة الدنيا وشرف القيامة أردفه بأحوال القيامة فقال : { ويوم نسير الجبال } والمقصود منه الرد على المشركين الذي افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأعوان واختلفوا في الناصب لقوله : { ويوم نسير الجبال } على وجوه : أحدها : أنه يكون التقدير واذكر لهم : { يوم نسير الجبال } عطفا على قوله : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } . الثاني : أنه يكون التقدير : { ويوم نسير الجبال } حصل كذا وكذا يقال لهم : { لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } لأن القول مضمر في هذا الموضع فكان المعنى أنه يقال لهم : هذا في هذا الموضع . الثالث : أن يكون التقدير { خير أملا } في { يوم نسير الجبال } والأول أظهر . إذا عرفت هذا فنقول : إنه ذكر في الآية من أحوال القيامة أنواعا . النوع الأول : قوله : { ويوم نسير الجبال } وفيه بحثان :

البحث الأول : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر تسير على فعل ما لم يسم فاعله الجبال بالرفع بإسناد تسير إليه اعتبارا بقوله تعالى : { وإذا الجبال سيرت } والباقون نسير بإسناد فعل التسيير إلى نفسه ( تعالى و ) الجبال بالنصب لكونه مفعول نسير ، والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتبارا بقوله : { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله سبحانه . ونقل صاحب « الكشاف » قراءة أخرى وهي تسير الجبال بإسناد تسير إلى الجبال .

البحث الثاني : قوله : { ويوم نسير الجبال } ليس في لفظ الآية ما يدل على أنها إلى أين تسير ، فيحتمل أن يقال : إنه تعالى يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك الموضع لخلقه والحق أن المراد أنه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } ولقوله : { وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا } والنوع الثاني : من أحوال القيامة قوله تعالى : { وترى الأرض بارزة } وفي تفسيره وجوه : أحدها : أنه لم يبق على وجهها شيء من العمارات ، ولا شيء من الجبال ، ولا شيء من الأشجار ، فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها ، وهو المراد من قوله : { لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } . وثانيها : أن المراد من كونها بارزة أنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فهي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف ، ودليله قوله تعالى : { وألقت ما فيها وتخلت } وقوله : { وأخرجت الأرض أثقالها } وقوله : { وبرزوا لله جميعا } . وثالثها : أن وجوه الأرض كانت مستورة بالجبال والبحار ، فلما أفنى الله تعالى الجبال والبحار فقد برزت وجوه تلك البقاع بعد أن كانت مستورة .

والنوع الثالث : من أحوال القيامة قوله : { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } والمعنى جمعناهم للحساب فلم نغادر منهم أحدا ، أي لم نترك من الأولين والآخرين أحدا إلا وجمعناهم لذلك اليوم ، ونظيره قوله تعالى : { قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } ومعنى لم نغادر لم نترك ، يقال : غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء ، ومنه الغدير لأنه ما تركته السيول ، ومنه سميت ضفيرة المرأة بالغديرة لأنها تجعلها خلفها .