مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

أما قوله تعالى { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فاعلم أن هذه الآية دالة على المعجز من وجوه أربعة أحدها : أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غاية الحرص على إبطال أمره ، لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى ما يدل على ذلك ، فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله تعالى { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فلو كان في وسعهم وإمكانهم الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به ، فحيث ما أتوا به ظهر المعجز . وثانيها : وهو أنه عليه السلام وإن كان متهما عندهم فيما يتصل بالنبوة فقد كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب ، فلو تطرقت التهمة إلى ما ادعاه من النبوة لما استجاز أن يتحداهم ويبلغ في التحدي إلى نهايته ، بل كان يكون وجلا خائفا مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره ، حاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم ، فلولا معرفته بالاضطرار من حالهم أنهم عاجزون عن المعارضة لما جوز من نفسه أن يحملهم على المعارضة بأبلغ الطرق . وثالثها : أنه عليه السلام لو لم يكن قاطعا بصحة نبوته لما قطع في الخبر بأنهم لا يأتون بمثله ، لأنه إذا لم يكن قاطعا بصحة نبوته كان يجوز خلافه ، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه ، فالمبطل المزور البتة لا يقطع في الكلام . ولا يجزم به ، فلما جزم دل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعا في أمره ، ورابعها : أنه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه لأن من أيامه عليه الصلاة والسلام إلى عصرنا هذا لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام وتشتد دواعيه في الوقيعة فيه . ثم إنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط ، فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على المعجز مما تشتمل عليها هذه الآية ، وذلك يدل على فساد قول الجهال الذين يقولون إن كتاب الله لا يشتمل على الحجة والاستدلال ، وههنا سؤالات . السؤال الأول : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب ، فهلا جيء بإذا الذي للوجوب دون «إن » الذي للشك الجواب فيه وجهان : أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم ، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام . الثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاومه : إن غلبتك ، وهو يعلم أنه غالبه تهكما به . السؤال الثاني : لم قال { فإن لم تفعلوا } ولم يقل فإن لم تأتوا به ؟ الجواب : لأن هذا أخصر من أن يقال فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله . السؤال الثالث : { ولن تفعلوا } ما محلها ؟ الجواب لا محل لها لأنها جملة اعتراضية . السؤال الرابع : ما حقيقة لن في باب النفي ؟ الجواب : لا ولن أختان في نفي المستقبل إلا أن في «لن » توكيدا وتشديدا تقول لصاحبك : لا أقيم غدا عندك ، فإن أنكر عليك قلت لن أقيم غدا ، ثم فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أصله لا أن ، وهو قول الخليل . وثانيها : لا ، أبدلت ألفها نونا ، وهو قول الفراء . وثالثها : حرف نصب لتأكيد نفي المستقبل وهو قول سيبويه ، وإحدى الروايتين عن الخليل . السؤال الخامس : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟ الجواب : إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله { فاتقوا النار } قائما مقام قوله فاتركوا العناد ، وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة وفيه تهويل لشأن العناد ؛ لإنابة اتقاء النار منابه متبعا ذلك بتهويل صفة النار . السؤال السادس : ما الوقود ؟ الجواب : هو ما يوقد به النار وأما المصدر فمضمون وقد جاء فيه الفتح ، قال سيبويه : وسمعنا من العرب من يقول وقدنا النار وقودا عاليا ، ثم قال والوقود أكثر ، والوقود الحطب وقرأ عيسى بن عمر بالضم تسمية بالمصدر كما يقال فلان فخر قومه وزين بلده . السؤال السابع : صلة الذي يجب أن تكون قضية معلومة فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟ الجواب ، لا يمنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب ، أو سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سمعوا من قبل هذه الآية قوله في سورة التحريم { نارا وقودها الناس والحجارة } . السؤال الثامن : فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم وههنا معرفة ؟ الجواب : تلك الآية نزلت بمكة فعرفوا منها نارا موصوفة بهذه الصفة ثم نزلت هذه بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه أولا . السؤال التاسع : ما معنى قوله { وقودها الناس والحجارة } الجواب : أنها نار ممتازة من النيران بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة ، وذلك يدل على قوتها من وجهين . الأول : أن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إجماء الحجارة أوقدت أولا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه ، وتلك أعاذنا الله منها برحمته الواسعة توقد بنفس ما تحرق . الثاني : أنها لإفراط حرها تتقد في الحجر .

السؤال العاشر : لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقودا ؟ الجواب : لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحتوها أصناما وجعلوها لله أندادا وعبدوها من دونه قال تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } وهذه الآية مفسرة لها فقوله { إنكم وما تعبدون من دون الله } في معنى الناس والحجارة وحصب جهنم في معنى وقودها ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكا بهم ، وجعلها الله عذابهم فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغا وإغرابا في تحسرهم ، ونحوه ما يفعله بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وزخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم ، وقيل هي حجارة الكبريت ، وهو تخصيص بغير دليل ، بل فيه ما يدل على فساده ، وذلك لأن الغرض ههنا تعظيم صفة هذه النار والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد فلا يدل الإيقاد بها على قوة النار ، أما لو حملناه على سائر الأحجار دل ذلك على عظم أمر النار فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران فكأنه قال تلك النيران بلغت لقوتها أن تتعلق في أول أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدنيا ، أما قوله { أعدت للكافرين } فإنه يدل على أن هذه النار الموصوفة معدة للكافرين ، وليس فيه ما يدل على أن هناك نيرانا أخرى غير موصوفة بهذه الصفات معدة لفساق أهل الصلاة .