{ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين 24 } .
{ فإن لم تفعلوا } أي : ما أمرتم به من الإتيان بالمثل ، بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود { ولن تفعلوا } اعتراض بين جزأي الشرطية ، مقرر لمضمون مقدمها ، ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها ، وهي معجزة باهرة : حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به عز وجل وقد وقع الأمر كذلك { فاتقوا النار } جواب للشرط ، على أن اتقاء النار كناية عن الاحتراز من العناد ، إذ بذلك يتحقق تسبُّبه عنه ، وترتبه عليه ، كأنه قيل : فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله كما هو المقرر فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله سبحانه ، فإنه مستوجب للعقاب بالنار ، لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنية على / تصوير العناد بصورة النار ، وجعل الاتصاف به عين الملابسة بها ، للمبالغة في تهويل شأنه ، وتفظيع أمره ، وإظهار كمال العناية بتحذير المخاطبين منه ، وتنفيرهم عنه ، وحثّهم على الجد في تحقيق المكنى به وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى . حيث كان الأصل : فإن لم تفعلوا فقد صح صدقه عندكم ، وإذا صح ذلك كان لزومكم العناد ، وترككم الإيمان به ، سببا لاستحقاقكم العقاب بالنار ، فاحترزوا منه واتقوا النار { التي وقودها الناس والحجارة } صفة للنار مورثة لها زيادة هول وفظاعة أعاذنا الله برحمته الواسعة و " الوقود " ما توقد به النار ، وترفع من الحطب . وقرئ بضم الواو ، وهو مصدر سمي به المفعول مبالغة كما يقال : فلان فَخْرُ قومه ، وزين بلده فإن قيل : صلة الذي والتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
قلت : لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من آيات التنزيل المتقدمة عليها ، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من أهل الكتاب . والمراد بالحجارة الأصنام ، وبالناس أنفسهم حسبما ورد في قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } {[513]} فإنها مفسرة لما نحن فيه وحكمة اقترانهم مع الحجارة في الوقود : أنهم لما اعتقدوا في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستنفعون بهم ، ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم ، جعلها الله عذابهم ، فقرنهم بها مُحماة في نار جهنم إبلاغا في إيلامهم ، وإغراقا في تحسيرهم . ونحوه ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضّتهم عدة وذخيرة ، فشحُّوا بها ، ومنعوها من الحقوق ، حيث يحمى عليها في نار جهنم ، فتُكوى جباههم وجنوبهم { أعدّت للكافرين } هُيئت لهم ، وجعلت عدة لعذابهم . والمراد : إما جنس الكفار والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا وإما هم خاصة ، ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمّهم ، وتعليل الحكم بكفرهم والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، ومبينة لمن أريد بالناس ، دافعة لاحتمال العموم .
/ ( تنبيه ) هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدي الكافرين بالتنزيل الكريم . وقد تحدّاهم الله تعالى في غير موضع منه ، فقال في سورة القصص { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعه إن كنتم صادقين } {[514]} . وقال في سورة سبحان : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } {[515]} . وقال في سورة هود : { أم يقولون افتراه * قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } {[516]} . وقال في سورة يونس : { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه * قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } {[517]} . وكل هذه الآيات مكية . ثم تحدّاهم أيضا في المدينة بقوله : { وإن كنتم في ريب . . . } إلى آخر هذه الآية{[518]} فعجزوا عن آخرهم : وهم فرسان الكلام ، وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ، ما لم يخص به غيرهم من الأمم . وأوتوا من ذرابة اللسان ، ما لم يؤت إنسان . ومن فصل الخطاب ، ما يقيّد الألباب . جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة ، وفيهم غريزة وقوة . يأتون منه على البديهة بالعجب ، ويدلون به إلى كل سبب . فيخطبون بديها في المقامات وشديد الخطب ، ويرتجزون به بين الطعن والضرب . ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصَّلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر الحلال ، ويطوّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل . فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب . ويذهبون الإحَن ، ويهيجون الدِّمَن . ويجرِّئون الجبان ، ويبسطون يد الجعد البَنان . ويصيّرون الناقص كاملا ، ويتركون النبيه خاملا . منهم البدويّ : ذو اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، والكلام الفخم ، والطبع الجوهريّ ، والمنزع القوي . ومنهم الحضريّ : ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف في القول القليل الكلفة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية . وكلا البابين فَلَهُما في البلاغة الحجة البالغة ، والقوة الدامغة ، والقِدْح الفالج ، والمهبع الناهج . لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم ، والبلاغة ملك قيادهم ، قَدَحُوا فنونها ، واستنبطوا عيونها ، ودخلوا من كل باب من أبوابها ، وعلَوْا صرحا لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير والمهين ، وتفنّنوا في الغثّ والسمين ، وتقاولوا في القلّ والكثر ، وتساجلوا في النظم والنثر ومع هذا فلم يتصدَّ للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم ، ولم ينهض لمقدار أقصر سورة منه ناهض من بلغائهم ، على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء ، وأوفر عددا من رمال الدهناء ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادّة والمضارّة ، وإلقائهم الشراشر على المُعَازَّة والمعارَّة ، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخُطط ، وركوبهم في كل ما يرمونه الشطط : إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر ، وإن رماهم بمأثرة رمَوْه بمآثر . وقد جرد لهم الحجة أولا ، والسيف آخرا ، فلم يعارضوا إلا السيف وحده . فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطمّ على الكواكب ، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب ؛ وبذلك يظهر أن في قوله تعالى : { ولن تفعلوا } معجزة أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا ، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم .
قال الحافظ ابن كثير : ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عمرو ، فقال له مسيلمة : ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة ؟ فقال له عمرو : لقد / أنزل عليه سورة وجيزة بليغة . فقال : وما هي ؟ فقال : { والعصر * إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } . ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل علي مثلها . قال : وما هو ؟ فقال : يا وَبْرُ يا وَبْرُ{[519]} ! إنما أنت أُذُنان وصدر . وسائرك حَفْر نَقْر ثم قال : كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم إني أعلم أنك تكذب ! . .
وحيث عجز عرب ذلك العصر ، فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . ! وقد مضى إلى الآن أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، ولم يوجد أحد من معاديه البلغاء إلا وهو مسلم ، أو ذو استسلام ؛ فدل على أنه ليس من كلام البشر ، بل كلام خالق القُوَى والقُدَر ، أنزله تصديقا لرسوله ، وتحقيقا لقوله . وهذا الوجه أعني بلوغه في الفصاحة والبلاغة إلى حد خرج عن طوق البشر كاف وحده في الإعجاز ، وقد انضم إليه أوجه :
( منها ) : إخباره عن أمور مغيبة ظهرت كما أخبر .
و ( منها ) : كونه لا يملُّه السمع مهما تكرر .
و ( منها ) : جمعه لعلوم لم تكن معهودة ، عند العرب والعجم .
و ( منها ) : إنباؤه عن الوقائع الخالية ، وأحوال الأمم . والحال أن من أنزل عليه ، صلى الله عليه وسلم ، كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ، لاستغنائه بالوحي ، وليكون وجه الإعجاز بالقبول أحرى . وبذلك يُعلم أن القرآن أعظم المعجزات ، فإنه آية باقية مدى الدهر ، يشاهدها كل حين بعين الفكر كل ذي حجر . وسواه من المعجزات انقضت بانقضاء وقتها ، فلم يبق منها إلا الخبر .
وقد ذهب بعض علماء الشيعة في وجه إعجازه إلى : كونه قاهرا لمن يقاومه ، / وغالبا على من يغالبه ، ونافذا في إزهاق ما يخالفه . وكونه مؤثرا في إيجاد الأمة ، وبقاء الشريعة ، ونفوذ الحكم ، وثبوت الكلمة ، لما جعل الله فيه من النور ، والهداية ، والرحمة . وعبارته : إن كلام الله تعالى يمتاز عن غيره بالنفوذ ، والغلبة في هداية الخلق ، وإنشاء أمة مستقلة ، وإبقاء شريعة جديدة . وهي علامة كافية في معرفة الكلمات الإلهية ، والآيات السماوية . ثم قال : وخلاصة تقرير الدليل أن الكلام الذي يتحدّى الداعي به ، وينسبه إلى الله إذا ظهر منه التأثير التام في هداية النفوس المستعدة الطالبة ، وقهر الأمم المنكرة المانعة ، فأوجد أمة مستقلة نامية ، وشريعة جديدة باقية ، فلا يبقى ثمَّتَ شك أنه هو كلام الله النازل من السماء ، والقدرة الظاهرة منه هي القدرة التي منذ القديم ظهرت من المرسلين والأنبياء . وإلى هذه النكتة أشير في قوله تعالى : { يريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } {[520]} وقال تعالى : { والذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له حجّتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } {[521]} وهذه العلامة لا توجد إلا في كتب الله تعالى . ويتمكن كل إنسان أن يدركها ويفهمها منها . سواء كان عالما ، أو أميا . عربيا ، أو عجميا . شرقيا ، أو غربيا . . ! فمن الذي يشك أن بني إسرائيل ما خرجوا عن ظلمات الجهل إلى نور الإيمان ، وعن ذلة العبودية إلى عز الاستقلال إلا بسبب التوراة . . ؟ ! ومن الذي يجهل أن الأمم الأوروبية ما وصلوا إلى عبادة الله تعالى بعد عبادة الأوثان إلا بواسطة الإنجيل . . . ؟ ! ومن الذي لا يعرف أن الأمم الكبرى من حدود الشرق الأقصى إلى أقاصي إفريقية ما خرجوا عن ربقة الوثنية ، / وعبادة النار إلى التوحيد وعبادة الله إلا بهداية القرآن العظيم ؟ وما تحرروا عن أغلال العقائد الفاسدة ، والأعمال القبيحة ، وما وصلوا إلى الأخلاق الفاضلة ، والعقائد الصحيحة إلا بنور هذا السفر الكريم . . ؟ ثم قال : والخلاصة إن هذه العلامة وهي هداية النفوس ، وإيجاد الديانة الجديدة بقهر الأديان القديمة ، وتبديل العوائد العتيقة هي العلامة الظاهرة المميزة بين الكلمات الإلهية ! والمصنّفات البشرية . حتى أن أول نفس أذعنت بحقيقة رسالة رسول ، وصدق شريعته ، لو لم تعرف في نفسها هذه الهداية ، ولم تشعر في ذاتها بهذه المغلوبية لما كانت أول من صدّقه ولبّاه ، واتبعه وآساه ؛ فإن محبة الدين القديم الموروث راسخة في جميع النفوس . والخوف من تبديل أركانه وآدابه متمكن في أعماق القلوب . فالهداية أظهر علامة في صدق النبوة والرسالة ، إذ هي صفة الفعل ، ومرتبطة بالدعوة كالإبراء للطب ، ومعرفة السطوح للهندسة ، والبيع والشراء للتجارة ، وصنع الأسرة والأبواب وغيرها للنجارة ثم قال : وإذا تصفّحت القرآن المجيد ، تجد أن الله تعالى استدل بها في مواضع متعددة ، ووصف القرآن بأنه حجة بما أودع فيه من الهداية والرحمة ولا ترى موضعا واحدا وصفه بأنه أفصح الكتب وأبلغ الصحف ، فانظر في قوله تعالى : { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى * أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل * قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون * قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعه إن كنتم صادقين } {[522]} . أترى أن الله تعالى أفحمهم بقوله : فأتوا بكتاب من عند الله هو أفصح منهما أو أبلغ منهما ؟ وكذلك لما انتقدوا على النبي صلى الله عليه وسلم بعدم صدور معجزة منه كالمعجزات السالفة ، فقال تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه * قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم * إن / في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } {[523]} فبين الله تعالى مزية القرآن على سائر المعجزات ، وكفايته عن غيره بأن فيه الذكرى والرحمة . وقال تعالى في أول السورة { آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } وما قال فيه فصاحة وبلاغة يعجز عن مثلها جميع العالمين . وذلك لأن الفصاحة والبلاغة من الأوصاف الخفية الغامضة الدقيقة التي تختلف فيها الأذواق ، وتتشعّب فيها الآراء والأنظار ولكن ما ظهر من الرسول عليه السلام بسبب نزول القرآن عليه من العلم والقدرة على هداية الأمم ، وإزالة أسقام أهل العالم ، وتأسيس الشريعة الإلهامية ، وإيجاد الأمة الإسلامية رغما للأمم الكبرى ، ومباينا للديانات العظمى : أمر ظاهر محسوس ، تصعب فيه المناقشة ، ولا تفيد معه المغالطة . فمن الذي يمكنه أن ينكر أن الأمم العظيمة كالعرب والفرس ، والخزر ، والترك ، والهنود ، والصينيين ، وأهالي إفريقية خرجوا من ظلمات الشرك ، وعبادة النار والأوثان ، وإنكار الأنبياء ؛ ودخلوا في نور التوحيد ، وعبادة الله وحده ، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه ، بنور الكتاب المبين . . ! !
كذا في كتاب ( الدرر البهية ) لأبي الفضائل الإيراني ولا يخفى أن ما ذكره هو وجه متين ، ولكن لا يسوغ نفي ما عداه لأجله ، بل يجدر أن يضم إليها ، ويكون في مقدمتها والله أعلم .