السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

وقوله تعالى : { ولن تفعلوا } جملة معترضة أي : لا يقع منكم ذلك أبداً لإعجاز القرآن { فاتقوا النار التي وقودها } أي : ما تتقد به { الناس والحجارة } التي نحتوها واتخذوها أرباباً من دون الله طمعاً في شفاعتها والانتفاع بها ويدل لذلك قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } ( الأنبياء ، 98 ) عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكانزون بما كنزوه أو حجارة الكبريت ، كما رواه الطبراني عن ابن مسعود ، والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعليه أكثر المفسرين ، وإن قال البيضاوي : إنه تخصيص بغير دليل لأنّ مثل هذا التفسير الوارد عن الصحابي فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم المرفوع وأيضاً حجارة الكبريت أشدّ حرّاً وأكثر التهاباً وتزيد على غيرها من الأحجار سرعة الإيقاد ونتن الريح وكثرة الدخان وشدّة الالتصاق بالأبدان وقيل : جميع الحجارة .

تنبيه : تفعلوا مجزوم بلم لا بإن لأن لم واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول ، ولأنها لما صيرته ماضياً صارت كالجزء منه ، وحرف الشرط كالداخل على المجموع وكأنه قال : فإن تركتم الفعل ولذلك ساغ اجتماعهما وحاصله أن إن تقتضي الاستقبال ولم تقتض المضيّ فرجحت لم لما ذكر فيكون المعنى على المضيّ دون الاستقبال وقيل : إنّ إن بمعنى إذ ولا إشكال حينئذٍ ، وقيل : كل منهما على حقيقته ، والمعنى إن تبيّن في المستقبل عدم فعلكم في الماضي ولن تفعلوا في المستقبل فاتقوا النار ، ولن كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف بسيط ثنائي الوضع ، وقيل : أصله لا إن حذفت الهمزة منها لكثرتها في الكلام ثم ألف لا لالتقاء الساكنين . ولما كانت الآية مدنية نزلت بعدما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم : { ناراً وقودها الناس والحجارة } ( التحريم ، 6 ) وسمعوه صح تعريف النار ووقوع الجملة صلة فإن الصلة يجب أن تكون معلومة وهي معلومة هنا من سورة التحريم حيث وقعت صفة .

فإن قيل : الصفة أيضاً يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف كالصلة وإلا لكانت خبراً ولهذا قالوا : إن الصفات قبل العلم بها أخبار كما أنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف فيأتي في الصفة في آية التحريم ما ذكر في الصلة أجيب : بأنّ الصلة والصفة يجب كونهما معلومين للمخاطب لا لكل سامع وما في التحريم خطاب للمؤمنين وقد علموا ذلك لسماعهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم ولما سمع الكفار ذلك الخطاب أدركوا منه ناراً موصوفة بتلك الجملة فجعلت فيما خوطبوا به { أعدّت } أي : هيئت { للكافرين } وجعلت عدّة لعذابهم ، وفي ذلك دليل على أنّ النار مخلوقة معدّة لهم الآن ، والجملة استئناف أو حال من النار بإضمار قد ، والعامل في الحال اتقوا وهي حال لازمة فلا يشكل بأنّ النار أعدّت للكافرين اتقوها أم لا .

تنبيه : قال البيضاوي : في الآيتين أي : آية { إن كنتم في ريب } وآية { فإن لم تفعلوا } ( البقرة ، 24 ) ما يدل على النبوّة من وجوه : الأوّل : ما فيهما أي : في مجموعهما من التحدي والتحريض على الجدّ وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن العزيز ثم أنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادّة لم يتصدّوا لمعارضته والتجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج لأنّ قوله من التحدي راجع للآية الأولى والباقي راجع إلى الثانية ، والثاني : تضمنهما أي : مجموعهما الإخبار عن الغيب على ما هو به فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر لأنّ ذلك راجع للآية الثانية ، والثالث : أنه عليه الصلاة والسلام لو شك في أمره أي : نفسه لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتذهب حجته ، وهذا راجع إلى الآية الأولى .