الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

أخرج مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نار بني آدم التي يوقدون، جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، فقالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية، قال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا"...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى بقوله:"فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا": إن لم تأتوا بسورة من مثله، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم. فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز جميع خلقي عنه، وعلمتم أنه من عندي، ثم أقمتم على التكذيب به.

"وَلَنْ تَفْعَلُوا" أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدا...

عن قتادة: "فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا "أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه... عن ابن عباس: "فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا" فقد بين لكم الحقّ...

"فاتقُوا النّارَ الّتِي وَقُودُها النّاسِ وَالْحِجَارَةُ"... يعني جل ثناؤه بقوله: "فاتّقُوا النّارَ" يقول: فاتقوا أن تَصْلَوا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي، بعد تبينكم أنه كتابي ومن عندي، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.

ثم وصف جل ثناؤه النار التي حذرهم صِلِيّها، فأخبرهم أن الناس وقودها، وأن الحجارة وقودها، فقال: "الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ والحِجارَةُ" يعني بقوله وقودها: حطبها، والعرب تجعله مصدرا، وهو اسم إذا فتحت الواو بمنزلة الحطب، فإذا ضمت الواو من الوقود كان مصدرا من قول القائل: وقدت النار فهي تقد وُقودا وقِدَةً وَ وَقَدَانا و وَقْدا، يراد بذلك أنها التهبت...

"أُعِدّتْ للكافِرِينَ":... أعدّت النار للجاحدين أن الله ربهم المتوحد بخلقهم وخَلْق الذين من قبلهم، الذي جعل لهم الأرض فراشا، والسماء بناءً، وأنزل من السماء ماءً، فأخرج به من الثمرات رزقا لهم، المشركين معه في عبادته الأنداد والاَلهة، وهو المتفرّد لهم بالإنشاء والمتوحد بالأقوات والأرزاق...

عن ابن عباس: "أُعِدّتْ للْكافِرِينَ" أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قوله تعالى في نسق التلاوة: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} فأخبر أنهم لا يعارضونه ولا يقع ذلك منهم؛ وذلك إخبار بالغيب ووجد مخبره على ما هو به. ولا تتعلق هذه بإعجاز النظم، بل هي قائمة بنفسها في تصحيح نبوَّته، لأنه إخبارٌ بالغيب، كما لو قال لهم:"الدلالة على صحة قولي أنكم مع صحة أعضائكم وسلامة جوارحكم لا يقع من أحد منكم أن يمسَّ رأسَه وأن يقوم من موضعه" فلم يقع ذلك منهم، مع سلامة أعضائهم وجوارحهم، وتقريعهم به مع حرصهم على تكذيبه، كان ذلك دليلاً على صحة نبوته، إذ كان مثل ذلك لا يصح إلا كونه من قبل القادر الحكيم الذي صرفهم عن ذلك في تلك الحال...

وقد تضمنت هذه الآية مع ما ذكرنا من التنبيه على دلائل التوحيد وإثبات النبوة الأمر باستعمال حجج العقول والاستدلال بدلائلها، وذلك مبطل لمذهب من نفي الاستدلال بدلائل الله تعالى واقتصر على الخبر بزعمه في معرفة الله والعلم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى لم يقتصر فيما دعا الناس إليه من معرفة توحيده وصدق رسوله على الخبر دون إقامة الدلالة على صحته من جهة عقولنا...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرّفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به حتى يعثروا على حقيقته وسرّه وامتياز حقه من باطله، قال لهم: فإذا لم تعارضوه ولم يتسهل لكم ما تبغون وبان لكم أنه معجوز عنه، فقد صرح الحق عن محضه ووجب التصديق؛ فآمنوا وخافوا العذاب المعدّ لمن كذب.

وفيه دليلان على إثبات النبوّة: صحة كون المتحدي به معجزاً، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا الله...

فإن قلت: صلة «الذي» و «التي» يجب أن تكون قصة معلومة، للمخاطب، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلت: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب، أو سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى في سورة التحريم: {نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} [التحريم: 6]...

فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {وَقُودُهَا الناس والحجارة}؟ قلت: معناه أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران، بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، وبأن غيرها إن أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة أوقدت أوّلا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه، وتلك -أعاذنا الله منها برحمته الواسعة -توقد بنفس ما يحرق ويحمي بالنار، وبأنها لإفراط حرّها وشدّة ذكائها إذا اتصلت بما لا تشتعل به نار، اشتعلت وارتفع لهبها...

فإن قلت: لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقوداً؟ قلت: لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصناماً وجعلوها لله أنداداً أو عبدوها من دونه: قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وهذه الآية مفسرة لما نحن فيه. فقوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله) في معنى الناس والحجارة، و (حصب جهنم) في معنى وقودها. ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم، جعلها الله عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم، إبلاغاً في إيلامهم وإعراقاً في تحسيرهم، ونحوهم ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدّة وذخيرة، فشحوا بها ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم...

{أُعِدَّتْ} هيئت لهم وجعلت عدّة لعذابهم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وفي قوله تعالى: {أعدت}... قال الجمهور:...الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد، إذ فعلهم كفر، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

قوله تعالى:"أعدت للكافرين" ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة...

روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تدرون ما هذا) قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها).

وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجت النار والجنة فقالت هذه: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه: أنت عذابي أعذب به من أشاء وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها)...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.

وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه

إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء [أ] كانت مبسوطة [أم] وجيزة، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء.

وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات،

وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]،

وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء: 68]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17]

وقال في الزجر: {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]،

وقال في الوعظ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 -207] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة،

وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه. ولهذا قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الآية [الأعراف: 157]،

وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.

ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعْطِيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» لفظ مسلم.

وقوله: «وإنما كان الذي أوتيته وحيًا» أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة [عند كثير من العلماء] والله أعلم. وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر، ولله الحمد والمنة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان سبحانه عالماً بأن الأنفس الأبية والأنوف الشامخة الحمية التي قد لزمت شيئاً فمرنت عليه حتى صار لها خلقاً يصعب عليها انفكاكها عنه ويعسر خلاصها منه عبر عن هذا الإخبار بالعجز مهدداً في سياق ملجئ إلى الإنصاف بالاعتراف أو تفطر القلوب بالعجز عن المطلوب بقوله تعالى: {فإن لم تفعلوا} فأتى بأداة الشك تنفيساً لهم وتهكماً في نفس الأمر بهم واستجهالاً لهم، ثم لم يتمم ذلك التنفيس حتى ضربهم ضربة فضمت ظهورهم وقطعت قلوبهم فقال لتكون الآية كافلة لصحة نسبة النظم والمعنى آيد وآكد لادعائهم المقدرة بقوله تعالى: {ولن تفعلوا} فألزمهم الخزي بما حكم عليهم به من العجز، فلم يكن لهم فعل إلا المبادرة إلى تصديقه بالكف، فكانوا كمن ألقم الحجر فلم يسعه إلا السكوت، واستمر ذلك التصديق لهم ولأمثالهم على وجه الدهر في كل عصر ينادي مناديه فتخضع له الرقاب ويصدّح مؤذنه فتنكسر الرؤوس، والتعبير بالفعل الأعم من الإتيان أبلغ لأن نفيه نفي الأخص وزيادة.

والفعل. قال الحرالي: ما ظهر عن داعية من الموقع كان عن علم أو غير علم لتدين كان أو لغيره كما تقدم مراراً -انتهى.

فقد ثبت أن هذا الكتاب الذي بين أنه الهادي إلى الصراط المستقيم أعظم دليل على إفراده بالعبادة واختصاصه بالمراقبة التي أرشدنا إليها بقوله:

{إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 4] الآية بما ثبت فيه من أدلة التفرد بالإلهية بما ثبت من عجزهم عن معارضته وعجز جميع العرب الذين كانوا أفصح الخلق وكذا جميع من ولد في بلادهم وانطبع بلسانهم من اليهود والنصارى الذين لهم من الفصاحة والعلم ما هو مشهور فقد كان لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا في المدينة الشريفة وخيبر واليمن وغيرها، ومن دخل في دينهم من العرب من الفصاحة والبلاغة والعلم ما لا يحتاج من طالع السيرة فيه إلى توقف، وكان النصارى من بني إسرائيل ومن دان دينهم من العرب وهم كثير كثرة قوم المنذر بن ماء السماء، وما قارب الشيء من عبد القيس وتنوخ وعامله وغسان كلهم فصحاء بلغاء، وزاد كثير منهم على ذلك العلم وكان منهم الشعراء المبرزون؛ ومع ذلك فلم يقدر أحد منهم على طعن في هذا القرآن ولا عارضه منهم إنسان إلا ما قاله مسيلمة والأسود العنسي فيما افتضحوا به وأكذبهم الله تعالى فيه وسارت بفضائحهم الركبان فكانوا بها مثلاً في سائر البلدان.

قال عمرو بن بحر الجاحظ "في كتاب الحجة في تثبيت خبر الواحد "إن الله تبارك و تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته فدعاهم إلى حظهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وقتلوا أعمامه وبني أعمامه وعلية أصحابه وأعلام أهله، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن وغيره ويدعوهم صباحاً ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحدياً لهم بها وتقريعاً بعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستوراً وظهر منه ما كان خفياً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف فلذلك يمكنك ما لا يمكننا؛ قال: فهاتوها مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا طبع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واتساع لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الحرائب؛ وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في العقل والرأي بطبقات، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم؛ فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد علمهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر! وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة فكذلك أيضاً محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه- انتهى.

فثبت بهذا عجزهم وخرس قطعاً إفصاحهم ورمزهم وطأطأ ذلاً كبرهم وعزهم، وكيف يمكن المخلوق مع تمكنه في سمات النقص ودركات الافتقار والضعف معارضة من اختص بصفات الكمال وتعالى عن الأنداد والأشباه والأشكال.

وقد اختلف الناس في سبب الإعجاز وأحسن ما وقفت عليه من ذلك ما نقله الإمام بدر الدين الزركشي الشافعي في كتابه البرهان عن الإمام أبي سليمان الخطابي -وقال: وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر- أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها ووضعوا فيه إلى حكم الذوق، قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجات البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل؛ وهذه الأقسام هي الكلام الفاضل المحمود، فالقسم الأول أعلاه والقسم الثاني أوسطه والقسم الثالث أدناه وأقربه؛ فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة وأخذت من كل نوع شعبة، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة يعالجان نوعاً من الزعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن لتكون آية بينة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإنما تعذر على البشر جميعاً الإتيان بمثله لأمور، منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم؛ وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشاكلاً من نظمه؛ وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن يوجد مجموعه في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمناً أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته، في تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعاً أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم، منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم؛ فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة: إنه شعر -لما رأوه منظوماً- ومرة: إنه سحر -لما رأوه معجوزاً عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعاً في القلوب وفزعاً في النفوس يريبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعاً من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وكانوا مرة بجهلهم يقولون: (إنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} [الفرقان: 5] مع علمهم أن صاحبه أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز- انتهى.

وأول كلامه يميل إلى أن الإعجاز بمجرد النظم من غير نظر إلى المعنى، وآخره يميل إلى أنه بالنظر إلى النظم والمعنى معاً من الحيثية التي ذكرها، وهو الذي ينبغي أن يعتقد لكن في التحدي بسورة واحدة. وأما بالعشر فبالنظر إلى البلاغة في النظم فقط -نقله البغوي في تفسير سورة هود عن المبرد وقد مر آنفاً مثله في كلام الجاحظ.

وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل الباب الأول في علو بيان القرآن على بيان الإنسان: اعلم أن بلاغة البيان تعلو على قدر علو المبين، فعلو بيان الله على بيان خلقه بقدر علو الله على خلقه، فبيان كل مبين على قدر إحاطة علمه، فإذا أبان الإنسان عن الكائن أبان بقدر ما يدرك منه وهو لا يحيط به علمه فلا يصل إلى غاية البلاغة فيه بيانه، وإذا أنبأ عن الماضي فبقدر ما بقي من ناقص علمه به كائناً في ذكره لما لزم الإنسان من نسيانه، وإذا أراد أن ينبىء عن الآتي أعوزه البيان كله إلا ما يقدّره أو يزوّره؛ فبيانه في الكائن ناقص وبيانه في الماضي أنقص وبيانه في الآتي ساقط.

"بل يريد الإنسان ليفجر أمامه "[القيامة: 5] وبيان الله سبحانه عن الكائن بالغ إلى غاية ما أحاط به علمه.

{قل إنما العلم عند الله} [الملك: 26] وعن المنقطع كونه بحسب إحاطته بالكائن وسبحانه من النسيان.

{لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52] وعن الأتي بما هو الحق الواقع.

{فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين * والوزن يومئذ الحق} [الأعراف: 7، 8] والمبين الحق الذي لا يوهن بيانه إيهام نسبة النقص إلى بيانه 271، والإنسان يتهم نفسه في البيان ويخاف أن ينسب إلى العي فيقصد استقراء البيان ويضعف مفهوم بيانه ضعفاً من منته ومفهوم بيان القرآن أضعاف أضعاف أنبائه وقل ما ينقص عن نظيره- انتهى.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول [ص] وبعدها، وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها.. وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا. وسيظل كذلك أبدا. سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية:

(فإن لم تفعلوا -ولن تفعلوا- فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) والتحدي هنا عجيب، والجزم بعدم إمكانه أعجب، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة. وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها. ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لانهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس.

وهذه وحدها كلمة الفصل التاريخية.

على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء؛ وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء؛ وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر.. لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر. والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز، أو غرض يلبس الحق بالباطل..

ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح:

(فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين)..

ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة، في هذه الصورة المفزعة الرعيبة؟ لقد أعدت هذه النار للكافرين. الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة).. والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون، ثم لا يستجيبون.. فهم إذن حجارة من الحجارة! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر!

على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع: مشهد النار التي تأكل الأحجار. ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار.. في النار..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقوله: {ولن تفعلوا} من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين:

الأولى أنها أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين، وقد تأكد ذلك كله بقوله قبل {إن كنتم صادقين} [البقرة: 23] وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام مَن قدرتهُ فوق طوق البشر.

الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل فما أتى أحد منهم ولا ممن خلَفهم بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها، ودواعي المعارضة موجودة فيهم، ففي خاصتهم بما يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم. وكانت لهم مجامع التقاول ونوادي التشاور والتعاون، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في دين الإسلام، مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة.

فما أمسك الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند الله تعالى، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحاً وأشاعوه وتناقلوه فإنهم اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين بأنهم أمسكوا عن معارضته...

وهذه الآية قد أثبتت إعجاز القرآن إثباتاً متواتراً امتاز به القرآن عن بقية المعجزات، فإن سائر المعجزات للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام إنما ثبتت بأخبار آحاد وثبت من جميعها قدر مشترك بين جميعها وهو وقوع أصل الإعجاز بتواتر معنوي مثل كرم حاتم وشجاعة عمرو فأما القرآن فإعجازه ثبت بالتواتر النقلي أدرك معجزته العرب بالحس، وأدركها عامة غيرهم بالنقل، وقد تدركها الخاصة من غيرهم بالحس كذلك على ما سنبينه. أما إدراك العرب معجزة القرآن فظاهر من هذه الآية وأمثالها فإنهم كذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم وناوءُوه وأعرضوا عن متابعته فحاجهم على إثبات صدقه بكلام أوحاه الله إليه، وجعل دليل أنه من عند الله عجزهم عن معارضته فإنه مركب من حروف لغتهم ومن كلماتها وعلى أساليب تراكيبها، وأودع من الخصائص البلاغية ما عرفوا أمثاله في كلام بلغائهم من الخطباء والشعراء ثم حاكمهم إلى الفصل في أمر تصديقه أو تكذيبه بحكم سهل وعدل، وهو معارضتهم لما أتى به أو عجزهم عن ذلك نطق بذلك القرآن في غير موضع كهاته الآية فلم يستطيعوا المعارضة فكان عجزهم عن المعارضة لا يعدو أمرين: إما أن يكون عجزهم لأن القرآن بلغ فيما اشتمل عليه من الخصائص البلاغية التي يقتضيها الحال حد الإطاقة لأذهان بلغاء البشر بالإحاطة به، بحيث لو اجتمعت أذهانهم وانقدحت قرائحهم وتآمروا وتشاوروا في نواديهم وبطاحهم وأسواق موسمهم، فأبدى كل بليغ ما لاح له من النكت والخصائص لوجدوا كل ذلك قد وفت به آيات القرآن في مثله وأتت بأعظم منه، ثم لو لحق بهم لاحق، وخلف من بعدهم خلف فأبدى ما لم يبدوه من النكت لوجد تلك الآية التي انقدحت فيها أفهام السابقين وأحصت ما فيها من الخصائص قد اشتملت على ما لاح لهذا الأخير وأوفر منه، فهذا هو القدر الذي أدركه بلغاء العرب بفطرهم، فأعرضوا عن معارضته علماً بأنهم لا قبل لهم بمثله، وقد كانوا من علو الهمة ورجاحة الرأي بحيث لا يعرضون أنفسهم للافتضاح ولا يرضون لأنفسهم بالانتقاص لذلك رأوا الإمساك عن المعارضة أجدى بهم واحتملوا النداء عليهم بالعجز عن المعارضة في مثل هذه الآية، لعلهم رأوا أن السكوت يقبل من التأويل بالأنفة ما لا تقبله المعارضة القاصرة عن بلاغة القرآن فثبت أنه معجز لبلوغه حداً لا يستطيعه البشر فكان هذا الكلام خارقاً للعادة ودليلاً على أن الله أوجده كذلك ليكون دليلاً على صدق الرسول فالعجز عن المعارضة لهذا الوجه كان لعدم القدرة على الإتيان بمثله...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟

نعلم أن منصب النّبوة أعظم منصب منحه الله لخاصة أوليائه. فكل المناصب عادة تمنح صاحبها القدرة للحكم على أبدان الأفراد، إلاّ منصب النّبوة، فالنّبي يحكم على الأجسام والقلوب في مجتمعه. من هنا كان مقام النّبوة لا يبلغه مقام في سموّه، ومن هنا أيضاً كان أدعياء النبوّات الكاذبة أحطّ النّاس وأشدّهم انحرافا.

والنّاس هنا أمام أمرين: إمّا أن يؤمنوا بدعوات النّبوة جميعاً، أو يرفضوها جميعاً، لو قبلوها جملة لتحولت ساحة الأديان إلى فوضى وهرج و مرج. ولو رفضوها جملة لكان عاقبة ذلك الضلال والضياع. فالدليل على مبدأ البعثة ذاته يفرض إذن أن يكون الأنبياء الصادقين مجهزين بالدليل على نبوتهم كي يتميز الصادقون من الكاذبين. أي أن يكونوا مجهزين بالمعجزة الدالة على صدق ادعائهم.

و«المعجزة» ـ كما هو واضح من لفظها ـ عمل خارق يأتي به النّبي، ويعجز عن الإتيان به الآخرون. على النّبي صاحب المعجزة أن يتحدى النّاس بمعجزته، وأن يعلن لهم أن معجزته دليل على صدق دعواه.

القرآن معجزة نبي الإِسلام الخالدة:

القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، ولم يستطع أحد حتى اليوم أن يأتي بمثله، وهو معجزة سماوية كبرى. هذا الكتاب الكريم يعتبر ـ بين معاجز النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أقوى سند حيّ على نبوة الرّسول الخاتم، لأنه معجزة «ناطقة» و«خالدة» و«عالمية» و«معنوية». أمّا أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنها كانت بحاجة إلى وجود النّبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها، ومعاجز النّبي الخاتم ـ عدا القرآن ـ هي من هذا اللون. أما القرآن فمعجزة ناطقة. لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم ويخرج منتصراً من ساحة التحدي. وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة. إنه دين ومعجزة، إنه قانون، ووثيقة تثبت إلهية القانون. أما الخلود والعالمية: فإنّ القرآن حطم سدود «الزمان والمكان» وتعالى عليهما، لأن معاجز الأنبياء السابقين ـ وحتى معاجز النّبي الخاتم غير القرآن ـ مسجلة على شريط معين من الزمان، وواقعة في مساحة معينة من المكان، وأمام جمع معدود من النّاس، مثل معاجز عيسى (عليه السلام) كحديثه في المهد وإحيائه الموتى.

وواضح أن الأحداث المقيّدة بزمان ومكان معينين تمسي صورتها باهتة كلما ابتعدنا عن ظروفها الزمانية والمكانية. وهذا من خصائص الأمور الزمنية. لكن القرآن لا يرتبط بالزمان والمكان، فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون، بل إن مرور الزمن زاد البشرية قدرة في العلم والإمكانات لتستفيد منه أكثر من ذي قبل، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فانه يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية، [وبدهي] أن الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.

أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين، ونرى أنها كانت غالباً «جسمية» مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية، وتحدث الطفل في المهد... وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أما القرآن، فيسخر القلوب والنفوس، ويبعث فيها الإعجاب والإكبار. إنه يتعامل مع الأرواح والأفكار والعقول البشرية، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.

هل تحدى القرآن؟

القرآن تحدى البشرية في مواضع عديدة من سوره، منها:

ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بمِثْلِ هَذَا الّقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً) 166.

ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإن ِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) 167 3 ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ فَأْتُوا بِسُورَة مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) 168.

ـ الآية الثالثة والعشرون من سورة البقرة التي يدور حولها بحثنا.

القرآن تحدى بصراحة وقوة في هذه الآيات جميع البشرية، وفي هذه الصراحة والقوّة دلالة حيّة على حقّانيته. ولم يكتف في تحدّيه بدعوة النّاس إلى أن يأتوا بمثله، بل حفّزهم وشجعهم على ذلك، وعبارات التحفيز نجدها في قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ... فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات... قُلْ فَأْتُوا بِسُورَة مِثْلِهِ... وَادْعُوا مَن اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دون اللهِ... قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ... لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ... فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ... فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا...). هذا التحفيز والحثّ والإثارة لم يصدر ضمن إطار معركة أدبية أو عقائدية، بل في إطار معركة «سياسية» «اقتصادية» «اجتماعية»، ضمن إطار معركة حياة أو موت، يرتبط بمصيرها وجود هذا الكيان الجديد. وعجز المعارضين أمام هذا التحدّي الحياتي الصارخ، يبيّن بشكل أوضح أبعاد المعجزة القرآنية...