قوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } " إن " الشرطية داخلة على جملة " لم تفعلوا " و " تفعلوا " مجزوم ب " لم " ، كما تدخل " إن " الشرطية على فعل منفي ب " لا " نحو : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } [ الأنفال : 73 ] ، فيكون لم تفعلوا في محل جزم بها .
وقوله : " فاتقوا " جواب الشَّرط ، ويكون قوله : { وَلَن تَفْعَلُواْ } جملة معترضة بين الشرط وجزائه{[37]} .
وقال جماعة من المفسّرين : معنى الآية : وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ، [ ولن تفعلوا فإن لم تفعلوا فاتقوا النَّار ، وفيه نظر لا يخفى ، وإنما قال تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ]{[38]} وَلَن تَفْعَلُواْ } فعبر بالفعل عن الإتيان ؛ لأن الفعل يجري مجرى الكناية ، فيعبر به عن كل فعل ، ويغني عن طول ما تكنى به .
وقال الزمخشري{[39]} : " لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل ، لاسْتُطِيعَ أن يقال : فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، ولن تأتوا بسورة من مثله " .
قال أبو حيان : " ولا يلزم ما قال ؛ لأنه لو قال : " فإن لم تأتوا ولن تأتوا " كان المعنى على ما ذكر ، ويكون قد حذف ذلك اختصاراً ، كما حذف اختصاراً مفعول " لم تفعلوا ، ولن تفعلوا " ألا [ ترى ]{[40]} أن التقدير : فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ، ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ؟ " .
فإن قيل : كيف دخلت " إن " على " لم " ولا يدخل عامل على عامل{[41]} ؟
فالجواب : أَنَّ " إنْ " ها هنا غير عاملة في اللفظ ، ودخلت على " لم " كما تدخل على الماضي ، لأنها لا تعمل في " لم " كما لم تعمل في الماضي ، فمعنى " إن لم تفعلوا " إن تركتم الفعل .
و " لَنْ " حرف نصف معناه نفي المستقبل ، ويختص بصيغة المضارع ك " لَمْ " ولا يقتضي نفيُهُ التَّأبيدَ ، وليس أقلَّ مدة من نفي " لاَ " ، ولا نونُه{[42]} بدلاً من ألف " لاَ " ، ولا هو مركَّباً من " لاَ أَنْ " ؛ خلافاً للخليل ، وزعم قومٌ أنها قد تجزم ، منهم أبو عُبَيْدَة ؛ وأنشدوا : [ الخفيف ]
لَنْ يَخِبِ الآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ حَرْ *** رَكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الحَلْقَهْ{[43]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَلَنْ أُعْرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ{[44]}
ويمكن تأويل ذلك بأنه مما سُكِّن فيه للضَّرورة .
قوله تعالى : { فَاتَّقُواْ النَّارَ } هذا جواب الشرط كما تقدم ، والكثير في لغة العرب : " اتَّقَى يَتَّقِي " على افْتَعَلَ يَفْتَعِلُ ، ولغة " تميم " و " أسد " تَقَى يَتْقِي : مثل : رَمَى يَرْمِي ، فيسكنون ما بعد حرف المضارعة ؛ حكى هذه اللغة سيبويه ، ومنهم من يحرك ما بعد حرف المضارعة ؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
تَقُوهُ أَيُّهَا الفِتْيَانُ إنِّي *** رَأَيْتُ اللهَ قَدْ غَلَبَ الجُدُودَا{[45]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَقِ اللهَ فِينَا وَالكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو{[46]}
قوله تعالى : { النَّارَ } مفعول به ، و " الَّتي " صفتها ، وفيها أربعُ اللغات المتقدِّمة ، كقوله : [ الكامل ]
شُغِفَتْ بِكَ اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمِثْلُ مَا *** بِكَ مَا بِهَا مِنْ لَوْعَةٍ وَغَرَامِ{[47]}
فَقُلْ لِلَّتْ تَلُومُكَ إنَّ نَفْسِي *** أَرَاهَا لاَ تُعَوَّذُ بَالتَّمِيمِ{[48]}
و " وقودها النَّاس والحجارة " جملة من مبتدأ وخبر ، صلة وعائد ، والألف واللام في " النار " للعهد .
فإن قيل : الصِّلة مقررة ، فيجب أن تكون معلومةً فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
والجواب : لا يمتنع أن يتقدّم لهم بهذه الصّلة معهودة عند السامع بدليل قوله تعالى : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] وقوله : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [ النجم : 16 ] وقوله : { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } [ النجم : 54 ] وقال : { فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] إلا أنه خلاف المشهور أو لتقدم ذكرها في سورة التحريم - وهي مدينة بالاتفاق - وقد غلط الزمخشري في ذلك .
والمشهور فتح واو الوقود ، وهو اسم ما يوقد به .
وقيل : هو مصدر كالوَلوع والقَبُول والوَضُوء والطَّهُور ، ولم يجئ مصدر على " فَعُول " غير هذه الألفاظ فيما حكاه سيبويه .
وزاد الكسائي : الوَزُوع . وقرئ{[49]} شاذًّا في سورة " ق " { وَمَا مَسَّنَا مِن لَغُوبٍ } [ ق : 38 ] فتصير سبعة ، وهناك ذكرت هذه القراءة ، ولكن المشهور أن الوَقُود والوَضُوء والطَّهُور بالفتح اسم ، وبالضم مصدر .
وقرأ{[50]} عيسى بن عمر بفتحها وهو مصدر .
وقال ابن عطية : وقد حُكيا جميعاً في الحطب ، وقد حكيا في المصدر . انتهى .
فإن أريد اسم ما يوقد به فلا حاجة إلى تأويل ، وإن أريد بهما المصدر فلا بد من تأويل ، وهو إما المُبَالغة أي : جُعِلُوا نفس التوقد مبالغة في وضعهم بالعذاب ، وإمَّا حذف مضاف ، إمّا من الأول أي أصحاب توقدها ، وإمّا من الثاني أي : يوقدها إحراق الناس ، ثم حذف المُضَاف ، وأقيم المضاف إليه مُقَامه . والهاء في " الحِجَارة " لتأنيث الجمع .
فَصْلٌ في تثنية " الَّتي " وجَمْعِهِ
وفي تثنية " الّتي " ثلاث لغاتٍ :
" اللَّتَانِ " ، و " اللَّتَا " بحذف النون ، و " اللَّتَانّ " بتشديد النون ، وفي جمعها خَمْسُ لُغَاتٍ : " اللاَّتي " - وهي لغة القرآن - و " اللاَّتِ " - بكسر التاء بلا ياء - و " اللَّوَاتي " ، و " اللَّوَاتِ " - بلا ياء ، وأنشد أبو عُبَيْدة : [ الرجز ]
مِنَ اللَّوَاتِي وَالَّتِي وَاللاَّتِ *** زَعَمْنَ أَنِّي قَدْ كَبِرْتُ لِدَاتي{[51]}
و " اللَّوَاءِ " بإسقاط " التاء " حكاه الجوهريُّ .
وزاد ابن الشَّجَرِيِّ : " اللاَّئي " بالهمز وإثبات " الياء " ، و " اللاءِ " بكسر " الهمزة " وحذف " الياء " و " اللاّ " بحذف الهمزة ، فإن جمعت الجمع ، قلتَ في " اللاتي " : " اللواتي " وفي " اللائي " : " اللوائي " .
قال الجوهريُّ : وتصغير " الَّتي " " اللَّتَيَّا " بالفتح والتشديد ، قال الراجز : [ الرجز ]
بَعْدَ اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا وَالَّتِي *** إذَا عَلَتْهَا أَنْفُسٌ تَرَدَّتِ{[52]}
وبعض الشعراء أدخل على " الَّتي " حرْفَ النداء ، وحروف النداء لا تدخلُ على ما فيه الألف واللام إلاَّ في قولنا : " يَا أَللَّه " وحده ، فكأنه شبهها به ؛ من حيث كانت الألفُ واللاَّمُ غير مفارقتين لها ، وقال : [ الوافر ]
مِنْ اجْلِكِ يَا الَّتي تَيَّمْتِ قَلْبِي *** وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالوُدِّ عَنِّي{[53]}
ويقال : " وقع فُلاَنٌ في اللَّتَيَّا وَالَّتي " وهما اسمان من أسماء الداهِيَة .
قال ابن الخطيب{[54]} : انتفاء إتيانهم بالسورة واجبٌ ، فهلاَّ جيء ب " إذا " الذي للوجوب دون " إن " الذي{[55]} للشك ؟ والجواب : من وجهين :
أحدهما : أنه ساق القول معهم على حسب حسابهم ، وأنهم لم يكونوا بعد جازمين بالعجز عن المُعَارضة ؛ لاتكالهم على فصاحتهم ، واقتدارهم على الكلام .
والثَّاني : أنه تهكّم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة لمن هو دونه : " إن غلبتك لم أُبْقِ عليك " ، وهو عالم أنه غالبه تهكماً به . فإن قيل : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله . والجواب : إذا ظهر عجزهم عن المُعَارضة صَحّ عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا صَحّ ذلك ثم لزموا العِنَادَ استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : { فَاتَّقُواْ النَّارَ } قائماً مقام قوله : فاتركوا العناد ، فأناب إبقاء النار منابه .
و " الحجارة " روي عن ابن مسعود والفراء - رضي الله تعالى عنهما - أنها حجارة الكبريت{[56]} ، وخصّت بذلك ؛ لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الإيقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدُّخَان ، وشدّة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت .
وقيل : المراد بالحجارة الأصنام ، لأنهم لما قرنوا أنفسهم بها في الدنيا حيث نحتوها أصناماً ، وجعلوها أنداداً لله ، وعبدوها من دونه قال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] وفي معنى " الناس والحجارة " و " حصب جهنم " في معنى " وقودها " .
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشّفعاء ، والشهداء الذين يشفعون لهم ، ويستدفعون بها المضار عن أنفسهم جعلهم الله عذابهم ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في تحسيرهم ، ونحوه ما يفعل بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحُّوا بها ، ومنعوها من الحقوق ، حيث يحمى عليها في نار جهنّم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .
قال ابن الخطيب{[57]} : والقول بأنها حجارة الكبريت تخصيص بغير دليل ، بل فيه ما يدلّ على فساده ؛ لأن الغرض هُنَا تفخيم صفة النَّار ، والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد ، فلا يدلّ الإيقاد بها على قوة النار .
أما لو حملنا على سائر الحجارة ، دلّ على عظم أمر النار ؛ فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران ، فكأنه قال : تلك النَّار نار بلغت لقوتها أن تتعلّق في أوّل أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدُّنيا .
قال القرطبي : " وليس في قوله تعالى : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ البقرة : 24 ] دليلٌ على أنه ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكره في غير موضع ، مع كون الجن والشياطين فيها " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل مؤذٍ في النَّار " {[58]} وفي تأويله وجهان :
أحدهما : كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار .
والثاني : أن كل ما يؤذي النَّاس في الدنيا من السِّباع والهوام وغيرها في النار معدّ لعقوبة أهل النار .
وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي للكافرين خاصّة .
روى مسلم " عن العباس بن عبد المطّلب{[59]} - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ، إنّ أبا طالب{[60]} كان يحوطك وينصرك ، فهل ينفعه ذلك ؟ قال : " نعم ، وَجَدْتُهُ في غَمَرَاتٍ من النَّارِ فأخرجته إلى ضَحْضَاحٍ " {[61]} .
وفي رواية : " ولَوْلاَ أَنَا لكان في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ من النار " ويدلُّ على هذا التأويل قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } .
وقال ابن الخطيب{[62]} : وليس فيها ما يدلُّ على أنه ليس هناك نيران أخر غير موصوفة بهذه الصِّفة ، معدّة لفساق أهل الصلاة .
قوله تعالى : { أُعِدَّتْ } فعلٌ لما لم يسمَّ فاعلُهُ ، والقائم مقام الفاعل ضمير " النَّارِ " ، والتاء واجبةٌ ، لأن الفعل أسند إلى ضمير المؤنَّث ، ولا يلتفَتُ إلى قوله : [ المتقارب ]
فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا *** وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا{[63]}
لأنه ضرورةٌ ؛ خلافاً لابن كَيْسَان .
و " للكافرين " متعلّق به ، ومعنى " أُعِِدَّتْ " : هُيِّئَتْ ؛ قال : [ مجزوء الكامل ]
أَعْدَدْتُ لِلْحَدَثَانِ سَا *** بِغَةً وَعَدَّاءً عَلَنْدَى{[64]}
وقرئ{[65]} : " أُعْتِدَتْ " من العَتَاد بمعنى العدة ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها ، لكونها مستأنفة جواباً لمن قال : لمن أعدت{[66]} ؟
وقال أبو البَقَاء : محلها النصب على الحال من " النار " ، والعامل فيها " اتقوا " .
قيل : وفيه نظر ، فإنها معدة للكافرين اتقوا أم لم يتقوا ، فتكون حالاً لازمة ، لكن الأصل في الحال التي ليست للتوكيد أن تكون منتقلة ، فالأولى أن تكون استئنافاً .
قال أبو البقاء{[67]} : ولا يجوز أن تكون حالاً من الضمير في " وقودها " لثلاثة أشياء :
الثاني : أن الحطب لا يعمل يعني أنه اسم جامد .
الثالث : الفصل بين المصدر أو ما يعمل عمله ، وبين ما يعمل فيه الخبر وهو " الناس " ، يعني أن الوقود بالضم ، وإن كان مصدراً صالحاً للعمل ، فلا يجوز ذلك أيضاً ؛ لأنه عامل في الحال ، وقد فصلت بيه وبينها بأجنبي ، وهو " الناس " وقال السّجستاني : " أعدّت للكافرين " من صلة " التي " كقوله : { وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } .
قال ابن الأَنْبَاري : وهذا غلط ؛ لأن " التي " هنا وصلت بقوله : " وقودها الناس " فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية ، بخلاف التي في " آل عمران " .
قلت : ويمكن ألا يكون غلطاً ؛ لأنا لا نسلم أن " وقودها الناس " - والحالة هذه - صلة ، بل إما معترضة ، لأن فيها تأكيداً وإما حالاً ، وهذان الوجهان لا يمنعهما معنى ، ولا صناعة .