الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

قوله تعالى : " فإن لم تفعلوا " يعني فيما مضى " ولن تفعلوا " أي تطيقوا ذلك فيما يأتي . والوقف على هذا على " صادقين " تام . وقال جماعة من المفسرين : معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا ، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على " صادقين " .

فإن قيل : كيف دخلت " إن " على " لم " ولا يدخل عامل على عامل ؟ فالجواب أن " إن " ههنا غير عاملة في اللفظ ، فدخلت على " لم " كما تدخل على الماضي ، لأنها لا تعمل في " لم " كما لا تعمل في الماضي ، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل .

قوله تعالى " ولن تفعلوا " نصب بلن ، ومن العرب من يجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة :

فلن{[355]} أُعَرِّضْ أبيتَ اللعنَ بالصَّفَدِ

وفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه : فقيل لي " لن تُرَع " . هذا على تلك اللغة . وفي قوله : " ولن تفعلوا " إثارة لهممهم ، وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها وقال ابن كيسان : " ولن تفعلوا " توقيفا لهم على أنه الحق ، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب ، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر ، وأنه أساطير الأولين ، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله .

وقوله " فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة " جواب " فإن لم تفعلوا " أي اتقوا النار بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى . وقد تقدم معنى التقوى{[356]} فلا معنى لإعادتها . ويقال : إن لغة تميم وأسد " فتقوا النار " . وحكى سيبويه : تقى يتْقي ، مثل قضى يقضي . " النار " مفعولة . " التي " من نعتها . وفيها ثلاث لغات : التي واللتِ ( بكسر التاء ) واللتْ ( بإسكانها ) . وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة ، ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير ، ولا تتم إلا بصلة . وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا : اللتان واللتا ( بحذف النون ) واللتان ( بتشديد النون ) وفي جمعها خمس لغات : اللاتي ، وهي لغة القرآن . واللات ( بكسر التاء بلا ياء ) . واللواتي . واللوات ( بلا ياء ) ، وأنشد أبو عبيدة :

من اللواتي واللتي واللاتي *** زعمن أن قد كبرت لداتي

واللوا ( بإسقاط التاء ) ، هذا ما حكاه الجوهري وزاد ابن الشجري : اللائي ( بالهمز وإثبات الياء ) . واللاء ( بكسر الهمزة وحذف الياء ) . واللا ( بحذف الهمزة ) فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي وفي اللائي : اللوائي . قال الجوهري : وتصغير التي اللتيا ( بالفتح والتشديد ) ، قال الراجز{[357]} :

بعد اللتيا واللتيا والتي *** إذا عَلَتْهَا أنفس تردَّتِ

وبعض الشعراء أدخل على " التي " حرف النداء ، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا : يا الله ، وحده . فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها ، وقال :

من أجلك يا التي تيمت قلبي *** وأنت بخيلة بالود عني

ويقال : وقع فلان في اللتيا والتي ، وهما اسمان من أسماء الداهية . والوقود ( بالفتح ) : الحطب . وبالضم : التوقد . و " الناس " عموم ، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها ، أجارنا الله منها . " والحجارة " هي حجارة الكبريت الأسود - عن ابن مسعود والفراء - وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، نتن الرائحة ، كثرة الدخان ، شدة الالتصاق بالأبدان ، قوة حرها إذا حميت . وليس في قوله تعالى : " وقودها الناس والحجارة " دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها . وقيل : المراد بالحجارة الأصنام ، لقوله تعالى : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب{[358]} جهنم " [ الأنبياء : 98 ] أي حطب جهنم . وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس . وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة . وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل مؤذ في النار ) . وفي تأويله وجهان : أحدهما - أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار . الثاني - أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة . والله أعلم .

روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت : يا رسول الله ، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال : ( نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح{[359]} - في رواية - ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) . " وقودها " مبتدأ . " الناس " خبره . " والحجارة " عطف عليهم . وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف : " وُقودها " ( بضم الواو ) . وقرأ عبيد بن عمير : " وقيدها الناس " . قال الكسائي والأخفش : الوقود ( بفتح الواو ) : الحطب ، و( بالضم ) : الفعل ، يقال : وقدت النار تقد وقودا ( بالضم ) ووَقَدا وقِدة [ ووقيدا ووقْدا ]{[360]} وَوَقَدَانًا ، أي توقدت . وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا . والاتقاد مثل التوقد ، والموضع موقد ، مثل مجلس ، والنار موْقَدة . والوقدة : شدة الحر ، وهي عشرة أيام أو نصف شهر . قال النحاس : يجب على هذا ألا يقرأ إلا " وقودها " [ بفتح الواو ]{[361]} لأن المعنى حطبها ، إلا أن الأخفش قال : وحكي أن بعض العرب يجعل الوَقود والوُقود بمعنى الحطب والمصدر . قال النحاس : وذهب إلى أن الأول أكثر ، قال : كما أن الوضوء الماء ، والوضوء المصدر .

قوله تعالى : " أعدت للكافرين " ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك ، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة ، على ما يأتي . وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة ، خلافا للمبتدعة في قولهم إنها لم تخلق حتى الآن . وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي . روى مسلم عن عبد الله{[362]} بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة{[363]} ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تدرون ما هذا ) قال قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها ) . وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( احتجت النار والجنة فقالت هذه : يدخلني الجبارون والمتكبرون ، وقالت هذه : يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه : أنت عذابي أعذب به من أشاء وقال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها ) . وأخرجه مسلم{[364]} بمعناه . يقال : احتجت بمعنى تحتج ، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود{[365]} ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهما في صلاة الكسوف ، ورآهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة ، فلا معنى لما خالف ذلك . وبالله التوفيق . و " أعدت " يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة ، وأضمرت معه قد ، كما قال : " أو جاؤوكم حصرت صدورهم{[366]} " [ النساء : 90 ] فمعناه قد حصرت صدورهم ، فمع " حصرت " قد مضمرة لأن الماضي لا يكون حالا إلا مع قد ، فعلى هذا لا يتم الوقف على " الحجارة " . ويجوز أن يكون كلاما منقطعا عما قبله ، كما قال : " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم{[367]} " [ فصلت : 23 ] . وقال السجستاني : " أعدت للكافرين " من صلة " التي " كما قال في آل عمران : " واتقوا النار التي أعدت للكافرين{[368]} " [ آل عمران : 131 ] . ابن الأنباري : وهذا غلط ، لأن التي في سوره البقرة قد وصلت بقوله : " وقودها الناس " فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية ، وفي آل عمران ليس لها صله غير " أعدت " .


[355]:رواية الديوان وهي المشهورة في مصادر الأدب: "فلم أعرض". ويروى: "فما عرضت". وصدر البيت: هذا الثناء فإن تسمع به حسنا وقوله: أبيت اللعن: تحية كانوا يحيون بها الملوك. والصفد: العطاء؛ معناه: أبيت أن تأتي ومن الأمور ما تلعن عليه وتذم: يقول: هذا الثناء الصحيح الصادق فمن الحق أن تقبله مني، فلم أمدحك متعرضا لعطائك، لكن امتدحت إقرارا بفضلك (عن شرح الديوان).
[356]:راجع ص 161 من هذا الجزء.
[357]:هو العجاج.وصف دواهي شنيعة. يقول: بعد الجهد والمشرف الذي أشرفت عليه. ومعنى تردت: سقطت هاوية وهلكت.
[358]:راجع ج 11 ص 343.
[359]:الضحضاح في الأصل: ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين، واستعير للنار.
[360]:الزيادة عن هامش بعض نسخ الأصل.
[361]:الزيادة عن كتاب "إعراب القرآن للنحاس".
[362]:كذا في الأصول. وفي صحيح مسلم: "عن أبي هريرة".
[363]:الوجبة: صوت الشيء يسقط فيسمع له، كالهدة.
[364]:بمراجعة صحيحي البخاري ومسلم وجدنا أن الرواية لمسلم، وأخرجه البخاري بمعناه.
[365]:يلاحظ أن راوي الحديث المتقدم في صحيحي مسلم والبخاري أبو هريرة.
[366]:راجع ج 5 ص 309.
[367]:راجع ج 15 ص 353
[368]:راجع ج 4 ص 202.