فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

{ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وبشر الذين أمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون } .

{ فإن لم تفعلوا } فيما مضى { ولن تفعلوا } ذلك فيما يأتي وتبين لكم عجزكم عن المعارضة وذلك أن النفوس الأبية إذا قرعت بمثل هذا التقريع استفرغت الوسع في الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه ولو قدروا على ذلك لأتوا به ، فحيث لم يأتوا بشيء ظهرت المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وبان عجزهم ، وهم أهل الفصاحة والبلاغة ، والقرآن من جنس كلامهم وكانوا حراصا على إطفاء نوره وإبطال أمره ، ثم مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة من أحدهم ورضوا بسبي الذراري وأخذ الأموال والقتل ، وإذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان الأمر كذلك وجب ترك العناد .

وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها لأنها لم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيام النبوة وفيما بعدها وإلى الآن ، وقد كرر الله سبحانه تحدي الكفار لهذا في مواضع من القرآن منها هذا ، ومنها قوله تعالى في سورة القصص { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين } وقال في سورة سبحان { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وقال في سورة هود { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } وقال في سورة يونس { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } .

وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر أو كان العجز عن المعارضة الصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه ، والحق الأول فإن القرآن يأتي تارة بالقصة باللفظ الطويل ، ثم يعيدها باللفظ الوجيز ولا يخل بالمقصود ، وأنه فارقت أساليبه أساليب الكلام وأوزانه أوزان الأشعار والخطب والرسائل ولهذا تحدث العرب به فعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله ، وهم معدن البلاغة وفرسان الفصاحة حتى قال الوليد بن المغيرة في وصف القرآن : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أصله لمغدق وإن أعلاه لمثمر ، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه .

{ فاتقوا النار } بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام بفرائضه واجتناب مناهيه وقيل المعنى فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله فإنه مستوجب للعقاب بالنار { التي وقودها الناس والحجارة } أي حطبها والوقود بالفتح الحطب وبالضم التوقد ، وقيل كل من الفتح والضم يجري في الآلة والمصدر والمراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا فجعلت وقودا للنار معهم ، ويدل على هذا قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } وقيل المراد بها حجارة الكبريت لأنها أكثر التهابا قاله ابن عباس ، وقيل جمع الحجارة ، وفيه دليل على عظم تلك النار وقوتها وفي هذا من التهزيل ما لا يقادر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها .

{ أعدت للكافرين } أي لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر ، قاله ابن عباس والمعنى جعلت عدة لعذابهم وهيئت لذلك ، وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية وقودها الناس والحجارة قال أوقد عليها ألف عام حتى احمرت وألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى اسودت فهي سواء مظلمة لا يطفأ لهبها ، وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أي هريرة مرفوعا مثله ، وأخرج أحمد ومالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا يا رسول الله إن كانت لكافية قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها .

وعن أبي هريرة قال أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون ، إنها لأشد سوادا من القار ، والآية دلت على أنها مخلوقة الآن إذ الإخبار عن إعدادها بلفظ الماضي دليل على وجودها وإلا لزم الكذب في خبر الله تعالى ، فما زعمته المعتزلة من أنها تخلق يوم الجزاء مردود ، وتأويلهم بأنه يعبر عن المستقبل بالماضي لتحقيق الوقوع ومثله كثير في القرآن مدفوع بأنه خلاف الظاهر ، ولا يصار إليه إلا بقرينة ، والأحاديث الصحيحة المتقدمة تدفعه .