وأما قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } الآية . فأقول أولاً : إنها تدل على إعجاز القرآن وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه :
أحدها : أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا يعادونه صلى الله عليه وسلم أشد المعاداة ، ويتهالكون في إبطال أمره وفراق الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج منهم من أقوى ما يدل على ذلك . فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فلو أمكنهم الإتيان بمثله لأتوا به ، وحيث لم يأتوا به ظهر كونه معجزاً . وثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم إن كان متهماً عندهم فيما يتعلق بالنبوة ، فقد كان معلوم الحال في وفور العقل . فلو خاف صلى الله عليه وسلم عاقبة أمره لتهمة فيه صلى الله عليه وسلم -حاشاه عن ذلك- لم يبالغ في التحدي إلى هذه الغاية . وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم لو لم يكن قاطعاً بنبوته لكان يجوز خلافه ، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه ، فالمبطل المزوّر لا يقطع في الكلام قطعاً ، وحيث جزم دل على صدقه . ورابعها : أن قوله { ولن تفعلوا } وفي { لن } ، تأكيد بليغ في نفي المستقبل إلى يوم الدين ، إخبار بالغيب . وقد وقع كما قال صلى الله عليه وسلم ، لأن أحداً لو عارضه صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه عادة ، لاسيما والطاعنون فيه صلى الله عليه وسلم أكثف عدداً من الذابين عنه صلى الله عليه وسلم . وإذا لم تقع المعارضة إلى الآن غلب على الظن ، بل حصل الجزم أنها لا تقع أبداً لاستقرار الإسلام وقلة شوكة الطاعنين . وإنما جيء ب{ إن } الذي للشك دون " إذا " الذي للوجوب والقطع ، مع أن انتفاء إتيانهم بالسورة واجب بناء على حسبانهم وطمعهم ، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على بلاغتهم . وأيضاً فيه تهكم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه : إن غلبتك لم أبق عليك . وإنما اختير قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } على قوله { فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله } ، طلباً للوجازة ، فإن الإتيان فعل من الأفعال ، وحذف مفعول فعل كثير دون مفعول أتى فهو جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً يغنيك عن طول المكنى عنه ، كما لو قلت : أتيت فلاناً وأعطيته درهماً . فيقال لك : نعم ما فعلت . وقوله { ولن تفعلوا } جملة معترضة لا محل لها . وليس الواو للحال وإنما هو للاستئناف . والمعترضة تجيء بالواو وبدون الواو ، وقد اجتمعتا في قوله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } [ الواقعة : 76 ] وإنما لم يقل فإن لم تفعلوا فاتركوا العناد كما هو الظاهر ، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، فوضع موضعه من حيث إنه من نتائجه ، لأن من اتقى النار ترك المعاندة ، ونظيره قول الملك لجيشه : إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطي . يريد فاتبعون وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط ، فهو من باب الكناية . وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد بأنه الموجب للنار ، ولهذا شنع بتفظيع أمرها . والوقود ما ترفع به النار ، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح . فإن قلت : صلة " الذي " و " التي " يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟ قلنا : لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب ، أو سمعوه من رسول الله ، أو يكون إشارة إلى ما نزلت بمكة قبل نزول هذه بالمدينة وذلك في سورة التحريم { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] ولهذا عرّفت ههنا مشاراً بها إلى ما عرفوه ثمة أوّلاً ، والمعنى : اتقوا ناراً ممتازة عن غيرها من النيران بأنها لا تتّقد إلا بالناس والحجارة ، أو بأنها توقد بنفس ما يراد إحراقه وإحماؤه ، أو بأنها لإفراط حرها إذا اتصلت بما لا يشتعل به نار اشتعلت وارتفع لهبها . ولعل لكفار الجن وشياطينهم ناراً وقودها الشياطين جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب . والحجارة قيل : هي حجارة الكبريت . وقيل : هي ما نحتوها أصناماً { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] لأنهم لما اعتقدوا فيها أنها شفعاؤهم عند الله ، وأنهم ينتفعون بها ويدفعون المضارّ عن أنفسهم ، جعلها الله عذابهم إبلاغاً في إيلامهم وتوريثاً لنقيض مطلوبهم ، ونحوه ما يفعله بالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، أي يمنعون حقوقها حيث
{ يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } [ التوبة : 35 ] والتاء في الحجارة لتأكيد التأنيث في الجماعة نحو : صقورة . وقد يدور في الخلد من هذه الآية ، ومن قوله { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة } [ البقرة : 74 ] ومن قوله { نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة } [ الهمزة : 6 ، 7 ] أن المراد بالحجارة هي الأفئدة أي وقودها الناس وقلوبهم . وتخصيص القلب بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وأولى بالإحراق إن كان مقصراً في درك ما خلق الإنسان لأجله . ومعنى أعدت هيئت وجعلت عدّة لعذابهم ، وإنما فقد العاطف لأنها بدل من الصلة أو استئناف ، كأنه قيل لمن أعدّت هذه النار ؟ فقيل أعدت للكافرين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.