ولما{[1100]} كان سبحانه عالماً بأن الأنفس الأبية والأنوف الشامخة الحمية التي{[1101]} قد لزمت شيئاً فمرنت{[1102]} عليه حتى صار لها خلقاً يصعب عليها انفكاكها عنه ويعسر خلاصها منه عبر عن هذا{[1103]} الإخبار بالعجز{[1104]} مهدداً في سياق ملجىء إلى الإنصاف{[1105]} بالاعتراف أو تفطر القلوب بالعجز عن المطلوب بقوله تعالى : { فإن لم تفعلوا } فأتى بأداة الشك تنفيساً لهم وتهكماً في نفس الأمر بهم واستجهالاً لهم ، ثم لم يتمم{[1106]} ذلك التنفيس حتى ضربهم ضربة فضمت ظهورهم وقطعت قلوبهم فقال لتكون الآية كافلة لصحة{[1107]} نسبة النظم{[1108]} والمعنى آيد{[1109]} وآكد لادعائهم المقدرة{[1110]} {[1111]} بقوله تعالى{[1112]} : { ولن تفعلوا } {[1113]} فألزمهم الخزي بما حكم عليهم به من العجز ، فلم يكن لهم فعل إلا المبادرة إلى تصديقه بالكف ، فكانوا كمن ألقم الحجر فلم يسعه إلا السكوت ، واستمر ذلك التصديق لهم ولأمثالهم على وجه الدهر في كل{[1114]} عصر ينادي مناديه{[1115]} فتخضع له الرقاب ويصدّح مؤذنه فتنكسر الرؤوس ، {[1116]} والتعبير {[1117]} بالفعل الأعم من الإتيان أبلغ لأن نفيه{[1118]} نفي الأخص وزيادة .
والفعل قال الحرالي ما ظهر عن داعية من الموقع كان عن علم أو غير علم لتدين كان أو لغيره{[1119]} كما تقدم مراراً{[1120]} - انتهى .
فقد ثبت أن هذا الكتاب الذي بين أنه الهادي إلى الصراط المستقيم أعظم دليل على إفراده بالعبادة واختصاصه بالمراقبة التي أرشدنا إليها بقوله :
{ إياك نعبد{[1121]} وإياك نستعين{[1122]} } [ الفاتحة : 4 ] الآية بما ثبت فيه من أدلة التفرد بالإلهية بما ثبت من عجزهم عن معارضته{[1123]} وعجز جميع العرب الذين كانوا أفصح الخلق وكذا جميع من ولد في بلادهم وانطبع بلسانهم من اليهود والنصارى الذين لهم من الفصاحة{[1124]} والعلم ما هو مشهور فقد كان لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا في المدينة الشريفة وخيبر واليمن وغيرها ، ومن دخل في دينهم من العرب من الفصاحة والبلاغة والعلم ما لا يحتاج من طالع السيرة فيه إلى توقف{[1125]} ، وكان{[1126]} النصارى من بني إسرائيل ومن دان دينهم من العرب وهم{[1127]} كثير كثرة قوم{[1128]} المنذربن ماء السماء ، وما قارب الشيء من عبد القيس وتنوخ وعامله وغسان كلهم فصحاء بلغاء ، وزاد كثير منهم على ذلك العلم وكان منهم الشعراء المبرزون ؛ ومع ذلك فلم يقدر أحد منهم على طعن في هذا القرآن ولا عارضه منهم إنسان إلا ما قاله مسيلمة والأسود العنسي{[1129]} فيما{[1130]} افتضحوا به وأكذبهم الله تعالى{[1131]} فيه{[1132]} وسارت بفضائحهم الركبان فكانوا بها مثلاً في سائر البلدان .
قال عمرو بن بحر الجاحظ " في كتاب الحجة في تثبيت خبر الواحد " إن الله{[1133]} تبارك و{[1134]} تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا{[1135]} أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته فدعاهم إلى حظهم{[1136]} بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم{[1137]} بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا له{[1138]} وقتل{[1139]} من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وقتلوا أعمامه وبني أعمامه وعلية{[1140]} أصحابه وأعلام أهله ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن وغيره{[1141]} ويدعوهم صباحاً{[1142]} ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة{[1143]} واحدة أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحدياً{[1144]} لهم بها وتقريعاً بعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستوراً وظهر منه ما كان خفياً{[1145]} ، {[1146]} فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له : أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف{[1147]} فلذلك يمكنك ما لا يمكننا ؛ قال : فهاتوها مفتريات{[1148]} ، فلم يرم{[1149]} ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا طبع فيه لتكلفه ، ولو تكلفه لظهر ذلك ، ولو ظهر لوجد من يستجيده{[1150]} ويحامي عليه{[1151]} ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض ، فدل ذلك العاقل{[1152]} على عجز القوم مع كثرة كلامهم واتساع لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من{[1153]} هجاه منهم وعارض{[1154]} شعراء أصحابه وخطباء أمته ، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض{[1155]} لقوله{[1156]} وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الحرائب ؛ وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في العقل والرأي بطبقات ، ولهم القصيد{[1157]} العجيب والرجز الفاخر{[1158]} والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ، ولهم الأسجاع{[1159]} والمزدوج واللفظ المنثور ، ثم يتحدى به أقصاهم{[1160]} بعد أن ظهر{[1161]} عجز أدناهم ؛ فمحال أكرمك{[1162]} الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم{[1163]} أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد{[1164]} علمهم{[1165]} وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر ! وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل{[1166]} المنفعة فكذلك أيضاً محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون{[1167]} أكثر منه - انتهى .
فثبت بهذا عجزهم وخرس قطعاً إفصاحهم ورمزهم وطأطأ ذلاً{[1168]} كبرهم وعزهم ، وكيف يمكن المخلوق مع تمكنه في سمات النقص ودركات الافتقار والضعف معارضة من اختص بصفات الكمال وتعالى عن الأنداد{[1169]} والأشباه{[1170]} والأشكال .
وقد اختلف الناس في سبب الإعجاز وأحسن ما وقفت عليه من ذلك ما نقله الإمام بدر الدين الزركشي الشافعي في كتابه البرهان عن الإمام أبي سليمان الخطابي - وقال : وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر - أن وجه الإعجاز فيه{[1171]} من جهة{[1172]} البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها{[1173]} ووضعوا فيه إلى حكم الذوق{[1174]} ، قال{[1175]} : والتحقيق{[1176]} أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجات البيان متفاوتة ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز الطلق الرسل ؛ وهذه {[1177]} الأقسام هي الكلام{[1178]} الفاضل المحمود ، فالقسم الأول أعلاه{[1179]} والقسم{[1180]} الثاني أوسطه والقسم{[1181]} الثالث أدناه وأقربه ؛ فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة وأخذت من كل نوع شعبة ، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة ، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن{[1182]} العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة{[1183]} يعالجان نوعاً من الزعورة ، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما عن{[1184]} الآخر فضيلة خص بها القرآن لتكون{[1185]} آية بينة لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنما تعذر على البشر جميعاً الإتيان بمثله لأمور ، منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني ، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي{[1186]} بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتوصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها{[1187]} إلى أن يأتوا بكلام مثله ، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط{[1188]} لهما ناظم ؛ وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً و{[1189]} أشد تلاؤماً وتشاكلاً{[1190]} من نظمه ؛ وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته ، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام ، فأما أن يوجد مجموعه في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير ، فخرج من هذا أن{[1191]} القرآن إنما{[1192]} صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف ، مضمناً أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيه له في صفاته ، ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته ، في تحليل وتحريم وحظر وإباحة ، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها ، واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء{[1193]} أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه ، مودعاً أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم ، منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان ، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه ، وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه ، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم ؛ فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله ، ثم صار المعاندون له يقولون مرة : إنه شعر - لما رأوه{[1194]} منظوماً - ومرة : إنه سحر - لما رأوه معجوزاً عنه غير مقدور عليه ، وقد كانوا يجدون له وقعاً{[1195]} في القلوب وفزعاً في النفوس يريبهم{[1196]} ويحيرهم ، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعاً من الاعتراف{[1197]} ، ولذلك قالوا : إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وكانوا مرة بجهلهم يقولون : ( إنه{[1198]}
أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً{[1199]} } [ الفرقان : 5 ] مع علمهم أن صاحبه أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز - انتهى .
وأول كلامه يميل إلى أن الإعجاز بمجرد النظم من غير نظر إلى المعنى ، وآخره يميل إلى أنه بالنظر إلى النظم والمعنى معاً من الحيثية التي ذكرها ، وهو الذي ينبغي أن يعتقد لكن في التحدي بسورة واحدة وأما بالعشر{[1200]} فبالنظر إلى البلاغة في النظم فقط - نقله البغوي في تفسير سورة هود عن المبرد وقد مر آنفاً مثله في كلام الجاحظ .
وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل الباب الأول في علو بيان القرآن على بيان الإنسان : اعلم أن بلاغة البيان تعلو على قدر علو المبين ، فعلو بيان الله على بيان خلقه بقدر علو الله على خلقه ، فبيان كل مبين على قدر إحاطة علمه ، فإذا أبان الإنسان عن{[1201]} الكائن أبان بقدر ما يدرك منه وهو لا يحيط به علمه فلا يصل إلى غاية البلاغة فيه بيانه ، وإذا أنبأ عن الماضي فبقدر ما بقي من ناقص علمه به كائناً في ذكره لما لزم الإنسان من نسيانه ، وإذا أراد أن ينبىء{[1202]} عن الآتي أعوزه البيان كله إلا ما يقدّره أو يزوّره ؛ فبيانه في الكائن ناقص وبيانه في الماضي{[1203]} أنقص وبيانه في الآتي ساقط
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه{[1204]} } [ القيامة : 5 ] وبيان الله سبحانه عن الكائن بالغ إلى غاية ما أحاط به علمه
{ قل إنما العلم عند الله{[1205]} } [ الملك : 26 ] وعن المنقطع كونه بحسب إحاطته بالكائن وسبحانه من النسيان
{ لا يضل ربي ولا ينسى{[1206]} } [ طه : 52 ] وعن الأتي بما هو الحق الواقع
{ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين * والوزن يومئذ الحق{[1207]} } [ الأعراف : 7 ، 8 ] والمبين الحق الذي لا يوهن بيانه إيهام نسبة النقص إلى بيانه{[1208]} ، والإنسان يتهم نفسه في البيان ويخاف أن ينسب إلى العي فيقصد استقراء البيان ويضعف مفهوم بيانه ضعفاً من منته ومفهوم بيان القرآن أضعاف أضعاف أنبائه وقل ما ينقص عن نظيره - انتهى .
وقال الإمام محمد بن عبد الرحمن المراكشي{[1209]} الأكمه في شرح نظمه لمصباح ابن مالك في المعاني والبيان ما يصلح أن يكون متناً{[1210]} وجملة{[1211]} وما تقدم شرحاً له وتفصيلاً قال : الجهة المعجزة في القرآن تعرف بالتفكر في علم البيان وهو كما اختاره جماعة في تعريفه ما يحترز به{[1212]} عن الخطأ في تأدية المعنى وعن تعقيده ، وتعرف به وجوه تحسين الكلام{[1213]} بعد رعاية{[1214]} تطبيقه{[1215]} لمقتضى الحال ، لأن جهة إعجازه ليست مفردات ألفاظه وإلا لكانت قبل نزوله معجزة ، ولا مجرد تأليفها وإلا لكان كل تأليف معجزاً ، ولا إعرابها وإلا لكان كل كلام معرب معجزاً ، ولا مجرد أسلوبه وإلا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزاً - والأسلوب الطريق - ولكان هذيان{[1216]} مسيلمة معجزاً ، ولأن الإعجاز يوجد دونه أي الأسلوب في نحو
{ فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا{[1217]} } [ يوسف : 80 ]
{ فاصدع بما تؤمر{[1218]} } [ الحجر : 94 ] ولا بالصرف عن معارضته ، لأن تعجبهم كان{[1219]} من فصاحته ، ولأن مسيلمة وابن المقفّع والمعري وغيرهم قد تعاطوها فلم يأتوا إلا بما تمجه{[1220]} الأسماع وتنفر{[1221]} منه الطباع ويضحك منه في أحوال{[1222]} تركيبه و{[1223]} يهان بتلك{[1224]} الأحوال ، أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء ؛ فعلى إعجازه دليل إجمالي وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها فغيرها أحرى ، ودليل تفصيلي{[1225]} مقدمته{[1226]} التفكر في خواص تركيبه ، ونتيجته العلم{[1227]} بأنه تنزيل من المحيط بكل{[1228]} شيء علماً{[1229]} - انتهى . وسيأتي إن شاء الله تعالى في أواخر العنكبوت{[1230]} ما ينفع ها هنا وأشار سبحانه في تهديدهم{[1231]} بقوله : { فاتقوا النار{[1232]} } {[1233]} كذا قال الحرالي ، وهي{[1234]} جوهر لطيف يفرط لشدة لطافته في تفريط المتجمد بالحر المفرط وفي تجميد{[1235]} المتمتع بالبرد المفرط .
وقال غيره : جسم لطيف مضيء حار من شأنه الإحراق { التي وقودها } أي الشيء الذي{[1236]} يتوقد{[1237]} ويتأجج{[1238]} به { الناس والحجارة } التي هي أعم من أصنامهم {[1239]} التي قرنوا بها أنفسهم في الدنيا إلى أنهم لم يقدروا على المعارضة واستمروا على التكذيب ، كانوا معاندين ومن عاند استحق النار ، و{[1240]} إلى أنهم إذا أحرقوا فيها أوقد عليهم بأصنامهم تعريضاً{[1241]} بأنها وإن كانت في الدنيا لا ضرر فيها ولا نفع باعتبار ذواتها فهي في الآخرة ضرر لهم بلا نفع بشفاعة ولا غيرها ؛ {[1242]} وتعريف النار وصلة الموصول لأن أخبار القرآن بعد{[1243]} ثبوت أنه من عند الله معلومة مقطوع بها فهو من باب تنزيل الجاهل منزلة العالم تنبيهاً على أن ما جهله لم يجهله أحد .
وقال الحرالي : الحجارة ما تحجَّر أي اشتد تصام{[1244]} أجزائه من الماء والتراب ، { واتقوا } أي توقفوا عن هذه التفرقة بين الله ورسوله حيث تذعنون لربوبيته وترتابون في رسوله ، فالنار معدة للعذاب بأشد التفريق لألطف الأجزاء الذي هو معنى الحرق لمن فرق وقطع ما يجب وصله ، أي لما فاتتكم التقوى بداعي العلم فلا تفتكم التقوى{[1245]} بسائق{[1246]} الموجع{[1247]} المخصوص المناسب عذابه لفعلكم ، فإنها نار غذاؤها واشتعالها بالكون {[1248]}كله أنهاه{[1249]} تركيباً وهم الناس الملائمون لمارجها{[1250]} بالنوس وأطرفه{[1251]} وأجمده وهي{[1252]} الحجارة فهي تسع ما بين ذلك من باب الأولى ، وفيه{[1253]} إشعار بمُنتها وقوتها وأنها بحكم هذا الوسع للالتصاق{[1254]} بخلق{[1255]} يعني وليست كنار الدنيا التي غذاؤها من ضعيف الموالد وهو النبات ولا تفعل{[1256]} في الطرفين إلا بواسطة وكان غذاؤها ووقودها النبات إذ كانت متقدحة{[1257]} منه كما قال :
{ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً{[1258]} }[ يس : 80 ] وتقول{[1259]} العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ{[1260]} والعفار{[1261]} ، وذلك على حكم ما تحقق أن الغذاء للشيء مما منه أصل كونه وقال : { وقودها } لأن{[1262]} النار أشد فعلها في وقودها لأن بتوسطه تفعل فيما سواه ، فإذا كان وقودها محرقها كانت فيه أشد{[1263]} عملاً لتقويها{[1264]}به عليه ، ويفهم اعتبارها بنار الدنيا انقداحها{[1265]} من أعمال المجزيين بها ومن كونهم ، فهم منها مخلوقون وبها مغتذون إلا أنها منطفية الظاهر في الدنيا متأججة في يوم الجزاء ومثال كل مجزي منها بمقدار ما في كونه من جوهرها .
قلت : ويؤيده { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين{[1266]} }[ الإسراء : 27 ] أي في أن الغالب عليهم العنصر الناري المفسد لما قاله : {[1267]}{ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً{[1268]} } [ مريم : 27 ] قال : وفي ذكر الحجارة إفهام عموم البعث والجزاء لما حوته السماء والأرض وأن كل شيء ليس الثقلين فقط يعمه القسم بين الجنة والنار كما عمه القسم بين الخبيث والطيب ؛ وإنما اقتصر في مبدأ عقيدة الإيمان على الإيمان ببعث الثقلين وجزائهم تيسيراً{[1269]} واستفتاحاً ، وما سوى ذلك فمن زيادة الإيمان وتكامله كما قال : ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم{[1270]} }[ الفتح : 4 ] ومن العلماء من وقف بإيمانه على بعث الثقلين وجزائهما ، حتى أن منهم من ينكر جزاء ما سواهما ويتكلف تأويل مثل قوله عليه السلام : " يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء " انتهى .
ولما تم ذلك وكان { الناس } عاماً للكافر وغيره كان كأنه قيل : هذه النار لمن ؟ فقيل{[1271]} : { أعدت } أي هيئت وأكملت قبل زمن استعمالها {[1272]}وتقاد {[1273]}للمجهول لأن المشتكي{[1274]} إذا جهل فاعله كان أنكأ{[1275]} { للكافرين } فبين أنها موجودة مهيأة لهم{[1276]} ولكل من اتصف بوصفهم وهو ستر ما ظهر من آيات الله . قال الحرالي : وهي عدة الملك الديان لهم بمنزلة سيف الملك من ملوك الدنيا - انتهى .