المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )

وقوله تعالى : { فإن لم تفعلوا } ، دخلت «إن » على { لم } لأن { لم تفعلوا } معناه تركتم الفعل ، ف «إن » لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال ، و { تفعلوا } جزم ب { لم } ، وجزمت ب { لم } لأنها أشبهت «لا » في التبرية في أنهما ينفيان ، فكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل . ( {[342]} )

وقوله : { ولن تفعلوا } نصبت { لن } ، ومن العرب من تجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات : [ البسيط ]

فلن أعرّضْ أبيت اللعن بالصفد( {[343]} ) . . . وفي الحديث في منامة عبد الله بن عمر فقيل لي : «لن ترعْ »( {[344]} ) هذا على تلك اللغة ، وفي قوله : { لن تفعلوا } إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها .

وقوله تعالى : { فاتقوا النار } ، أمر بالإيمان وطاعة الله خرج في هذه الألفاظ المحذرة . ( {[345]} )

وقرأ الجمهور : «وَقودها » بفتح الواو( {[346]} ) . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة : «وقودها » بضم الواو في كل القرآن ، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج ، وبفتح الواو هو الحطب وبضمها هو المصدر ، وقد حكيا جميعاً في الحطب وقد حكيا في المصدر .

قال ابن جني : «من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو وقودها ، لأن الوقود بالضم مصدر ، وليس بالناس ، وقد جاء عنهم الوقود بالفتح في المصدر ، ومثله ولعت به » لوعاً «بفتح الواو ، وكله شاذ ، والباب هو الضم » .

وقوله : { الناس } عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء بدخولها .

وروي عن ابن مسعود في { الحجارة } أنها حجارة الكبريت( {[347]} ) وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدخان ، وشدة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت .

وفي قوله تعالى : { أعدت }( {[348]} ) رد على من قال : إن النار لم تخلق حتى الآن ، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد( {[349]} ) البلوطي الأندلسي ، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة ، وأن غيرها هي للعصاة . ( {[350]} )

وقال الجمهور : بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة ، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد ، إذ فعلهم كفر ، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم ، ، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم . ( {[351]} )

وقرأ ابن أبي عبلة : «أَعدَّها الله للكافرين » .


[342]:- أي: والعامل لا يدخل في العامل، ولكن لما كانت (إن) لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال سهل دخولها على (لم)، والمعنى فإن تركتم الفعل إلخ. وقد جاء في (البحر المحيط)(1-160): "وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل (لم) الجزم: قال: وجزمت (لم)..." إلخ كلام ابن عطية هنا.
[343]:- وفي بعض الروايات الأخرى: (فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد) وأول البيت: هذا الثناء فإن تسمع به حسنا و(أبيت اللعن) نوع من التحية- فكأنه قال: أبيت أن تفعل ما تلعن عليه من الأمور، و(الصفد): العطاء. والنابغة هو زياد بن معاوية.
[344]:- أخرجه الإمام البخاري في باب "فضل قيام الليل"- وفي مناقب ابن عمر- وأخرجه الإمام مسلم كذلك في فضائل ابن عمر، وروي الحديث بلم وبلن مجزوما على لغة قليلة حكاها الكسائي.
[345]:- اتقاء النار: كناية عن ترك العناد، وترك العناد قد يؤدي إلى الإيمان بالله والرسول، والطاعة لله والرسول، أي إذا استبنتم العجز فآمنوا وأطيعوا اتقاء للنار التي وقودها الناس والحجارة، والكناية باب من أبواب البلاغة، وفائدتها الإيجاز الذي هو حلية القرآن.
[346]:- أي: (الواو) الأولى في (وقود).
[347]:- أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال: إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله [وقودها الناس والحجارة] حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله. وأخرج ابن جرير أيضا عن عمرو ابن ميمون مثله. وأخرج الإمام أحمد والإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم). قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: (فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها)، انتهى.
[348]:- أي هُيِّئت، فهي مخلوقة من الآن، وكذلك الجنة، وهذا هو رأي أهل السنة والجماعة، لأن الإعداد لا يكون إلا للموجود.
[349]:- هو منذر بن سعيد القاضي الأندلسي المعروف بالبلوطي من موضع يعرف بفحص البلوط من نواحي قرطبة، يكنى أبا الحكم. كان عالما بالقرآن، وحافظا لما قالت العلماء في تفسيره، وأحكامه، ووجوه حلاله وحرامه، كثير التلاوة له، حاضر الشاهد لآياته، وله فيه كتب منها كتاب "الأحكام"، وكتاب "الناسخ والمنسوخ" قال عنه أبو حيان التوحيدي في تفسيره: "البحر المحيط"1/108-109-: "وكان معتزليا في أكثر الأصول، ظاهرا في الفروع، وسرى إليه ذلك من قول كثير من المعتزلة-، ولي قضاء الجماعة بقرطبة سنة 338هـ وتوفي سنة 355هـ. وكان خطيبا بليغا، وشاعرا محسنا. انظر ترجمته في "نفح الطيب".
[350]:- قال جار الله الزمخشري: فإن قلت: أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة، أم هي نيران شتى، منها نار بهذه الصفات؟ قلت: بل هي نيران شتى منها نار توقد بالناس والحجارة يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى: [قوا أنفسكم وأهليكم نارا]، [فأنذرتكم نارا تلظى]، ولعل لكفار الجن وشياطينهم نار وقودها الشياطين، كما أن لكفرة الإنس نار وقودها هم، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب.
[351]:- من ذلك قوله تعالى: [وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا].