مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ} (131)

قوله تعالى :{ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى . وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ، ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ، قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى }

اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله عليه السلام على ما يقولون ، وأمره بأن يعدل إلى التسبيح أتبع ذلك بنهيه عن مد عينيه إلى ما متع به القوم فقال تعالى : { ولا تمدن عينيك } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { ولا تمدن عينيك } وجهان : أحدهما : المراد منه نظر العين وهؤلاء قالوا : مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه إعجابا به كما فعل نظارة قارون حيث قالوا : { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم } حتى واجههم أولوا العلم والإيمان بقولهم : { ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا } وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك كما إذا نظر الإنسان إلى شيء مرة ثم غض ، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع قيل : { ولا تمدن عينيك } أي لا تفعل ما أنت معتاد له . ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغير ذلك لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة ، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمقوى لهم على اتخاذها . القول الثاني : قال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله : { ولا تمدن عينيك } ليس هو النظر ، بل هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا .

المسألة الثانية : قال أبو رافع : «نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف ، فقال : والله لا أفعل ذلك إلا برهن فأخبرته بقوله فأمرني أن أذهب بدرعه إليه فنزل قوله تعالى : { ولا تمدن عينيك } » وقال عليه السلام : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم " وقال أبو الدرداء : الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له . وعن الحسن : لولا حمق الناس لخربت الدنيا . وعن عيسى ابن مريم عليه السلام قال : لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم لها عبيدا ، وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين يتلو هذه الآية ، وقال الصلاة يرحمكم الله ، أما قوله عز وجل : { إلى ما متعنا به } [ أي ] ألذذنا به ، والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح ، يقال أمتعه إمتاعا ومتعه تمتيعا والتفعيل يقتضي التكثير ، أما قوله : { أزواجا منهم } أي أشكالا وأشباها من الكفار وهي من المزاوجة بين الأشياء وهي المشاكلة ، وذلك لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أصنافا منهم ، وقال الكلبي والزجاج : رجالا منهم ، أما قوله : { زهرة الحياة الدنيا } ففي انتصابه أربعة أوجه .

أحدها : على الذم وهو النصب على الاختصاص أو على تضمين متعنا معنى أعطينا وكونه مفعولا ثانيا له أو على إبداله من محل الجار والمجرور أو على إبداله من أزواجا على تقدير ذوي ، فإن قيل : ما معنى الزهرة فيمن حرك قلنا معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة كما جاء في الجهرة . قرئ : أرنا الله جهرة ، وأن يكون جمع زاهر وصفا لهم بأنهم زهرة هذه الدنيا لصفاء ألوانهم وتهلل وجوههم بخلاف ما عليه الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب ، أما قوله : { لنفتنهم فيه } فذكروا فيه وجوها . أحدها : لنعذبهم به كقوله : { فلا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } ، وثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إضلالا مني لهم . وثالثها : قال الكلبي ومقاتل تشديدا في التكليف عليهم لأن الإعراض عن الدنيا عند حضورها والإقبال إلى الله أشد من ذلك عند عدم حضورها ولذلك كان رجوع الفقراء إلى خدمة الله تعالى والتضرع إليه أكثر من تضرع الأغنياء ، ولأن على من أوتي الدنيا ضروبا من التكليف لولاها لما لزمتهم تلك التكاليف ولأن القادر على المعاصي يكون الاجتناب عن المعاصي أشق عليه من العاجز الفقير ، فمن هذه الجهات تكون الزيادة في الدنيا تشديدا في التكليف ثم قال لرسوله : { ورزق ربك خير وأبقى } والأظهر أن المراد أن مطلوبك الذي تجده من الثواب خير من مطلوبهم وأبقى ، لأنه يدوم ولا ينقطع وليس كذلك حال ما أوتوه من من الدنيا ، ويحتمل أن يكون المراد ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة خير لك من حيث العاقبة وأبقى ، فذكر الرزق في الدنيا ووصفه بحسن عاقبته إذا رضي به وصبر عليه ، ويحتمل أن يكون المراد ما أعطى من النبوة والدرجات الرفيعة ،